« وهابيون وقت الحاجة».. هكذا أصبحت هيئة كبار العلماء على مقاعد الاحتياط - Articles
Latest Articles

« وهابيون وقت الحاجة».. هكذا أصبحت هيئة كبار العلماء على مقاعد الاحتياط

« وهابيون وقت الحاجة».. هكذا أصبحت هيئة كبار العلماء على مقاعد الاحتياط

«لا، لن تقودي». في ليلة وضحاها أسقطَ هذا الشعار سمعةَ مؤسسة دينية عملاقة بثّت أفكارها على مدار عقود بلغةٍ وأسلوبٍ صارِمَين، أبدى الكثيرون حول العالم سخريتهم منها لتحوّل موقفها المُفاجئ والسريع من تحريم قيادة المرأة إلى إباحتها، موقفٌ تبدّل بسرعة وصخب السياسة السعودية منذ دخل محمد بن سلمان في سباق حكم المملكة الكبيرة، حروب إقليميّة، دبلوماسية وعسكريّة حرّكتها اليد السعودية، ولكن هذه المرة انتقلت المعركة إلى عمق الداخل السعوديّ؛ إلى داخل الدولة التي قامت بالسيف وشعار «التوحيد».

هل تكون الدولة السعودية الحديثة دولة «السيف» دون شعار «التوحيد»؟ وهل يكون السيف سيفَ مقاتل أم سيف «العرضة» السعوديّة؟ وكيف يمكن لدولة شرعيتها دينية أن تكون دولة لا دينيّة؟

العقد القديم: لكم الدنيا ولنا الدين

لم يكن ليخطر في بال محمد بن عبد الوهاب أنّ دولةً كالسعوديّة اليوم ستنشأ مُستعينةً بدعوته «التوحيدية». من الصحيح أن محمد بن عبد الوهاب تميّز عن أقرانه من الفقهاء بحملِهِ لفكرة عقدية بسيطة، هي فكرة التوحيد: لا وساطة بين الربّ والعبد، ولا أيّ نوع من الوساطة.

كانَ سهلًا على بدو وحضر شبه الجزيرة أن يتبنّوا فكرة بسيطة كهذه، ولكن لم يكن سهلًا عليهم أن يتحمّلوا نتائجها التي عملَ ابن عبد الوهاب على تطبيقها: قتل «المشركين» و«الكفار»، ومُعاقبة المسلمين الذين لا يؤدُّون الواجبات، جلدًا وتعنيفًا.

أدَّت ممارساته الحادة إلى إخراجه من منطقة «العُيينة» بطلبٍ من أميرها، وقبل وصوله إلى «الدرعيّة» سبقَهُ خبره، فكان أميرها «محمد بن سعود» مُستعدًا لرؤيته فكان الاتفاقُ بينهما: «لا تخش أعداءك، والله لو انطبقت علينا جميع نجد ما أخرجناك عنّا»، فأجاب ابن عبد الوهاب: «أنت كبيرهم وشريفهم، أريد منك عهدًا على أنك تجاهد في هذا الدين والرياسة والأمانة فيك وفي ذريتك بعدك. وإن المشيخة والخلافة في الدين فيّ وفي آلي من بعدي». هل يمكن للتزاوج بين الدين والسلطة أن يعبّر عن نفسه بشكل أوضح؟ لكم الدنيا ولنا الدين.

المدينة القديمة في الدرعيّة

في تلك اللحظة، عام 1744، فكّر ابن سعود حصرًا في نجد، «لو انطبقت علينا جميعُ نجد»، نجد فحسب، لا شبه جزيرة العرب، ولكن ابن عبد الوهاب كانَ ينظر لأبعد من ذلك: شبه جزيرة مُوحَّدة تدين بالتوحيد الذي يدعو له.

