الأب رفعت بدر
نظم معهد العالم العربي في باريس، معرضاً يستمر لأول شهر من العام المقبل، وعنوانه: «مسيحيو المشرق، ألفا عام من التاريخ». وقد افتتحه الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون بحضور الرئيس اللبناني ميشيل عون وعدد من الشخصيات الدينية والمدنية من فرنسا والشرق.
احتوى المعرض على مقتنيات من دول الشرق الأوسط وهي: الأردن ولبنان وسوريا والعراق ومصر والأراضي المقدسة، وكنا نتمنى على البيانات الرسمية أن تذكر اسم فلسطين، مع أنّ مصطلح الأراضي المقدسة شريف وذو قيمة عالية. لكن في استخدام اسم «فلسطين» كذلك قيم متعددة، أهمّها احترام الماضي التاريخي، ودعم توجه الشعب الفلسطيني لنيل استقلاله.
يقرأ مسيحيو الشرق عن معرض عنهم في الغرب، ويقولون هي فرصة لتذكير العالم بقيمة تاريخية وحضور مؤثر في هذه البقعة من الأرض، فما هو معروض حالياً في باريس هو آثار من القرون الأولى، وهذا دلالة على مسيحيي الشرق وتاريخهم التوأم مع التاريخ المسيحي. وهنا، هبطت رسالات السماء، وتأسست الديانات التوحيدية، وصار أن نشأت الديانة من هنا المسيحية المنتشرة في العالم كله، وان المسيحيين الذين ما زالوا يسكنون في هذا الشرق، ليسوا ضيوفا حديثي العهد، بل هم أصلاء وأصليون هنا.
المعرض مناسبة كذلك للتركيز على قيم «العيش المشترك» التي ميزّت الشرق، فالديانة اليهودية (كديانة وليس كمنعطفات سياسية) نشأت هنا وتلتها المسيحية وتبعها الاسلام، هذا هو التاريخ، وكما يُذكر دائماً بأن هذه الأخوّة بين الديانات نفسها، هي أخوّة على أرض الواقع بين تابعي ومؤمني ومعتنقي هذه الديانات. فالتزامن بين تأسيس وتاريخ الأديان يترافق مع ما نسميه اليوم بالوئام الديني بين الأتباع. وهي لربمّا رسالة توجه إلى الغرب الذي عانى في الآونة الأخيرة من مشكلة الوافدين وعدم مقدرتهم على الاندماج مع بقية خلق الله.
كل ما سبق جيد، لكنه يهدف بتنظيم مؤسسة ثقافية كبرى هي معهد العالم العربي المؤسسة عام 1980، لتوجيه الأنظار على معاناة وصليب ثقيل حمله مسيحيو الشرق، وأجبر العديد منهم على أن يرحل دون أن يتسنى له حتى أن يحزم أمتعته – وهذا ما حدث مع مسيحيي الموصل وسائر مدن وقرى نينوى – على سبيل المثال لا الحصر.
واليوم، وبعد أن أفاق العالم من غفوته، صار السؤال إلى أين يا مسيحيي الموصل؟ وهل ستعودون؟ فإذا بهم في استراليا وأميركا وبلدان أخرى بعيدة، وإذا بما تبقى منهم في اربيل (كردستان)، يصرخون قبل أيام، بأنهم لن يكونوا وقوداً لنيران جديدة. في اشارة إلى الاستفتاء الكردي وصدور بعض البيانات التي تتحدث باسم المسيحيين.
أردنياً، أعلنت الحكومة قبل أشهر عن موافقتها بإعارة بعض المقتنيات التاريخية للمشاركة في المعرض طوال انعقاده، وقد حضر حفل الافتتاح وزير الثقافة د. نبيل شقم، وعشية افتتاح المعرض عقد السفير الفرنسي لدى الاردن دافيد برتولوتي لقاء في منزله، بحضور وفد صحفي فرنسي، تحدث فيه عن المعرض واهدافه النبيلة. اما سفيرنا لدى باريس مكرم القيسي، فأخبرنا غداة الانعقاد، بانه نظم جولة لعدد من السفراء وعائلاتهم للإطلاع على المعروضات الأردنية في المعرض، وهي تعود إلى القرن السادس للميلاد. وكانت مناسبة لسعادة السفير المعروف بنشاطه وترويجه للسياحة الى بلدنا، للحديث عن دور الأردن التاريخي، ملكاً وحكومة وشعباً، في الحفاظ على الهوية العربية المسيحية.
باختصار: المعرض مبادرة طيبة وجهد ثقافي مشكور، من معهد العالم العربي، في عرض آثار مسيحية مشرقية في عاصمة النور باريس، لكن الأهم من ذلك هو تسليط الضوء على حياة مسيحيي اليوم في الشرق، فهم جزء لا يتجزأ من تاريخ منطقتهم وحاضرها، ومستقبلها، وفي تسليط الضوء على حياتهم ومؤسساتهم، تأكيد على أن أجمل كنوز الشرق هو تعدديته وإن تألق أبنائه هو في مقدار اسهاماتهم في خدمة مجتمعاتهم التي تصبو إلى أيام رغد وهناء.