بقلم صامويل تادرس
الوجود المسيحي في الشرق الأوسط يواجه خطر الزوال. ليس في الأمر مبالغة. بالتأكيد لن يرحّل أو يقتل الجميع، ليس هذا ما نتحدث عنه. سيبقى هناك مسيحيون في المشرق. ما يزال هناك بضعة آلاف من المسيحيين في تركيا، لكن المسيحية نفسها انتهت هناك. ما نتحدث عنه إذا هو انتهاء الوجود المسيحي كوجود فعال ومؤثر، انتهاء تراث ممتد منذ ألفي عام، انتهاء هوية برزت وتشكلت في الشرق الأوسط.
ارتبطت المسيحية بالشرق الأوسط منذ نشأتها. في أنطاكية سُموا مسيحيين للمرة الأولى. ليس الأمر متعلقا فقط بالدور الذي لعبه الرعيل الأول من رجال يهود وغيرهم من المنطقة في نشر المسيحية في أرجاء الإمبراطورية الرومانية. ظل مسيحيو المشرق يلعبون دوراً هاماً على مدى قرون. يحفظ التاريخ المسيحي أسماءهم ولو نسيتها المنطقة. لا يدرك أهل المشرق اليوم ما قام به آباؤهم، أو لعلهم يخجلون. أربعة من الكراسي الخمسة الأهم في مسيحية القرون الأولى بالمشرق: الإسكندرية، القسطنطينية، أنطاكية، والقدس. في عنابة بالجزائر كتب أوغسطينوس كتابه الأشهر مدينة الله، في كبادوكيا برز باسيليوس و أخوه غريغوريوس. مصر لعبت دورا محوريا في القرون الأولى. في الإسكندرية تشكلت مدرسة لاهوتية بقيادة أوريجانوس، ووقف بابا الإسكندرية إثناسيوس أمام العالم مدافعاً عن العقيدة. في صحاري مصر ولدت الرهبنة على يدي أنطونيوس ومقاريوس.
هذا كان في الماضي. اليوم المسيحية في الشرق الأوسط تواجه تحدي الوجود. الواقع المؤلم يدفع إلى التساؤل؟ هل هناك مستقبل للمسيحيين في الشرق الأوسط؟ السؤال مطروح منذ فترة. ضربت داعش الضربة الأخيرة لكن سبقتها ضربات عدة. الإسلاميون يتحملون جزءا كبيرا من المسؤولية، لكنهم ليسوا وحدهم. عاش المسيحيون قرونا طويلة كغيرهم من الأقليات كأهل ذمة. رعايا وليسوا مواطنين. حلم الكثيرون بالدولة الحديثة. جاء الحلم كابوساً. الدولة القومية نظرت لهم بعين الشك. في الشرق الأوسط الهوية مثل القبعة، لا يستطيع المرء أن يلبس أكثر من قبعة. تحت إطار القومية العربية حاولت الأنظمة المختلفة القضاء على هويتهم. منظرو العروبة نظروا إلى الهويات الآشورية، السريانية والقبطية كمصدر تهديد.
النتيجة الآن مرعبة. في العراق هبطت أعداد المسيحيين سريعاً بعد الغزو الأميركي. ما تبقى كادت تقضي عليه داعش. في سورية تستعر نيران الحرب الأهلية مهددة الوجود المسيحي. في مصر شهدت الشهور الأخيرة مقتل أكثر من مئة قبطي على يدي تنظيم الدولة. يأتي هذا بعد أكبر تدمير للكنائس المصرية منذ القرن الرابع عشر على يدي مؤيدي الإخوان المسلمين في أغسطس 2013. لم يعد هناك وجود للدولة اللبنانية. حزب الله هناك يحكم. في مهد المسيح كادت المسيحية أن تختفي. المسيحية تواجه خطر الزوال من المشرق.
الأزمة تستدعي حلولاً.