كانَ هذا الاتفاق فتحًا لابن سعود بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فالمؤمنون بابن عبد الوهاب – جنود الوهابيّة هم جنود ابن سعود – مُستعدون للتضحية بدمائهم لأجل حُكمه، والمُسلمون والمُرغمون على الإسلام – بنمطه الوهابي – مُلزمون بدفع الزكاة لابن سعود. وفّر الاتفاق لابن سعود كل ما يحتاجه، فقد كان ينقصه العمق والنفوذ القبلي ليشكّل تحالفًا يقدر من خلاله أن يتوسع إلى خارج الدرعية، وها هو ذا يكسب تحالفًا دينيًا ممزوجًا بروابط قبلية وماليّة. هكذا كانت بداية الدولة السعوديّة الأولى، وتلتها الثانية التي لم تلبث طويلًا ثم جاء انبعاث الثالثة.

آل سعود: وهابيّون وقتَ الحاجة

استمرَ الحلف طويلًا بين آل سعود وآل الشيخ (أحفاد محمد بن عبد الوهاب)، وصارت مؤسسة السياسة مُختصرة في آل سعود ومؤسسة الدين مُجسدة بآل الشيخ، وتجدّد عام 1902 الاتفاق القديم الذي تمّ عام 1744، وهذه المرة تصدّر المشهد عبد العزيز آل سعود في الدرعية مُجددًا.

قامت المؤسسة الدينية السعودية قديمًا على مستويات من العناصر البشريّة: العلماء، يتعلّمون الفقه بشكل أساسي و«التوحيد»، يعملون في القضاء ويُعلّمون في المساجد طُلابهم «المطاوعة»، ويُشرف المطاوعة على توجيه وإرشاد الناس، وتأديب من لا يستجيب ويفعل «المعاصي والمحرمات»، ومن المطاوعة صدرَ «الإخوان»، وهم قوّة بدوية حضرية مُستعدة دائمًا وأبدًا للقتال من أجل «التوحيد»، كان الإخوان قوّةً ضاربة في بدايات تأسيس الدولة السعودية الثالثة على يد عبد العزيز، وكلما دخل الإخوان إلى واحة أو منطقة جديدة ازدادت أعدادهم وضُخَّت دماءٌ جديدة في قواتهم المُغيرة.

لم تكن دول الخليج العربي الحاليّة تركةً حيوية خلف الدولة العثمانيّة، وبالأخص نَجدْ، قلب شبه جزيرة العرب، ولكن أعين البريطانيين امتدَّت للساحل الخليجي وما خلفه: قطر، والكويت، والبحرين، والسعوديّة، مُوقعةً اتفاقيّات حماية وإمداد لهذه الدول مقابل ولائها وتركها الحرية لبريطانيا في تنظيم شؤونها الخارجية.

في حالة عبد العزيز كانَ اختيار البريطانيين (بتوقيع اتفاقيّتين عامَ 1915 وأخرى أهمّ عام 1926) خيارًا مُريحًا له في حربٍ متعددة الجبهات، أو بالأحرى، حربٌ في كل الاتجاهات! تحديدًا مع وجود عدوَين كبيرين: آل الرشيد في حائل (شمال الدرعية) بتأييدٍ عثمانيّ، والأشراف في مكّة وعلى رأسهم الشريف الحسين بن علي المؤيَّد بريطانيًا أيضًا، ولكنَّ عداءه للأشراف كان أكثر تعقيدًا.

فعلى المستوى السياسي عداءُ سيادة وسيطرة، وعلى المستوى الأيديولوجي فعلماء نجد كانوا يرونَ بدعًا «شركيّة وكفرية» في المُدن الإسلامية المقدسة: مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة، وتتم هذه البدع بإشرافٍ من الأشراف والعثمانيين مما يعني شركهم أو احتمالية كفرهم، ومن ثمّ يجب قتالهم، ولحكم الأشراف في الحجاز عمقٌ تاريخيّ يمتد لـ400 عام بتعاون مع العثمانيين.

