على سيرينى
كتبت هذا المقال كجزء من متطلبات الدراسة الجامعية، وارتأيت ترجمته إلى العربية علّني أقدم فائدة ما للقرّاء في تكوين نظرة مجملة عن أحوال وأهوال الدين المسيحي (الكاثوليكي) في أوروبا الغربية. وقد أضفت القليل بما يتلائم مع النص العربي. هذا المقال مختصر جدا، وإن أتيحت لي الفرصة مستقبلا، سأخوض في هذا المضمار بسلسلة من المقالات وفق الترتيب الزمني للأحداث والقضايا، والباب مفتوح لمن اراد الشروع في هذا المجال الرحب.
أخذت التحديات التاريخية في المسيحية وقتا طويلا في أوروبا، إلى حين استقرت على سبل معينة بعدما تورطت الكنيسة اللاتينية (الكاثوليكية) في مزج المدنس البشري (profane) بالمقدس الإلهي .(divine)
كانت الكنيسة اللاتينية قد أمست مؤسسة سياسية وإقتصادية، بحيث جعلت هيكلة الكنيسة تستعصي على الإصلاح، أو لنقل أنها هي نفسها أصبحت عقبة أمام الإصلاح، إلى أن ولدت الإصلاحات البروتستانتية.
قبل الإصلاحات البروتستانتية، أي قبل القرن السادس عشر (القرن الذي شهد التحولات الكبرى في أوروبا) كانت الكنيسة تحظى بالسلطة في دول أوروبا كلها.
منذ عام 1215 (بعد ثلاثة أعوام من معركة عُقاب الكارثية في الأندلس حيث انهزم المسلمون شر هزيمة تحت لواء ما يُسمى بالدولة الموحدية( كانت الكنيسة قد فرضت على الاوروبيين، الإقرار بالذنب مرة في كل عام وبالتحديد في أيام عيد الفصح. وقد أفصحت الكنيسة بشكل واضح وصريح، أن من يقوم بهذا الإقرار تزامنا مع إتيان الواجبات الدينية الأخرى، فإن الكنيسة ستطلب للمسيحي الملتزم بهذه الإجراءات، الغفران لذنوبه. هذا العرض الكنسي كانت له مرامي ونتائج أخرى تبلورت في عملية منظمة ومدروسة (هذا لا ينفي كون بعض الأحداث جاءت تلقائياً وعفوياً دون تخطيط مسبق). إن الإلتزام بهذه الوصايا والأوامر، كانت تعطي فرصة للإنسان المسيحي لنيل البركة عبر التقرب من الـ (communion) الكوميونيَن كان من أهم المسائل بالنسبة للإنسان الأوروبي في ذلك العصر، وكان شيئا مركزيا داخل الكنيسة اللاتينية.ويعتبر الكوميونيَن الرابطة التي تعقد العلاقة بين المنظمات والمكونات والجماعات داخل الكنيسة، وتعد من أهم الفاعليات الكنسية، حيث كان القداس يقام في أعلى المستويات الكوميونية. وكان القداس يقام في الأسبوع مرة واحدة، وعدّ من أقوى المراسيم وتضمّن تعليم التبشير. وكان كاهن الرعية يتقاضى الثمن قبالة إقامة هذه المراسيم. أما لماذا كان الناس يدفعون المال، لأن الكنيسة كانت تشجعهم على ذلك، على أساس أن هذا أفضل عمل يقوم به أيّ إنسان. هذا السياق يعد المفصل التاريخي، الذي أنتج صكوك الغفران (indulgences) التي أدرّت أمولاً عظيمة في خزائن الكنيسة، لكنها تسببت في خلق الحركة التي سميت بالإصلاح الديني أو الإصلاحات البروتستانتية. صكوك الغفران حلَت محل الواجبات الدينية، فكان المسيحي العادي يدفع مبلغا من المال لقاء الحصول على بركة وغفران الكنيسة.
في هذه النقطة بالذات، تم خلط الإلهي بالبشري (أو المدنس). على ذلك، فإن الكنيسة قامت بإبتداع حيلة جديدة للحصول على الأموال، وهي بيع صكوك الغفران للناس الذين يودون طلب المغفرة لمعارفهم أو أقاربهم من الأموات. لذلك، وفقا للكنيسة الكاثوليكية فإن الإيمان وحده (faith alone) ليس كافيا للنجاة (salvation) . هذه الفكرة أثرت تأثيراً كلياً في رواد الإصلاح البروتستانتي في المراحل اللاحقة حيث قالوا بعكس الكاثوليكية، وأكدوا أن "الإيمان" وحده يكفي للخلاص.
