بالرغم أنّه عاهد نفسه أخيرًا ألا يُخبر أحدًا بأحلامه، إلا أنه لم يستطع هذه المرة أن يكتمَ ذلك الحُلم الذي راوده من سنين طويلة: «رأيتُ في منامي كأنّي أجالس الرئيس السادات، وإذ به يُخبرني عن نفسه بأنه كان يعلمُ أنّه سيجلس على عرش مصر.. صَمَتنا لحظة ثم قطعتُ الحديثَ بحديثٍ آخر، ففاجأته: وأنا أيضًا أعلمُ بأنني سأصبح رئيسًا للجمهورية»؛ هكذا قال الرئيس السيسي في تسجيلٍ صوتي مُنسوب له قبل ترشحه للرئاسة عام 2014.
https://www.youtube.com/watch?v=lpbmtRbpXM8&feature=youtu.be
ربما لم تكن تلك هي زاوية التشابه الوحيدة بين الرجلين -السادات والسيسي-، في تلك السطور نعود إلى قصة التشابهات التي اقتبسها السيسي من السادات ليحظى بلقب «الرئيس المؤمن»، ونخبرك كيف يُمكن للتقليد أن يصنع زعامةً سياسيةً، وأسطورةً متكررةً.
(1) حُلم الرئاسة مقابل خداع «شخص واحد«
لم يرَ السادات السيسي أبدًا في أحلامه قبل أن يصبح رئيسًا، فقط كل ما تمناه في صباه أن يُصبح مُمثلًا يؤدي أدوارًا تجذبُ الأضواء نحوه، لم يتحقق الحُلم بسبب تلك السيدة المجهولة التي رفضته في الاختبار، لكنه وجد نفسه أخيرًا في مجلس قيادة الثورة الذي انقلب على الملك عام 1952، واضطر السادات الذي واجه وحيدًا تربص الضباط الكبار ضده للعودة إلى مواهبه القديمة في الخداع، والتمثيل ليظل محتفظًا بثقة عبد الناصر.
وبحسب مذكرات حسين الشافعي، نائب الرئيس وقتها، فإنّه كان يرتدي بدلة واحدة أمام ناصر ليُلفت الأنظار إلى إيمانه بالاشتراكية، وكانت البدلة في حقيقتها 10 قمصان من نفس النوع، يرتدي كل يوم واحدة، ليبدو قناعه الخارجي رجلًا زاهدًا في السلطة وحتى في ملابسه، وهي قصة لا يمكن التأكد من صحتها، لكنّ التاريخ يُخبرنا أن السادات منذ تولى الحُكم بدأ في هدم التجربة الناصرية كأنه لم يُمثلها يومًا.
قبل جمعة الغضب بيومين في 25 يناير (كانون الثاني) 2011، كانت الشرطة المصرية قد اعتقلت عددًا من رؤوس المعارضة وسلمتهم إلى المخابرات العسكرية التي تولت التحقيق، وبحسب صحيفة « «الجارديان البريطانية التي نقلت شهادة أحد المعتقلين البارزين في مجال حقوق الإنسان؛ فقد كان السيسي الذي شغل وقتها منصب مدير المخابرات الحربية هو من تولى التحقيق، ويحكي أحد المعتقلين واصفًا الرجل العسكري: «غضب بشدة عندما سمع أحدهم يقول مبارك فاسد وعليه الرحيل»، فأجاب السيسي غاضبًا: «يجب أن تحترموا الرئيس، وترحلوا فورًا من الميدان.«
لكنّ الرجل الذي لم يعرفه أحدٌ وقتها، سرعان ما غيّر موقفه بعد عدة أيام من نجاح الثورة بتصريحه المُثير :«نعم، الشرطة العسكرية قامت بكشوف العذرية بحق المتظاهرات»، لتخرج محكمة القضاء الإداري باتهامها العلني: «الجيش ينتهك الدستور، ويهتك حُرمة الجسد»، وبهذه الطريقة حظي رجل المخابرات بشعبية كبيرة، رغم أنّه لم يؤيد الثورة كما أعلن بعد ذلك، وربما هي أقصر قصة خداع لم تدم إلا عدة أيام.
