بقلم صامويل تادرس
أثارت أكشاك الفتوى التي أقامتها الدولة المصرية داخل محطات مترو الأنفاق بالقاهرة كثيرا من الضجة داخل مصر و خارجها. المؤيدون يرون فيها إجابة على فوضى الفتوى بالشارع المصري ودرءا لغلبة فتاوى المتطرفين على عقول البسطاء بينما يراها المعارضون خلطاً للدين بالدولة، ظنوا إن مصر تخلصت منه مع رحيل الإخوان عن السلطة بجانب رفضهم لدور الأزهر الذي يرونه جزءا من المشكلة وليس الحل.
بجانب النقاش المجتمعي حول أكشاك الفتوى أثارت انتباهي تغريدة للسياسي المصري البارز منير فخري عبد النور وردود الفعل عليها. منير سليل عائلة قبطية عريقة لعبت دورا سياسيا هاما على مدى قرن من الزمن من خلال حزب الوفد و قد تبوأ مناصب وزارية عدة بعد الثورة المصرية. في تغريدته الساخرة كتب عبد النور "أعتقد أن أكشاك الفتوى التي وضعت في محطات مترو الأنفاق هي لتأكيد أن مصر دولة مدنية حديثة!! كسفتونا الله يكسفكم!!"
أيد كثيرون منير في تعليقه، لكن ما كان ملفتا للانتباه هو الردود الكثيرة التي ركزت علي ديانة منير عبد النور. الردود تراوحت بين "هذا شأن يخص المسلمين"، "ماتخليك فى دينك ياعم وتسيبنا فى حالنا؟"، "يجب أن تحدد هدفك حماية الدوله الليبراليه أم محاربة الاسلام"، و"أنت مالك يامنير خليك فى دينك ولا أنت ناوي على حرب".
محور هذه التعليقات هو أن ديانة منير عبد النور تجعل تعليقه غير مقبول لأن الشأن هنا إسلامي بحت لا يحق لغير المسلمين التعليق عليه. حين يكون الأمر متعلقا بالإسلام فهو شأن يخص المسلمين وحدهم.
ربما كانت أسهل طريقة للتعامل مع هذه الإشكالية هي مفهوم الدولة والمواطن، المفهوم الغائب عن الدول ذات الأغلبية المتحدثة بالعربية في الشرق الأوسط رغم قرنين من محاولات التحديث. في إطار الدولة الحديثه، ديانة منير لا محل لها من الإعراب. هو مواطن كامل الأهلية ودافع للضرائب و هذا في حد ذاته يعطيه الحق في التحدث في كل ما يخص الدولة. يعطيه الحق في التساؤل عن ماهية هذه الدولة، عن دورها في المجال العام، وعن أوجه إنفاق ضرائبه.
ولكن الإشكالية ها هنا أعمق. لنتجاهل هنا كون منير أو غيره مواطنا مصريا. لنتجاهل للحظة مفهوم الدولة الحديثة و علاقتها بمواطنيها. ردود الفعل التي صاحبت التغريدة تطرح سؤالا أعمق: هل الإسلام هو شأن للمسلمين فقط لا يحق لغيرهم التعليق عليه؟
الإسلام بوصفه دينا هو إطار روحي وفكري يقدم لمعتنقيه منظومة متكاملة لتفسير الكون ونشوئه وعلاقة الإنسان بخالقه، يطلب من أتباعه طقوسا والتزامات معينة في عبادتهم. في هذا الإطار، فشؤون الإسلام تخص المسلمين فقط. لا يعنيني أو غيري كون الاسلام يطلب من أتباعه الصلاة خمس مرات يوميا أو ست، لا يخصني كون الإسلام يقدم تفسيرا لبدء الخليقة يتفق مع ما تقدمه المسيحية أو غيرها أم لا.
ولكن الإسلام، أو غيره من الديانات ليس إطارا روحيا وفكريا فقط. هو أيضا إطار اجتماعي يطلب من معتنقيه سلوكا معينا تجاه غيرهم من البشر، مسلمين أو غير مسلمين. في هذا الإطار، فما يطلبه الإسلام من المؤمنين به يخص غير المسلمين أيضاً. يعنيني كغير مسلم نظرة الإسلام لي. ما هو مفهوم الولاء والبراء وما تفسير علماء الإسلام والمسلمين له؟ ما هو مفهوم أهل الذمة وما هي أوضاعهم في ظل الإسلام؟ ما أحكام إطلاق صفه الكفر علي وماذا يتضمن ذلك؟ كل هذه الأمور تخصني بشكل شخصي لأنها تمس حياتي.
حين يرتبط الأمر بالإسلام، فالأمر ليس متعلقا فقط بالشأن الاجتماعي بل أيضاً بالسياسي. الإسلام ها هنا ليس دينا فقط. الإسلام وأحكامه كانت على مدى أكثر من 14 قرنا من الزمان هي الإطار الحاكم لحياة ملايين من البشر في منطقة الشرق الأوسط، تنظم حياتهم، تحكم علاقاتهم، وتنظم شؤون حكمهم و تعاملاتهم الاقتصادية والقانون المطبق عليهم، مسلمين كانو أم غير مسلمين. حتي في إطار الدولة الحديثة ظل الاسلام في بعض الأحيان حاكما وفي غيرها عاملا هاما في المجال العام. في دولة مثل مصر يمنع المسيحيون من التبني لأن التبني مرفوض في الإسلام، وتطبق أحكام المواريث الإسلامية عليهم رغم أنفهم. بعد قرنين من محاولات التحديث لا يزال السماح ببناء الكنائس محكوما على المستوى غير الرسمي بأحكام فقهية مرت عليها قرون. لازلنا في القرن الحادي والعشرين نتساءل عن جواز ولاية غير المسلم وعن زوال أحكام عقد الذمة. حين يرفض مواطنو محافظة قنا محافظا لكونه مسيحياً فمن حقي ومن حق غيري أن يتساءلوا ويعترضوا. لا يستطيع أحد هنا أن يحتج بأن الأمر متعلق بديانة لا أدين بها، أو "خليك في دينك". السؤال هنا لا يتعلق بديني أو دين غيري. السؤال هنا يتعلق بي أنا شخصيا.