رضا غنيم
لم يختر الشاب المصري أحمد صفوت الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين. صدف أن وُلد في أسرة منتمية إلى الجماعة، فوجد نفسه إخوانياً يدور في فلك مجتمع إخواني متميّز عن المجتمع المصري الكبير، ويجلس أحياناً في شعبته ليتحدث عن حلم الخلافة. كان كل ما يحيط به إخوانياً.
لفترة طويلة، كانت حياة أحمد، خريج كلية الطب، تدور حول تنظيم مسيرات في المدرسة ثم في الجامعة، وحول توليه مسؤولية تنظيم أعراس "الإخوة" في الجماعة، كونه كان مسؤولاً في اللجنة الفنية وفرقة الأفراح الخاصة بالجماعة، إلى أن بدأ يصطدم بأسئلة أدت إلى تحول فكري كبير لديه ودفعته إلى صفوف اليسار.
ما ميّز أحمد المولود في أسرة إخوانية تتكون من ستة أفراد عن زملائه هو أنه لم يفقد الصلة بشكل كامل بالعالم الخارجي، بسبب عدم انتماء أسرة والدته إلى الإخوان.
"الإخوان منغلقون على أنفسهم. الجماعة بمثابة مجتمع منعزل عن العالم. وهذا سبب بقاء البعض في الجماعة، لإحساسهم بالقوة أو الحماية"، قال لرصيف22 وأضاف: "يعني مثلاً شراء الأكل يتم من بقالة لإخواني والأدوية من صيدلية لإخواني، والأفراح تُقام في قاعات إخوانية. وهذا يمنح إحساساً بالحماية للأعضاء".
طبيعة أسرة والدة أحمد هي ما أخرجه نسبياً من هذه الدائرة المقفلة. "حينما كنت أسافر لزيارة عائلة والدتي في صعيد مصر، كنت هناك أستمع إلى الأغاني وأشاهد التلفزيون"، يقول.
من قبيل الصدفة أيضاً، كان أحد أبرز الكتاب الإسلاميين سبباً في إثارة أسئلة لدى أحمد حثته على التعرف على أفكار أخرى. قرأ للكاتب الإسلامي أنور الجندي، الذي دافع في كتاباته بشراسة عن الدين الإسلامي وهاجم العلمانيين ووصفهم بالماسونيين. وعبره تعرّف على كتاب آخرين مثل خالد محمد خالد، وعبد الوهاب المسيري.
يقول: "أنور الجندي شخص شتم كل الناس، ومن خلال كتاباته تعرّفت على شخصيات قرأت لها، مثل خالد محمد خالد، وأدونيس، وخلال القراءة، دارت في ذهني أسئلة: ما الذي يميّز الجماعة عن السلفيين؟ لماذا نعمل في السياسة؟ لماذا أضيع وقتي في صفوف الإخوان؟".
تحوّل أحمد الفكري اتخذ شكلاً مركّباً. لم تكن هناك لحظة تنوير بعينها. التحوّل جاء تدريجياً. صدمه كتاب محمد الغزالي بعنوان "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث". وعن ذلك يقول: "الكتاب طرح لدي تساؤلات تتعلق بالدين نفسه. كان ذلك عام 2005. لكن كان الخوف مصاحباً لتلك التساؤلات".
ويضيف الشاب الذي كتب مقالات في مواقع وصحف مصرية عدة: "تعرّفت بعد ذلك على كتب نصر حامد أبو زيد، وهذه كانت مرحلة أكثر جرأة أتت بعد قراءة مؤلفات للغزالي، وحسن حنفي".
وأشار إلى أن عبد الوهاب المسيري فتح له الطريق أمام أفكار فلسفية، والتعرف على فلاسفة الغرب، مثل كارل ماركس وماكس فيبر.
ومن بين الأسباب التي ساهمت في التحوّل الفكري لدى الشاب اليساري سبب اجتماعي يسمّيه "الانبساط". يقول: "كنت عايز أنبسط، لا يوجد في الالتزام الديني أي انبساط، هناك تحسس ضد الفرح. يمكن تلخيص رحلتي بأنها رحلة البحث عن الانبساط".
يقيم الإخواني السابق حالياً في ألمانيا. يقرأ في الفكر والفلسفة، ويرفض أفكار الإسلاميين الدينية والسياسية، ويكتب من وقت إلى آخر، بمنظور يساري، مقالات يشتبك فيها مع الواقع السياسي المصري.
أحمد سمير... من السلفية إلى اللاأدرية
في القاهرة، تربى أحمد سمير، مواليد 1991، على القرآن الكريم منذ الطفولة وحفظ أجزاءً منه. كان والده المُتديّن يصطحبه إلى أحد المشايخ. وواصل طريقه إلى أن وجد نفسه سلفياً ثم إخوانياً ثم قرآنياً، وفي النهاية صار علمانياً.