السؤال إذاً: ما هي البدائل المطروحة أمامهم؟
يظن البعض أن الأنظمة الدكتاتورية يمكنها أن تحميهم. في سورية خطر التنظيمات الجهادية يدفع الكثيرين، من مسيحيين وغيرهم إلى الارتماء في حضن الأسد. يقدم الأسد نفسه حاميا للوجود المسيحي. الأمر أشبه بالتراجيديا الإغريقية. يستجير المسيحيون من الرمضاء بالنار. لم يكن حزب البعث يوماً معنياً بالأقليات. أيديولوجية الحزب قامت على نفي الآخر. قام الحزب علي مدى تاريخه في سورية والعراق بمحاولة فرض العروبة على السريان والآشوريين. في لبنان دماء سياسيين ومثقفين مسيحيين سالت على يدي بشار وأبيه.
يظن البعض الآخر أن في تحالف الأقليات حماية. إذا كانت الأغلبية السنية تمثل الخطر الأكبر، فالحل يكمن في تحالف مسيحي شيعي. في لبنان وصل عون إلى الرئاسة بفضل حزب الله. لكن النظرية أقرب إلى الهزل. الحقيقة أن مشروع حزب الله بطبيعته معاد للوجود المسيحي. قد يستغلهم في معركته مع السنة، لكنه بالتأكيد لا ينظر إليهم كمساويين. المتوهمون بالحل الإيراني لهم في واقع المسيحية في إيران عبرة. لإيران مشروع للهيمنة على المنطقة، ومشروعها بطبيعته معاد للتنوع.
البعض الآخر يرى في روسيا منقذاً. هذا الوهم قديم. في صراعها مع الإمبراطورية العثمانية قدمت روسيا القيصرية نفسها حامية للمسيحيين وخاصةً الأرثوذكس منهم. في الواقع لم تحم أحدا. بوتين يحاول تكرار الماضي. الكنيسة الروسية تحاول أن تسيطر على الكنائس الأرثوذكسية في الشرق الأوسط. تثير النعرات ضد بطريركية القسطنطينية. لكن روسيا لا تملك حلاً. روسيا دولة من الدرجة الثانية تعاني من مشاكل مزمنة. لا تستطيع روسيا أن تحمي أحداً.
يوجد أيضاً من لا يزال يحلم بالحماية الغربية. فرنسا ظلت طويلاً تقدم نفسها حامية للكاثوليك وخاصةً الموارنة. لكن الغرب لم يعد مسيحياً. لم يعد أحد في أوروبا يهتم بمصير مسيحيي المشرق. يجد مسيحيو المشرق أنفسهم في بقعة مظلمة. اليسار ينظر إليهم كمسيحيين ولا يهتم. يحمل تراث رافضي الكنيسة. اليمين يراهم شرق أوسطيين. تقاليدهم وأزياء رجال دينهم غريبة عنه.
في العراق يتحدث بعض المسيحيين عن دولة مستقلة، أو على الأقل منطقة للحكم الذاتي. من سيحمي هذه المنطقة المقترحة؟ كيف يمكنها أن تبني نفسها اقتصاديا؟ هي أحلام ما قبل الإفاقة.
في مصر نظر كثير من الأقباط إلى السيسي كمخلص. وصلت الحماقة بالبعض لنبش نصوص العهد القديم مبرزين نصاً ادعوا أنه يتحدث عن السيسي. لكل داء دواء يستطب به، إلا الحماقة أعيت من يداويها.
ليست هناك بدائل مثالية أو حتى ممكنة. الواقع مؤلم. منذ قرون مضت وجد اليهود أنفسهم مسبيين في بابل. "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضا عندما تذكرنا صهيون"، كتبوا في المزمور. اليوم و غدا وبعد غد يجلس مسيحيو المشرق في أميركا وكندا وأستراليا، يتذكرون بيوتاً كانت لهم في نينوى ومعلولا وأسيوط.