أحمد يونس
أثارت فتوى الشيخ علي فخر، أمين لجنة الفتوى بدار الإفتاء المصرية، بعدم اعتبار المصحف المُترجم قرآناً، الكثير من الجدل في أوساط الباحثين في الفلسفة والعلوم الإسلامية. فقد قال عبر "قناة الناس" إن ترجمات القرآن هي محاولة لتبسيط معانيه، لكن لا يجوز قراءة تلك الترجمات على أنها قرآن بذاته.
يتجدد الجدل حول ترجمة القرآن بين حين وآخر، وفتح حديث أمين لجنة الفتوى الباب مجدداً أمام تساؤلات فلسفية انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي، حول إشكالات ترجمة النص المقدس، وما إذا كان الله المطلق، يجوز له أن يتحدث بلغة البشر المحدودة، باعتبار القرآن كلام الله وموجهاً للبشرية جمعاء.
الشيخ الأزهري قال في حديثه إن القرآن نزل باللغة العربية، وبالتالي فالقرآن هو اللفظ العربي المعجز الذي نزل على محمد عن طريق الوحي، وإن ترجمته ليس لها أحكام القرآن الذي هو اللفظ العربي المعجز، وعلى هذا فترجمة القرآن وطباعته وبيعه على هذه الهيئة جائز لكنه لا يعتبر قرآناً بل مجرد تبسيط لمعاني القرآن.
ترجمة القرآن عند قدامى المسلمين
أجمع معظم الفقهاء والتراثيين الإسلاميين القدامى على عدم جواز ترجمة القرآن إلى لغة أخرى، وأنه إذا ترجم فسيكون لمحاولة تبسيط المفاهيم والمعاني القرآنية الإسلامية، ولا يعتبر قرآناً بذاته إذا كان في وعاء غير اللغة العربية، بحسب ما أوضح أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية الدكتور أشرف منصور.
ويقول جمال عمر، الباحث في التراث الإسلامي، إنه بالرغم من اتفاق معظم الأئمة القدامى على عدم جواز ترجمة القرآن إلا أن هناك بعض المخالفين من كبار الأئمة أيضاً، فالإمام مالك مثلاً أفتى بوجوب كتابة المصحف بالرسم المعتمد حينها.
وعلى أساس تلك الفتوى، كُتب المصحف المعروف بـ"مصحف القاهرة" الذي صدر عام 1924 وصار الأساس لجميع النسخ الموجودة حالياً بقواعد الإملاء القديمة، لكن بالرسم الحديث لأن الخط العثماني القديم لم يكن به نقاط أو تشكيل للحروف.
ولكن الإمام أبا حنيفة خالفه في ذلك حين تحدث عن جواز الصلاة بقرآن مترجم، وجواز الاكتفاء بقراءة الإمام للقرآن بالعربية إذا كان المأموم لا يعرف العربية لأن الإمام في هذه الحالة ينوب عنه، أضاف عمر.
كما يجوز للمأموم قراءة القرآن بغير العربية، وتصح الصلاة في تلك الحالة حسب قول أبي حنيفة، لكنها لا تصح عند الأئمة الثلاثة الآخرين، الشافعي وابن حنبل ومالك.
بين الشعر والنثر
ظهرت مدرستان رئيسيتان في الترجمة، قال أشرف منصور لرصيف22، وهما تختلفان في نظرتهما للقرآن: "المدرسة الأولى تنظر للقرآن على أنه نص شعري وبالتالي تجب ترجمته شعراً كنص موزون ومقفى في محاولة لمحاكاة النص الأصلي، فنحن لا يمكننا إنكار شعريّة النص القرآني لأن به الكثير من السمات الشعريّة بالفعل؛ أما المدرسة الأخرى فتترجم القرآن كنص نثري عادي ويقرأ ككتاب مثل أي كتاب آخر".
ويفضّل منصور المدرسة الثانية التي تترجم القرآن نثراً وتوضح للقارئ أنها ترجمة بتصرف، إذ إن النص الأصلي صعب الترجمة وبه استخدامات خاصة للغة.
النسخ المترجمة مهمة جداً ويجب العمل على زيادتها ونشرها، يقول منصور، كما يرى أن هناك دراسات عديدة للقرآن المترجم للغة الإنكليزية، كانت جيدة بحق، لكنها تختلف عن دراسات المستشرقين أو المستعربين ممن درسوا القرآن وتعلموا العربية.