مع مشارفة القرن الخامس عشر الميلادي على الإنتهاء، كانت الكنيسة قد وصلت محطة لم تكن فيها موضع العبادة والطقوس فقط، وإنما مؤسسة مالية ومصدراً لتزويد البيروقراط (bureaucrats) حيث كان الكثير من الأساقفة والمطارنة أمراء دنيويين.ومن هنا يتضح كيف مارس رجال دين الكنيسة اللاتينية السياسة والمال. علاوة على هذا، ولأن الكنيسة كانت مؤسسة التعليم الوحيدة، فقد تحولت إلى الجهة الوحيدة لتزويد الكوادر (رجال الحكومة) حيث كانت الحكومات تستأجر البيروقراط من الكنيسة. وعلى هذا، ففي الوقت الذي تحولت روما إلى أهم مدينة في أوروبا، فإن الواقع أمسى أكثر تعقيدا في ما يخص علاقة الكنيسة بالسياسة والإقتصاد. لذلك فإن البابا جوليوس الثاني (1443-1513) أصبح بمثابة عود الثقاب الذي أشعل الحركة البروتستانتية، والسبب المباشر لمارتن لوثر (1483-1546) في نشره للمانيفيستو البروتستانتي. جوليوس الثاني الذي عرف في أوروبا بالبابا المخيف أو المحارب، كان يبيع صكوك الغفران حتى للمراهقين، وتورط في المحسوبية إذ عيّن أقاربه في مناصب رفيعة وتصرف كمَلِك. لذلك وصلت الأمور حداً، نشأت بسببها قناعات واسعة في أوروبا، مع بداية القرن السادس عشر، أن إصلاح الكنيسة بات ملحّاً وضروريا. لكن المفارقة أن الإصلاحات لم تكن لإبتداع جديد، إنما لإعادة تنظيم الكنيسة وفق المضمون المسيحي الأولي (مرحلة السلف)، وليس لتغيير جوهر الكنيسة. وجلّ الأمر انحسر في طرح السؤال حول ماهية عمل ومهمة الكنيسة أنها مكان ديني (عبادة) لا أكثر. لكن هذه القناعات الواسعة، فشلت في ترجمة الأمر إلى واقع عملي بسبب عوائق كثيرة.
هيكلية الكنيسة استعصت على العلاج. فكما قلنا سابقا أن النبلاء في أوروبا كانوا يديرون الكنيسة والحكومة المدنية (السلطة السياسية). لذلك فإن سلطة الكنيسة كانت موزعة بين رجال الدين النبلاء (secular clergies) الذين كانوا وسطاء بين الناس والكنيسة، على خلاف رجال الدين النظاميين (regular clergies) الذين عاشوا في الظل وقد قللوا من اتصالاتهم بالعامة إلى أبعد الحدود. هذا التقسيم المتقن يعني الكثير بالنسبة لصكوك الغفران. رجال الدين النظاميين كانوا هم المعنيين بالصلاة لطلب المغفرة، للناس الذين دفعوا الأموال. وبعد مدة وجدت الكنيسة نفسها على خزائن عظيمة من الأموال، تزامنا مع نشاط سياسي مكثف و اقتصادي متنوع.
الشعوب الأوروبية، لاسيما الشمالية منها (في المجمل تلك الناطقة باللغة الألمانية)، كانت ترى بدقة هذا الواقع المؤلم، وراقبوا بحذر شديد انتفاخ الكنيسة بالفساد الذي صوّر أحيانا بشكل ساخر في لوحات فنية تظهر فيها الكنيسة ورجالها يسمنون من لحم الأموات، في رمزية واضحة الى صكوك الغفران المعطاة للأموات!
هذه العطايا والأموال كانت تدفع إلى الكنيسة على أساس أنها صدقات وهبات، لكنها غيرت الكنيسة بشكل جوهري، حيث أصبحت الكنيسة بفضل ذلك تحصل على قوة هائلة عن طريق غناها المادّي.