بدعمٍ بريطانيٍّ جيّد، ذخيرةً وسلاحًا ومالًا، استطاع عبد العزيز محقَ الحكم الرشيدي تمامًا، ثم دخلَ مكة هو وجنوده الذين انشغلوا بتدمير قبور رموز إسلامية (قبور الصحابة) وبعض المساجد القديمة بحجّة منع الناس من التعبّد لها لاحقًا. كانَ «السلطان» عبد العزيز أو «الإمام» يُدرك أن الإخوان لا يؤمنون بالملكيّة، التي لم يجرؤ على التصريح بها بشكلٍ واضح إلا بعد تخلّصه منهم.

تمرّد الإخوان وأوّل مسمار في النعش

تمرّد الإخوان على عبد العزيز لأسبابٍ أهمّها علاقته القوية ببريطانيا، وإعلان ومُتابعة الجهاد – وهو ما لا يستطيع عبد العزيز فعله لأن اتفاقيته مع بريطانيا تُلزمه بالتزام الهدوء مع جيرانه -، واعترضوا على صبره على شيعة القطيف وضرورة إعادتهم إلى الإسلام، وتساءلوا عن مشروعية الضرائب التي يأخذها إسلاميًّا، بالإضافة لأمورٍ أخرى كسلوكه الشخصي الباذخ وزيجاتُهُ المتكررة. كانَ ردّ عبد العزيز كالتالي: عَقَدَ مؤتمرًٍا دينيًّا يحضره علماء الرياض ليُعلقوا على انتقادات الأخوان. أظهر المؤتمر قوة علاقة العلماء بآل سعود، ودُفع الإخوان خارجًا: من صلاحيات «إمام الأمة الإسلامية» عبد العزيز أن يُعلن الجهاد ومن صلاحياته أن يفرض الضرائب ما دامت موافقةً للدين الإسلامي.

انتهى تمرّد الإخوان بقتلهم، مع الاستعانة بطائرات بريطانية في ذلك، وأسر قادتهم في الرياض. لكنّ المهم في قصة تمردهم هو ما حملته من تحديدٍ لصلاحيّات ومساحات رجال الدين والمؤسسة الدينية، ولأول مرة حُدّت سلطاتها التنفيذية المباشرة وحُصرت في إبداء الرأي في القضايا الفقهية؛ الشعائرية والإجرائية واليوميّة، وكانت هذه الخطوة الأبقى أثرًا على المؤسسة الدينية حتى يومنا هذا، ودخلت المؤسسة بعدها عُزلة شبه تامّة عن السياسة، ذلك المجال المُظلم؛ لُعبة آل سعود. كان توجّه «السلطان» عبد العزيز نحو الملكيّة أولَ مسمار يُدقّ في نعش مؤسسة العلماء ورجال الدين، ولكنه دُقَّ بهدوء ورويّة ولم يشعر به إلا الإخوان الذين أُبيدوا.

فيصل والهويّة الإسلامية

تبنّى الملك الثالث فيصل بن عبد العزيز (حكَمَ منذ 1964-1975) اتجاهًا إسلاميًا عامًا وعزّز في فترة حكمه من الانتشار «الوهابي»، وساعده في تنفيذ ذلك هجرة المعلمين العرب إلى بلاده من سوريا والأردن وفلسطين، وبشكلٍ خاص من مصر، إذ خرج منها كثير من أبناء جماعة الإخوان المسلمين هربًا من النظام المصري حاملينَ معهم أفكارهم التي قد يتفق بعضها مع أفكار ابن عبد الوهاب، فوجدوا في السعودية ظِلًا إلى حين، وقد قال الشيخ سلمان العودة أن كتاب «في ظلال القرآن» لسيّد قطب، أحد أهم مفكري الجماعة، كان يُقرأ على إذاعة القرآن الكريم في الرياض، وكانت كتبهم توزّع وتُطبع في السعودية.