النص المقدس وإشكاليات الترجمة
يواجه القرآن باعتباره نصاً مقدساً إشكاليات عديدة عند ترجمته، في حين أن الإنجيل كنص مسيحي مقدس لا يواجه مثل تلك الإشكاليات. ويرجع منصور ذلك إلى أن الإنجيل لم ينزل بأيّة لغة في الأساس، فلغة المسيح كانت الآرامية، لكن الأناجيل الأربعة كُتبت باللغة اليونانية، ثم تُرجمت إلى اللغات الأخرى.
ويضيف أستاذ الفلسفة: "مَن كتبوا الإنجيل كانوا يسردون روايتهم للأحداث باللغة اليونانية، في حين أن القرآن يواجه إشكاليات أكبر عند ترجمته لأنه نزل في وعاء اللغة العربية نفسها، وبالتالي اعتبر الفقهاء المسلمون أنه يجب أن يُفهم حصراً باللغة التي نزل بها، وجميع آراء التراثيين القدامى تمحورت حول عدم جواز ترجمته، وفي حال ترجمته فإنه لا يكون قرآناً، بل محاولة لشرح معاني القرآن".
10% من المسلمين يقرأون العربية
ولكن الإشكالية واسعة جداً، برأي جمال عمر. فتعداد المسلمين يصل إلى 1.5 مليار نسمة، و80% منهم لا يتحدثون العربية من الأساس، و20% منهم عرب نصفهم على الأقل لا يجيدون القراءة والكتابة.
"إذاً نحن بصدد وجود مسلم واحد فقط من بين كل 10 مسلمين في العالم يستطيع أن يقرأ القرآن بالعربية"، يقول مستنتجاً أنه قبل أن نسأل عن وجوب ترجمة القرآن لغير المسلمين يجب أن نعترف بأنه يُترجم للمسلمين أنفسهم حتى يستطيعوا الصلاة وأداء العبادات بهذه النصوص المترجمة.
القرآن "محفوظ في الصدور"
كان تعامل المسلمين مع القرآن تعاملاً صوتياً بالأساس، برأي عمر، فعملية حفظه كانت تتم عن طريق السماع والتواتر في الكتاتيب حتى بعد ظهور المطبعة، إلى أن ظهر المصحف في شكله الحديث في عام 1924 وهو المصحف المعروف بمصحف "القاهرة".
ومصحف القاهرة أجازته لجنة من نظارة المعارف المصرية خلال سنوات عمل امتدت بين عامي 1914 و1918، وهذه النسخة هي التي سادت العالم الآن وكُتبت برواية حفص عن عاصم، وساعد على انتشار هذه القراءة طبع مصحف "السعودية" عن طريق مركز الملك فهد الذي يطبع 10 ملايين نسخة كل عام منذ ظهور مصحف السعودية برسمه الحالي في الثمانينيات من القرن العشرين.
وظهرت أصوات معارضة لطباعة المصحف في ذلك الوقت، وثارت حينها أسئلة من قبيل، كيف لكلام الله أن يُحشر داخل ماكينات الطباعة، وكيف يُكتب بأحبار "زفرة" ويعرض للتلف أو الهلاك بحفظه في أوراق مطبوعة وإتاحته للعامة.
وأدخلت لجنة أخرى تعديلات على رسم المصحف في مصر، وشكّلت برئاسة الشيخ عبد الفتاح القاضي، إلى أن خرجت جهودها في العام 1952 واختلفت عن اللجنة التي رسمت مصحف القاهرة في 800 موضع، والرسم الجديد ينحو أكثر نحو قواعد الإملاء القديمة، ومن هذه النسخة تم إطلاق مصحف الأردن ومصحف السعودية في الثمانينات، كما أوضح عمر.
وينفي عمر ما يُقال على لسان بعض المستشرقين من أن مخطوطات القرآن تم تداولها وتناقلها عبر التاريخ، إذ أن المخطوط كان وزنه يصل إلى 80 كيلوغراماً وكان عبارة عن أوراق جلد يُكتب عليها من الجانبين، في حين أننا نجد أن انتقال القرآن كان شفوياً طوال التاريخ حتى في العصر الحديث، فالتواصل الصوتي كان هو الأساس المعتمد.
أول مصحف مترجم
"أول مصحف مطبوع ومترجم ظهر في الفاتيكان في نهاية القرن الـ15 وبدايات القرن الـ16 مع ظهور المطبعة"، يشير عمر، ويؤكد أن ترجمة القرآن كانت عملية هامة جداً حينها إذ كان يُنظر للإسلام على أنه خطر يهدد أوروبا، فكان لا بد من ترجمة كتابه حتى يمكن فهمه وفهم المنطلقات الفكرية التي ينطلق منها المسلمون.