كان يحضر دروس الفقه والسنّة مع السلفيين في المساجد. وبحلول عام 2005، حفظ القرآن كاملاً. واستمرّ في صفوف السلفيين، يجلس معهم، ويناقشهم في الأمور الفقهية حتى عام 2007.
"في هذا العام شعرت بأن السلفيين بعيدون تماماً عن روح العصر، يعيشون خارج التاريخ تقريباً. تركتهم وذهبت إلى الإخوان المسلمين، مكثت في الجماعة فترة ليست كبيرة، ربما لم تتجاوز العام، وشعرت أيضاً بأنهم يحيون في عصر آخر"، قال لرصيف22.
بعد الفترة الإخوانية، استقر خريج كلية الآداب فترة مع القرآنيين والجماعات التي تتجاوز السُنّة، وتعمل على تفسير القرآن والدين الإسلامي تفسيراً عصرياً. ولكن حتى هؤلاء لم يقنعوه لفترة طويلة.
عام 2009، راح الشاب المصري يقرأ في مجالات مختلفة كالفلسفة والفكر وعلم النفس وعلم الاجتماع، وبدأ يشهد تحولاً فكرياً تدريجياً، إلى أن صار علمانياً ولاأدرياً قبل ثورة يناير بعام واحد، وراح يدعو إلى العلمانية في مقالات يكتبها.
"توصلت إلى أنه لا يوجد دين، أسطورة آدم وحواء ليست موجودة، كل دين له تفسيره الخاص لقصة الخلق. لست ملحداً، لكنّي لاأدري. لا أدري إن كان الله موجوداً أم لا"، يقول.
في فترته الإسلامية، كان أحمد يؤمن بضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضرورة منع أي شيء مُخالف للدين. ولكن لاحقاً، اختلف حاله تماماً. يقول: "دلوقتي شايف إن أي شخص له الحرية الكاملة في فعل أي شيء شرط ألا يتسبب في ضرر للآخرين".
خالد البري... من الجماعة الإسلامية إلى الدعوة للتحرر
في صعيد مصر، وتحديداً في مدينة أسيوط، عاش خالد البري ست سنوات في الجماعة الإسلامية، قبل أن ينقلب عليها، ويُخصص عشرات المقالات لمهاجمة الإسلاميين، كونهم "يقودون المجتمعات ضد حركة التاريخ"، بحسب ما قال لرصيف22.
دوّن خالد رحلته في كتاب بعنوان "الدنيا أجمل من الجنة... سيرة أصولي مصري"، سرد فيه وضعه داخل الجماعة، ذاكراً أسباب خروجه منها.
في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، كان البري عضواً ناشطاً داخل الجماعة الإسلامية، بعد سنوات من الاحتكاك بأعضائها في ملاعب كرة القدم والمساجد.
عن علاقته بالإخوان في تلك المرحلة، يقول: "كنت أرى أنهم أصدقاء أحبهم وأتعاطف معهم، وهم يبدون اهتماماً شديداً بي إذا غبت عنهم. كنت مؤمناً بأن هؤلاء قادرون بإخلاصهم وشجاعتهم على الانتصار لهذه الأمة بأسرها وإشاعة العدل والنقاء والمساواة بين الناس".
بجانب علاقات الصداقة مع أعضاء الجماعة، وقع حادث في أكتوبر 1986، أثّر في حياة خالد، وجعله يقترب أكثر من الجماعة، وذلك حينما اقتحمت قوات الأمن مسجد الجمعية الشرعية في أسيوط وقتلت أحد أعضاء الجماعة.
يرى البري أن الحادث قدم له دليلاً على أن الحكومة لا تحترم الإسلام. "تأثرت كثيراً بمنظر أحد الإخوة وهو يحمل عصا ويرفعها عالياً ويصرخ في الفارين من رصاص قوات الأمن: ‘اثبتوا إنه دينكم. دافعوا عن إسلامكم’. وحين عُدت إلى المنزل تذكرت الأفلام التي تحكي عن المسلمين الأوائل وهم يواجهون ظلم الكفار. ونمت باكياً"، روى.
في تلك الفترة، قرأ البري، الذي التحق بكلية الطب في ما بعد، كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب، ثم باقي مؤلفاته، حتى أنه كان أحياناً يُحاكي أسلوبه في الكتابة، وصار ملقباً بين أعضاء الجماعة بـ"سيد قطب الصغير". كما قرأ مؤلفات المفكر الإسلامي محمد قطب، وحفظ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية.
ويقول: "مع تقدمي في الدروس رحت أتوهم أنني لست فرداً عادياً ولا ينبغي أن أكون، بل لا بد أن أرسم لنفسي طريق سيد قطب ومَن هم مثله ليظل اسمي حياً بعد موتي".
حينما التحق بكلية الطب، فقد الحماسة والرغبة في التفوق، على اعتبار أن هذا أمر دنيوي لن يفيده في آخرته، ومهمته الأولى والكبرى إقامة دولة الإسلام القادرة على تحرير أرض الإسلام السليبة في فلسطين والأندلس، وفرض النموذج الإسلامي في العالم كله.