خطا فيصل خطوةٌ أكبر إلى الأمام؛ كان يدعو إلى هويّة إسلامية عابرة للقوميات، وعملَ على إنشاء «رابطة العالم الإسلامي» و«منظمة التعاون الإسلامي» مؤسساتٍ تجمع المسلمين حول العالم، ولم يكن هنالك ما هو أنسب من الهويّة الإسلامية لمواجهة خطر المدّ الناصري بعروبيّته واشتراكيّته، إذ كان نجم عبد الناصر حينها صاعدًا باعتبارهِ زعيمًا للأمة العربية ومُهددًا لعروش ملكياتها.

ضربة من الداخل

تعرّضت المؤسسة الدينية لطعناتٍ عديدة، كانت إحداها وأهمها طعنةً من الداخل، حينَ أنتجت المؤسسة رجالًا خرجوا عن إطارها وانتقدوها. على الرغم من الإنفاق السعودي الهائل على الدفاع في الثمانينات، 14-24 مليار دولار سنويًا، إلا أنّها لم تقدر على مواجهة الجيش العراقي بنفسها عند غزو العراق للكويت، وبدا أن مصالحها النفطية في منطقة «الشرقيّة» في خطر بسبب وجود القوات العراقية إلى جانبها.

استدعى ذلك استنفارًا أمريكيًا وسعوديًا حادًا بهدف تحرير الكويت وإعادة الأسرة الحاكمة إليها، والحفاظ على الحدود السعوديّة. أي طريقة ستُتّبع لتنفيذ المهمة؟ هنا كانت المشكلة؛ كانت العملية بقيادة أمريكية يعمل تحتها أفرادٌ من جيوش دول مختلفة عربية وغير عربية، ومسلمة وغير مسلمة. وبدأت تغلي تساؤلات في الشارع السعودي حول الشرعيّة الدينية للاستعانة بـ«كافر» لقتال «مُسلم» كصدام حسين؟ ثمّ ما هذه الحكومة التي تُنفق أكثر من ربع ميزانيتها على الدفاع ولا تقدر على التعاطي مع خطرٍ مُحتمل؟

استُفِزَ العلماء – غير الرسميين – من وجود جنود أمريكيين على الأراضي السعوديّة. بدأ التساؤل العلني على يد الشيخ سِفر الحوالي، عميد الكلية الإسلامية في جامعة أم القرى، الذي أرسلَ رسالة إلى أكبر علماء السعودية عبد العزيز بن باز يُورد فيها أسئلته ورأيه بالتدخُّل الأمريكي، ثم تتابع الخطباء والدعاة – الشباب تحديدًا – بالاحتجاج على ما حصل. تصاعد النقاش وتصاعد دخان الحرب معه، وصدرت فتوى ابن باز الشهيرة في يناير (كانون الثاني) 1991 التي تُجيز الاستعانة بـ«الكفار» لمُحاربة صدام، واعتبرت الحرب ضد صدام «جهادًا» إسلاميًا، ولسوء حظه لم تكن فتواه مُقنعةً للعلماء الآخرين الذين رأوا الوجود الأمريكي اعتداءً على شبه جزيرة العرب.

صدرت في مايو (أيّار) 1991 مذكرةٌ بعنوان «خطاب المطالب»، سُلّم الخطاب للملك فهد بن عبد العزيز حاملًا 10 نقاط تدعو إلى إصلاحات شاملة وواسعة في الدولة والمجتمع، وقّع عليها 400 شخص على رأسهم 52 إسلاميًا. كان خطاب المطالب بنيةً تحتية لمذكِّرة أخرى سُمّيت بـ«مذكرة النصيحة»، صدرت في سبتمبر (أيلول) 1992، وهُنا كانت الضربة الموجّعة دونَ قصد.

مذكرة النصيحة اشتملت مُجددًا على دعوة إصلاح شامل في مجالات السياسة والإعلام والاقتصاد والجيش وصلاحيات المؤسسات الدينية والعلماء (تدعو لتوسيعها)، ولكن لم تُسلَّم هذه المرة لملك البلاد وإنما رُفعت بتوقيع العلماء المُستقلين وأساتذة الجامعات إلى مُفتي البلاد عبد العزيز ابن باز، الذي كان رئيسًا لهيئة كبار العلماء، المؤسسة الدينية الأهم في السعوديّة.