ولفت إلى أن الترجمات القرآنية كانت موجودة طوال الوقت، حتى المنقولة عن المخطوطات، خاصة بعد حروب الفرنجة أو الحروب الصليبية، لكن الطباعة عملت على سرعة الانتشار، فخرجت النصوص من الدوائر الضيقة إلى عموم الناس مع مرور الوقت.
المترجم خائن طوال الوقت
وعن إشكالية الترجمة بحد ذاتها، ومدى دقة النص المترجم قياساً إلى النص الأصلي، يقول عمر إن المترجم "خائن" طوال الوقت سواء كان النص مقدساً أم غير مقدس.
فمسرحيات شكسبير المترجمة للعربية ليست مثل النص الإنكليزي تماماً، وما يفعله المُترجم طوال الوقت هو محاولة تقريب المعاني من لغة إلى أخرى عن طريق وسيط هو اللغة، وبالتالي لا يمكن التحجج بأن القرآن لن تكون معانيه منضبطة إذا تمت ترجمته للغة أخرى، لأن هذا يحدث دائماً مع أي نص مُترجم.
المواجهة مع الغرب
يطرح الباحث جمال عمر رؤية أشمل حول علاقة ترجمة القرآن ودراسة المعارف الإسلامية عموماً، بالمواجهة مع الغرب، فتعدد وجهات نظر المسلمين بخصوص الترجمة، سواء بإجازتها أو باعتبارها غير جائزة وتنتقص من المعاني الأصلية للنص، أو حتى الرأي الوسطي الأشعري في مصر الذي يجيز الترجمة، لكنه لا يعتبر النص المترجم قرآناً، بل مجرد تقريب لمعاني القرآن، كل هذا له علاقة بفكرة المواجهة مع الغرب خاصة في القرون الثلاثة الأخيرة.
ويوضح عمر: "يُقال إن الاستعمار كان له جناح معرفي هو الاستشراق، ودائماً ما يُثار التساؤل حول الدراسات الاستشراقية: هل ترتبط بالاستعمار أم هي عمل علمي معرفي بحت لا يهدف إلى فهم الشعوب لتسهيل السيطرة عليها".
ويضيف: "في أوقات الأزمات والضعف ينظر المسلمون إلى تلك الدراسات على أنها مؤامراتية تهدف لفهم وتفكيك الثقافة الإسلامية للسيطرة على الشعوب الإسلامية، فيتشدد فقهاء المسلمين حينها في إجازة الترجمة، لأننا نحتمي بالتراث في أوقات الضعف، فيزداد استحكام الأحكام مع حالة الضعف، وهو ما ازدادت وتيرته بعد أحداث 11 سبتمبر".
ولكن في أوقات القوة والازدهار مثل عصر محمد علي، يتابع، "كان يُنظر لتلك الدراسات والترجمات على أنها تبادل حضاري وثقافي هام بين الشرق والغرب، ويسهم في انتشار الإسلام".
قرآن أم لا؟
عن جواز أداء العبادات بقرآن مترجم، واعتبار المصحف المترجم قرآناً، يقول عمر إن المصحف المترجم يعتبر قرآناً بالفعل بحكم الواقع.
ويوضح لرصيف22 أن دولة الهند بها ما يقرب من 160 مليون مسلم يقرأون القرآن بغير العربية ويؤدون صلواتهم بلغتهم.
في المقابل يقول الباحث الإسلامي الأزهري هاني محمود إن "النص المترجم هو مجرد تفسير لمعاني القرآن وليس القرآن ذاته، ومَن أراد أن يدرس القرآن نفسه فعليه أن يتعلم العربية".
ويعتقد هاني أن ترجمة القرآن جائزة بشرطين، الأول هو كتابة المصطلحات الإسلامية بحروف إنكليزية ومن ثم شرحها، والثاني هو تحرّي الدقة وصدور الترجمة عن لجنة مؤلفة من متخصصين في كل فرع من فروع علوم الإسلام، ومنها الفقه واللغة والفلسفة الإسلامية، تكون ترجمتها محكمة، ولا تصدر عن مترجم واحد فقط.
وأشار محمود إلى أن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية التابع للأزهر، أصدر عدة ترجمات بالفعل، إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية، لكنها ترجمات لتفسير القرآن، الذي يسمي "التفسير المُنتخب" وتكون الترجمة عبارة عن ذكر رقم الآية متبوعاً بشرحها، وهكذا في باقي الآيات، فهو ترجمة للتفسير وليس ترجمة للنص القرآني ذاته.