كان الشاب الإسلامي يواجه معارضة داخل أسرته بسبب انضمامه إلى الجماعة الإسلامية، واهتمامه باتجاهات مختلفة غير الطب. "أبي كان معارضاً لاتجاهاتي، ووصلت الخلافات بيننا إلى حد تركي البيت أكثر من مرة"، روى.
ومع صعود الصراع بين الدولة والجماعة الإسلامية في صعيد مصر إلى أشده، قبض على عشرات الإخوانيين بينهم البري. مكث في المعتقل شهرين وهناك بدأ يشهد تحولاً فكرياً تدريجياً.
يقول البري، في كتابه، إنه لا يدري على وجه التحديد كيف تغيّر المسار في التسعينيات. كل ما حدث أنه لم يسر في طريق الجماعة، وعاش حياته الطبيعية، يصلي في البيت، ويشاهد التلفزيون، ويذهب إلى مباريات كرة القدم، إلى أن دخل في قصة حب رومانسية وفشل فيها، ليقرر بعدها البحث عن ذاته.
ويضيف: "نفضت الغبار عن مكتبة الجاهلية أو مكتبة البيت التي لم ألمسها طوال فترة التزامي. أخرجت بعض كتب توفيق الحكيم وبعض روايات نجيب محفوظ، إضافة إلى كتب سياسية. كانت تلك فترة محورية في حياتي. والتحقت بزملاء في الجامعة يعقدون معاً لقاءً أدبياً بينهم يساريون، وتعلمت متعة الشك، الشك في جمال نص الشاعر، وجمال الموروث والكلمة".
أقبل على الحياة في تلك الفترة، وشرب الكحول، ومارس الجنس، كما ترك الطب، ليبدأ القراءة في الفلسفة وعلم الاجتماع، والتحق بالصحافة، وتنقل من مكان إلى آخر، حتى ترأس تحرير أحد المواقع الإلكترونية في مصر. والآن يكتب مقالات يدعو فيها إلى العلمانية.
أسامة درة... من الإخوان إلى العلمانية
تسع سنوات قضاها الشباب أسامة درة بين صفوف الإخوان المسلمين، مخالفاً رغبة والدته. كثيرون من المحيطين به رأوا أن مستقبله انتهى بينما كان هو يفخر بانتمائه إلى الجماعة.
"كنت أُعلن أنّي من الإخوان عندما كانت هذه الكلمة مُرعبة. أحببت الجماعة، وشعرت أني أستمد اعتباري وقيمتي منها"، قال.
كان هذا في بداية الألفية الثالثة. لكن بعد ثورة 25 يناير 2011، انفصل درة عن الجماعة، وصار علمانياً رافضاً خلط الدين بالسياسة، ومتمرداً على جميع القيود الإخوانية. فبرأيه، لم يكن هناك مشروع مجدٍ لا توجد الحرية فيه.
كانت حياة درة، مواليد 1984، داخل الإخوان راكدة. لم يجد معركة يخوضها. كانت الجماعة تضيق ذرعاً بالآراء النقدية.
عام 2010، نشرت صحيفة "الدستور" حواراً معه، تحدث فيه عن أفكاره الإخوانية منتقداً بعضها، وجرى إيقافه، قبل أن يتدخل عبد المنعم أبو الفتوح، القيادي الإخواني السابق، لإطلاق سراحه. لكن بعد ذلك بأقل من عامين، كان خارج الجماعة بإرادته، رافضاً أفكار كل التيارات الإسلامية.
يصف درة في كتابه "من داخل الإخوان يتكلم" حياته داخل التنظيم الإسلامي الأكبر في المنطقة، ويقول: "أنا محروم من النضال، محروم من معركة كبرى تستنفدني، وانتمائي للإخوان لا يسعفني، الجماعة تتجنب الصدامات، فلا يوجد نضال لأمثالي، قليلون في جماعتي هم مَن يعانون ويخوضون معارك مهمة. أنا في قاع الجماعة، والقاع بارد راكد، أنا أتعفن حيث أنا، التلف يتراكم بي".
قرأ درة عشرات المؤلفات، وأصبحت صفحته على فيسبوك نافذة للشباب العلمانيين، وزادت شهرته حينما أثار الجدل بمقالته "التحليق فوق الدين"، التي أخضع فيها بعض المسلمات للفحص.
"قررت أن أعطّل العمل بالإسلام في حياتي كدين، لأن التنافر المعرفي بين بعض تفاصيله وبين ما أظنه الرشاد والعدالة والمنطق وصل عندي حداً لا أستوعبه، وأن أخفّض رتبته إلى مستند ثقافي يملأ فراغات صورة العالم في عقلي وقلبي و يضبط أخلاقي، إلى أن أجد أساساً غيره أو أعيد اعتماده كدينٍ لي".