تمرير المذكرة من خلال ابن باز كان التزامًا بخط المؤسسة الدينية التي احتكرت الفتوى والاتصال بالدولة، ولكن لم تسر الأمور كما يُحبُّ النظام ومؤسّسته الدينية: سُرّبت المذكرة وخرجت للعلن مما أحرج الحكومة السعودية فطلبت الاعتذار من العلماء، وأنكر ابن باز النصح العلني وذكّر بأهمية النصح بالسرّ لولي الأمر، حتى لا تقع «الفتنة».

لم يكن الموقّعون على العريضة غُرباء على المؤسسة الدينية، فمن المُوقعين أحد أشهر العلماء السعوديين عبد الله بن جبرين، وحمود العقلاء شيخُ ثلاثةٍ من أعضاء هيئة كبار العلماء. وبينهم سلمان العودة، تلميذ ابن باز الذي وصفه شيخهُ بـ«العلامة».

بعد خروجها للعلن مثّلت مذكرة النصيحة خروجًا جَسُورًا على المؤسسة الرسمية: لن تحتكروا سلطة تفسير الدين بعد اليوم، ولستم الممثل الوحيد له. ولأول مرة يصعد تيار ديني مُحدد وقويٌّ بهذا الشكل مُعارضًا للنظام، ولهذا التيار أذرع خارجية كـ«لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية» التي شُكّلت في لندن، ويميّز أبناء هذا التيار الإصلاحي قدرة رموزه على تبنّي وسائل الاتصال الجديدة بالناس وتقبّلهم لها، بينما يرى أعضاء هيئة كبار العلماء حرمتها أو لا يستخدمونها لكبرهم في السن. هكذا اهتزّت مكانة الهيئة في مسألة تعدّ من أهم ما تحتكره الهيئة؛ التحدّث باسم الدين وسلطة تفسيره.

أمركة الإسلام!

مع أحداث 11 سبتمبر 2001، اتجهت العيون نحو السعودية، الدولة المُتهمة بكونها أكبر مصدر تمويلي للجماعات «الإرهابية» حول العالم، مما صبّ الضغط الإعلامي والسياسي عليها بطريقة دفعتها للتحرّك لتبعد هذه السمعة عن نفسها.

ترصد الناشطة السعودية هالة الدوسري في مقالٍ لها تأثير أحداث سبتمبر وموجة «مكافحة الإرهاب» العالمية على الإسلام الذي تروّج له السعودية، وتبدأ في هذا الصدد بذكر مركز عالمي لمكافحة الإرهاب أنشأته السعودية وموّلته بـ110 مليون دولار، ومركز آخر داخل السعودية، ومركز دولي في فيينا عاصمة النمسا لحوار الأديان، يحملُ اسم الملك عبد العزيز آل سعود. رافق كل ذلك تعديلات كثيرة ومتكررة للمناهج.

ولكن المثير حقًا في السعي الأمريكي لتعديل النسخة السعودية من الإسلام ما قاله ترامب في قمّة الرياض المُنعقدة في 21 مايو (أيّار) 2017.  كلّ ما قيل في الخطاب هدفه واحد: «القضاء» على الأيديولوجيات «المتطرّفة» و«الجامدة» التي تُحرّك الإرهابيين. استمعَ حكام العالم العربي إلى الخطاب بفرحٍ وابتسام، ولكن، لمَ كانَ ملك السعودية مُنشرح الصدر بعد خطاب ترامب الذي جاء من الغرب الذي يرى الوهابيّة أصلًا لإرهابيي العالم؟

ابن سلمان يقطف الثمرة

لم يفهم رسالة ترامب أحدٌ أكثر من محمد بن سلمان، الذي يبدو أنه يطبقها بسرعة أكثر من اللازم. مع دخول ابن سلمان إلى رتبة «ولاية ولاية العهد» أطلقَ رؤيته 2030، التي تقوم على خصخصة السوق وتمكين المرأة وفتح السعودية للاستثمار الخارجي. تمكين المرأة؟ نعم، إنها الكلمة السحرية في كل المحافل الدولية، «تمكين المرأة»، «تحرير المرأة»، الدفاع عن «حقوق المرأة»، والتي منها «قيادة السيارة»، أحد أبسط حقوق المرأة في الدول المجاورة للسعودية من الأساس.