غنى الكنيسة المادي، جعل من الوظيفة الكنسية شيئا مغرياً و سلّما للصعود إلى أعلى الهرم الإجتماعي في أوروبا التي كانت منقسمة إلى طبقات عليا ودنيا. الأكثر من هذا، أوجد هذا الواقع المريض فسادا آخرا يسمى بـ (simony) أي الحصول على أكثر من وظيفة داخل الكنيسة، من أجل الحصول على أموال أكثر. ومع أن الصايمونية كانت محرّمة في المسيحية، لكنها جيزت بموافقة بابوية. وهكذا اكتشف الناس الأوروبييون بعد ملاحظة ومراقبة طويلتين، أن الكنيسة هي مصدر للغنى المالي، ومكان للعمل السياسي وليس الديني. وبسبب المشاركة في العادات والإهتمامات فضلا عن النظم الكنسية من سياسة وإقتصاد أو ما إلى ذلك، فإن تقاليد معينة أوجدت روابط منسجمة بين الطبقة الكنسية النبلائية في كل الدول الأوروبية، فكان سهلا إدراك أن العائلات النبيلة في المانيا مثلاً، أقرب من العوائل النبيلة في فرنسا أو إيطاليا من الناس القرويين أو البسطاء في ألمانيا نفسها كما الأمر في كل بلدان أوروبا. إذن أصبحت هناك ثقافة مشتركة تربط أعضاء الكنائس في عموم أوروبا. وفي القرن السادس عشر أصبح بمثابة إتحاد وطني (national confederation) في نشاط متحد في موضوعيته، ولكن الإتحاد الوطني هنا ليس بمفهوم الوطنية التي حدثت في القرن التاسع عشر، وإنما في المشترك السياسي والإقتصادي والتقاليدي الذي أشرنا إليه سابقا. وفي عهد البابا مارتن الخامس أصدرت الكنيسة رسائل رسمية إلى ممالك وحكومات أوروبا. حتى تم تفويض السلطة بمرسوم بابوي في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، إلى الحكومات والحكام المدنيين. وفي هذا المضمار فشلت مساعي وجهود المسيحيين الإنسانيين (Christian Humanist) (من أتباع المدرسة الإنسانية التي ظهرت في إيطاليا أولاً في القرن الثاني عشر ثم تحولت إلى حركة عظيمة في أوروبا بين القرن الرابع عشر والسابع عشر)، من أمثال أراسموس و يوهان روخلين، لأن مشكلة الكنيسة لم تكن أصولية دينية أو فكرية إنما إقتصادية سياسية. حتى أن أراسموس قام بترجمة الكتاب المقدس من الإغريقية إلى اللاتينية، بهدف عرض نص الكتاب المقدس للعامة ليبين لهم ماهيته وجوهره، كنقد صريح لرجال الكنيسة وفسادهم، على أن ما يقومون به يخالف النصوص. لكن الكتابات التي صدرت من أراسموس وغيره، لم تجد نفعا في إصلاح الكنيسة.
الإصلاحات البروتستانتية في القرن السادس عشر، تحدثت عن الواجبات الأخلاقية للمواطنين، بمعنى أن المواطنين يجب أن يقدموا العمل الجيد. وفي هذا المجال ذهب "زفينكلي" (1484-1531) أحد رواد الإصلاح، إلى أن الدولة أو الحكومة المدنية، يجب أن تكون وسيلة للمشيئة الإلهية، لنشر المسيحية الضامنة العيش والخير للجميع وفق المنهاج المسيحي. ولا شك أن هذه الفكرة مرتبطة الجذور بـ (communal government) وهي الحكومة المحلية، أو حكومة المدينة التي تتصل بها الأفراد مباشرة.
على عكس زفينكلي، رأى مارتن لوثر أنه لا بد من فصل حاد بين الإلهي والإنساني (حتى لا يفهم عن طريق الخطأ أن فكرة لوثر تعني العَلمانية، لم يكن لوثر علمانيا وفكرته لا علاقة لها بالعلمانية التي ظهرت في وقت متأخر. جل الفكرة يرتبط بالآداء الكنسي فقط)، أو بتعبير آخر بين المقدس والمدنس الّذيْن تم مزجهما من قبل الكنيسة اللاتينية. فكرة لوثر هذه، أدت إلى رفض الإلتزامات الأخرى كصلاة الغفران للأموات او بيع صكوك الغفران وأمور أخرى كنسية. لذلك اعتبر لوثر أن العلاقة بين الناس والكنيسة، في ما يتعلق بالسياسة والإقتصاد، لا علاقة لها بالمسيحية بل هي مجرد مسائل دنيوية كالإقتصاد والإجتماع والسياسة.
وما نجم عن البروتيستانتية بشتى مذاهبها المختلفة جملة أمور منها، أن الكتاب المقدس يكفي لوحده (scripture alone)، وإعطاء الحق لكل فرد من قراءة الكتاب المقدس. وكذلك أن النجاة في الآخرة لن تكون بالأعمال الصالحة (بعض البروتستانت ذهبوا بعكس هذه الفكرة). ومن أهم هذه الأمور عدم الإعتراف بسلطة البابا ورجال الكنيسة. كما أجازوا للقساوسة الزواج باعتبار أن تحريمه لم يأت في الكتاب المقدس كما ناقشت كاترينا شوتس زيل (1497-1452) مسألة زواجها من ماثيو زيل (1477-1548) (الإصلاحي البروتستانتي على مذهب لوثر). كاترينا كانت من اوائل الكاتبات، ودافعت عن زوجها ماثيو وزواجهما الذي خالف تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، لأن ماثيو كان رجل دين كاثوليكي (تحول إلى البروتستانتية). في رسالتها المطولة إلى مواطني ستراسبورغ، تجادل كاترينا، وتقف ضد الكنيسة الكاثوليكية وفسادها، محتجة بنصوص الكتاب المقدس.
ولكن البروتستانتية تفرعت إلى مذاهب شتى، وإلى روادٍ اختلفت مشاربهم وتوجهاتهم وعواقبهم. ولم يطل الزمن كثيرا حتى حدثت حرب الثلاثين عاما بين الكاثوليك والبروتستانت التي راح ضحيتها عدد هائل من الناس في أوروبا، حيث تتراوح التقديرات بين ثمانية إلى أكثر من إثني عشر مليون ضحية. وسنتحدث عن ذلك بالتفصيل مستقبلا.