بعد نكسة عام 1967 بأشهر قليلة، رُزق السادات بابنه الوحيد، وقرر أن يُسميه «جمال» تيّمنًا باسم الرئيس المنهزم، وبعد أقل من عامين يصبح «أبو جمال» نائبًا لرئيس الجمهورية، وبالرغم من أنّه كان مُهددًا بالطرد من مجلس قيادة الثورة، إلّا أن النهاية التي كتبها السادات بخط يده توضح الكثير: «يتساءل البعض في حيرة، كيف قضيت هذه الفترة الطويلة مع عبد الناصر من غير أن يقع بيننا ما وقع بينه وبين زملائه، ببساطة تحاشيت الصراع معه، وبقيتُ أنا الرجل الوحيد من رجال الثورة الذي لم يمسسه سوء».
بالعودة إلى قصة الخداع الثانية؛ فإن السيسي ربما كان الوحيد الذي لم يدخل في صراع مكشوف مع الرئيس المعزول محمد مرسي، كل ما فعله في سنوات الثورة الأولى أنه اختفى بعد تصريحه المثير، لكنّ الإشاعات تتولى وظيفتها في الترويج للرجل المُخادع؛ فالإعلامي الممنوع من الظهور توفيق عكاشة فاجأ الجمهور بأنّ السيسي هو رجل الإخوان المسلمين في الجيش، وأن زوجته منتقبة، الأمر نفسه أكده القيادي المنشق من الجماعة ثروت الخرباوي.
وبعدما قام الرئيس محمد مرسي بخطوة جريئة بعزل المشير طنطاوي من قيادة الجيش، اختار الفريق السيسي، مدير المخابرات الأكثر خداعًا في الجيش، وبعد تعيينه وزيرًا للدفاع صرحت الجماعة بأن السيسي وزير دفاع بنكهة الثورة، لكنّ الرجل بعدما أطاح حكم الإخوان، ظهر في تسريب مُصوّر يقول: «لولا جهد القيادات السابقة لما كنت استطعت أن أنفّذ كل هذا، اشكروا المشير طنطاوي»؛ تُرى من هو الأكثر خداعًا بين الاثنين.
(2) للدين فوائد لا يعرفها سوى الحُكام
عقب توليه السُلطة عام 1970، سعى السادات للحصول على لقب «الرئيس المؤمن» قبل لقب «بطل الحرب والسلام»؛ فرفع شعار دولة «العلم والإيمان»، كما أخرج الإسلاميين من المعتقلات، وسمح لهم بالمشاركة في الحياة السياسية مرة أخرى، والأهم من ذلك أنه يقود مشروع الإصلاح الديني باعتباره الحاكم الإسلامي الذي يحفظ القرآن، ولا يتركه حتى في خُطبه السياسية، والأخطر كان قرار حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، التي كانت في شهر رمضان، وروجت الصحافة بأنّ الجيش انتصر بسبب المناخ الديني، ربما كانت تلك مجرد صورة للاختلاف عن عبد الناصر.
وفي الكلمة التي ألقاها خلال مؤتمر البحوث الإسلامية عام 1977، يوجه السادات حديثه للشباب المُسلم قائلًا: «الاستعمار الغربي يحاول أن يضرب الإيمان في نفوسنا»، ثم يستنجد بعلماء المُسلمين: «أنتم الأجدر لوضع الطريق إلى الإيمان»، وعندما أراد أن يعزل رئيس الكنيسة المصرية، في سابقة هي الأولى في التاريخ، بررها تحت شعار «أنا حاكم مسلم لدولة مسلمة، لكنه -يقصد البابا- لم يفهم معنى تلك الكلمة».
ولأن السيسي أطاح رئيسًا كان رمزًا للتيارات الإسلامية العربية؛ فقد كان من الضروري توظيف الدين في الخطاب السياسي، لتظهر معركته مع الإسلاميين دينية وليست سياسية، «فوزير الدفاع انقلب على الرئيس لأنه يسعى لتمكين التيارات المتشددة»؛ ولكي تنجح الخُطة كان لا بد من الإعلان عن «ثورة دينية» يقودها الرئيس المؤمن الجديد.
ولأول مرة يُصرح المفتي السابق الشيخ علي جمعة بجواز قتل المعارضين للسيسي، قائلًا: «من يريد أن يفرقكم فاقتلوه كائنًا من كان»، ثم يذهب شيخٌ آخر من علماء الأزهر إلى أبعد من ذلك، قائلًا: «السيسي رسولٌ من رسل الله»؛ لكنّ الإعلامي محمد الغيطي فاجأ الجميع عندما تحدث عن الرئيس المذكور في القرآن، والأمر نفسه تكرر في عهد السادات؛ فالشيخ الشعراوي دافع عن السادات في خطبة شهيرة داخل البرلمان، قائلًا: «لو كان لي من الأمر شيء، لحكمت للرجل الذي رفعنا تلك الرفعة، وانتشلنا مما كنا فيه إلى القمة، ألّا يُسأل عما يفعل».
وما بين الرئيسين تتكرر بعض المفارقات، ففي مايو (أيار) عام 1980، كان السادات مشغولًا بولايته الأخيرة التي أوشكت على الانتهاء، وكانت الحيلة الوحيدة للبقاء في السلطة هي تعديل فترة الرئاسة في الدستور، لكنه لن يجرؤ على طرحها وحيدة في استفتاء على الشعب الغاضب بسبب معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، إضافة للأوضاع المعيشية التي أشعلت انتفاضة الخبز قبلها بعامين.
وكان الحل الوحيد هو الدعوة للاستفتاء على تعديلات جديدة في الدستور المصري، أبرزها تعديل المادة الثانية لتصبح الشريعة «المصدر الرئيسي للتشريع»، إضافة لتعديل المادة 77، والتي تتعلق بحرية الرئيس في الترشح لمُدد رئاسية غير محددة، ولا يتقيد بفترتين رئاسيتين فقط، وفاز الاستفتاء باكتساح، وضمن الرئيس أنه باقٍ في القصر، لكنّ عدة رصاصات اخترقت صدره بعدها بأشهر قليلة، في مفارقة غريبة.
السيسي أيضًا وإن كان قد فشل حتى الآن في تحريك البرلمان لتعديل مواد الرئاسة المقيدة بفترتين في الدستور، لكنّه استطاع تحت دعوى محاربة «الإرهاب باسم الدين» القبض على المعارضين، وإصدار قانون الكيانات الإرهابية الذي يسمح بمحاكمة أي شخص ومصادرة أملاكه، إضافة للتجسس على أي شخص في ظل سريان قانون الطوارئ، وفي الوقت الذي يُمجد فيه الإعلام المصري الرئيس باعتباره حاميًا للدين، إلا أن المعارضة تتهمه بازدراء الإسلام ومحاولة تشويهه بتمسكه بلفظ التطرف الإسلامي الذي كرره أكثر من مرة في خطاباته، وهو لفظ رفض أوباما ترديده.
(3) الراقص على حبال موسكو وواشنطن
القصة القديمة التي يعرفها الجميع هي أن السادات استعان بالروس للانتصار على إسرائيل، ثم استعان بواشنطن للتخلص من التبعية العسكرية لروسيا، ولإجبار إسرائيل على الانسحاب من سيناء، وتوقيع معاهدة السلام، لكنّ بطل القصة، وهو الرئيس المصري، لم يُخبرنا في مذكراته كيف أجاد لعبة التناقضات خارجيًّا وداخليًّا مثلما فعل مع المعارضة.
السيسي أيضًا فعلها بجدارة، ففي الوقت الذي شهدت فيه العلاقات المصرية الأمريكية توترًا ملحوظًا بسبب موقف إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما من حركة الجيش في 3 يوليو (تموز) 2013، إضافة للتعنت في تسليم طائرات الأباتشي، قرر الرئيس الجديد أن يتوجه صوب روسيا كأنّه يُعيد أيام الرئيس الراحل عبد الناصر، فحصل هناك على عدة صفقات، إضافة لوعود بإنشاء محطة نووية، وبعض المشاريع الاقتصادية، وكان من المتوقع أن يتغير موقف مصر كُليًّا تجاه بعض القضايا، أبرزها القضية السورية، إذ صوتت مصر –قبل انتخاب ترامب- لصالح القرار الروسي في سوريا متجاهلة الرغبة السعودية في رفضه، ولم يكن هذا فقط سبب الغضب الأمريكي.
عقب قرار السيسي اختيار فايزة أبو النجا، مستشارة له لشؤون الأمن القومي، علّقت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، أن الرئيس المصري يختار أعداء أمريكا في المناصب الدبلوماسية، وتعتبر «أبو النجا» صاحبة أكبر أزمة في تاريخ البلدين، إذ تسببت في إغلاق عدد من الجمعيات الأمريكية غير الربحية في مصر ، متهمةً إياها بالعمل على إثارة الفوضى، وقد أجبرت القضية ابن سكرتير مجلس الوزراء الأمريكي على الاختباء في سفارة الولايات المتحدة لأسابيع؛ خوفًا من الاعتقال.
أيضًا يُعتبر وزير الدفاع الحالي، الفريق صدقي صبحي، من الشخصيات غير المحبوبة لدى واشنطن، ففي عام 2004، وبينما كان يحصل على درجة الماجستير في الولايات المتحدة، كتب ورقة توصية تفيد بأن إدارة بوش لا بد أن تسحب قواتها من منطقة الشرق الأوسط، وتركز بدلًا من ذلك على المعونات الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة، وقد أصيبت الإدارة الأمريكية بخيبة كبيرة عام 2012 عند تعيينه رئيسًا للأركان بدلًا من عنان الشخصية المقربة لها.
تغيّر الوضع كثيرًا بعد فوز ترامب بالرئاسة، فبعد تعنت روسيا في إعادة السياحة الروسية إلى مصر عقب سقوط الروسية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2015، إضافة إلى عدم خروج مشروع الضبعة النووي إلى حيّز التنفيذ حتى الآن، توجهت مصر كُليًّا إلى الولايات المتحدة التي تغاضت تمامًا عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر في أول زيارة للسيسي إلى واشنطن، قبل أن تتوتر العلاقات مرة أخرى عندما اكتشف ترامب خيانة الحليف الذي يرقص على الحبال.
فبعد إعلان الولايات المتحدة تجميد المعونة الأمريكية لمصر البالغة نحو 291 مليون دولار، بدعوى عدم إحرازها تقدمًا على صعيد احترام حقوق الإنسان والمعايير الديمقراطية، كشفت صحيفة «الواشنطن بوست» الأمريكية أن مصر تورطت في شراء صفقة أسلحة من كوريا الشمالية، وكان هذا سبب الغضب الأمريكي، تُرى هل أجاد السادات المناورة أفضل من السيسي؟
(4) هل يُقلد السيسي السادات حتى في أخطائه؟
بعد إرهاق الخزينة المصرية بسبب حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وعد السادات شعبه بالرخاء الاقتصادي؛ فتبنت الحكومة سياسة الانفتاح الاقتصادي الذي يقوم على تغيير التوجه المالي للدولة من الاشتراكية إلى الرأسمالية والاقتصاد الحر، من أجل تنشيط حركة التجارة، وكان لتطبيق تلك السياسات أثرٌ كبيرٌ في ارتفاع أسعار المواد الغذائية، إضافة لزيادة أعداد البطالة، حتى تحوّل الكبت إلى غضبٍ شعبي في يناير (كانون الثاني) عام 1977، والتي عُرفت بعدها باسم «انتفاضة الخبز» التي قامت إثر إعلان الحكومة قرارات تقشفية مع العام المالي الجديد، تستهدف رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، تلبيةً لرؤية صندوق النقد.
الأمر نفسه تكرر، فبعد عام 2011، تضرر الاقتصاد المصري نتيجة المرحلة الانتقالية، وتسبب هبوط الجنيه أمام الدولار إلى قرار الحكومة بتعويم الجنيه من أجل موافقة صندوق النقد الدولي على القرض الذي تقدمت به الحكومة المصرية، ويبلغ نحو 12 مليار دولار، وبعد مرور نحو عام على التعويم، لم ينخفض سعر الدولار أمام الجنيه بالصورة التي توقعها الخبراء، كما أن الأسعار ما زالت ترتفع باستمرار.
أمرٌ آخر قد يصعُب إغفاله؛ فالسادات وجد أنّ الحل الأخير للتخلص من المعارضة هو السجن، لا سيّما أن تلك الفترة شهدت تقاربًا إسرائيليًّا مرفوضًا، والسيسي أيضًا يعامل معارضيه بنفس النهج، وبحسب هيومان رايتس ووتش، فيوجد ما لا يقل عن 60 ألف معتقل في السجون المصرية، كما تحظى مصر بسجل غير مشرف وفق تقديرات حقوقية متعددة.
المصادر