كان القرار الملكي السامح بقيادة المرأة مُفاجئًا للكثيرين سواء المؤيدين أو المُعارضين، ولكن أحدًا لم يتلقَ صفعةً بقوة الصفعة التي تلقتها هيئة كبار العلماء، صفعة جعلتها تنقلب 180 درجة مع انقلاب الرأي السياسي، مُظهرةً تبعية صارخةً للنظام السعودي، ومُلقيةً الضوء مجددًا على الشروخ التي أصابت المؤسسة في الظلّ  لتزيد من هشاشتها بطريقة تجعلها تُمارس انتقالًا «بهلوانيًا» في آرائها الفقهية، من التحليل إلى التحريم ومن التحريم إلى التحليل.

من الطريف أن صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، هاجمَ يوسف القرضاوي عندما دعا ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز إلى السماح للمرأة بقيادة السيارة، وكان ردّ الفوزان بنصيحةٍ للقرضاوي «بعدم تدخله في شؤون السعودية وافتئاته بهذه الفتوى على علماء المملكة»، ثم تهكّم على استدلال القرضاوي بأنه «لا دليل شرعي يُحرّم قيادة المرأة»، وهو نفس الاستدلال الذي برّرت به الهيئة القرار الملكي.

على كل حال، لم تكن هذه المرة الأولى التي تهتزّ فيها المؤسسة الدينية لتغيّر فتواها، فمن قبل، أُطلقت هيئة السعادة والترفيه التي دشّنت حفلات غنائية وموسيقية واستعراضية، كانت الهيئة تخوض في تحريمها معارك عنيفةً طوال العقود الماضية، ومع انطلاق هذه الحفلات بدعم مُباشر من الدولة، كان التذكير المُعتاد بأن الأمن هو المهم:«المملكة في أمن واستقرار ولله الحمد».

يعتقد البعض أن محاولة «علمنة» السعوديّة أمرٌ مستحيل سيؤدي إلى هدم النظام السعودي الذي يستمد شرعيته من أسباب دينية. لكن، ماذا عن التجربة المغربية؟ تقوم شرعية الملكية في المغرب بشكل جوهري على أساس ديني: السلالة الحاكمة علويّة من أحفاد النبي محمد، وعلى ذلك قامت مملكتهم لسنواتٍ طويلة، وعلى الرغم من وجود هذا الأساس فإن المجتمع المغربي يعيش حالةً من العلمنة السياسية والاجتماعية أكبر بكثير من التي يعيشها المجتمع السعودي، ولم يؤدِ ذلك إلى انهيار الدولة أو تفكُّك شرعيتها، إذ يبدو أن علمنة المجتمع لا تعني بالضرورة علمنة النظام السياسي.

لم يفعل محمد بن سلمان الكثير، فقد استلم كرسيّه والمؤسسة الدينية مُفككة بالفعل، على رأسها شيوخٌ طاعنون في السن، وأبناء المؤسسة الذين خرجوا عن خطها ليطالبوا بالإصلاح زُجَّ بهم في السجون. فهل أوشكت السعودية على الانتقال «من التسلط الديني إلى التسلط العلماني»؟ ومن زاوية المؤسسة الدينية إلى زاوية نخبة «ليبرالية» سقفها النظام الحاكم والملك؟

المصادر

ساسة بوست

Related

Share

Rating

10.00 ( 1 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags