لميس فايد
استكمالاً للمقال السابق، أود أن استهل مقالي هنا بعبارة للأستاذ Johan Boman
صاحب كتاب “Der Koran und die Juden: Geschichte einer Traegodie”
أي ” القرآن واليهود: تاريخ من التراجيديا، الصادر عام 1995، دارمشتاد-المانيا.
“بأنه ليس هناك قصص إنسانية وتراجيدية وتشابكاً من قصة نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم )واليهود”. ولعل لجوئي إلى هذا الكتاب الصغير في حجمه الكبير في قيمته هو ما اطلعت عليه من مادة مكتوبة عن اليهود باللغة العربية المطبوع منها والمنشور على الشبكة العنبوتية بشكل عام وعن اليهود في القرآن بشكل خاص. فهي تخلو من الموضوعية والأمانة العلمية والسياق التاريخي وقرأة أمينة لكل آيات القرآن التي تتناول اليهود. لا عجب أن جُل ما كتب كان تحت تأثير الظرف السياسي بعد قيام إسرائيل، فاختلط الماضي بالحاضر.
عرّف اليهود أنفسهم للعالم الغير اليهودي بانهم “شعب الله المختار” ويرى المسلمون أنفسهم “خير أمة أخرجت للناس” ولعل الصراع المحموم بين “خير أمة” و”المختار من الله” له جذور في الكتابات الدينية أهمهم على الإطلاق هو القرآن، الكتاب المؤسس للإسلام، العهد القرآني الأخير –لو كان لنا أن نضعه في سلسلة العهود السابقة في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. قد أفرد القرآن حيزاً كبيراًللحوار والجدل مع اليهود وتذكيرهم بتاريخهم وأنبيائهم في سياق الجدل مع النبي سواء في المرحلة المكيّة والمدنية. كان اليهود في جزيرة العرب أهم الطوائف الدينية التي احتكت بالإسلام، وكان على الإسلام هذا الدين الوليد أن يدلل على شرعيته من الأديان الإبراهيمية السابقة عليه لإثبات أنه ما اتى ليهدم ما سبق ولكن ليكمل العهد الإبراهيمي الأخير. يرى يوهان بومان السابق ذكره في كتاب اليهود والقرآن أن حوار القرآن مع اليهود كان حواراً شديد الخصوصية يجانبه المحاباة وحفظ امتياز التفضيل على العالمين في مرحلة السور التي نزلت في مكة (السور أو الآيات المكية) ويخاطب الله فيها اليهود “ببني إسرائيل” ليذكرهم فيها بمكانتهم وحمل الرسالة الأولى والأنبياء الكبار منهم
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ سورة البقرة آية47)
قد نزلت هذه الآيات وقتما كانت هناك علاقات طيبة بين يهود مكة ونبي الإسلام قامت على الأسئلة والتحاور والتحدي والجدل بما لدى اليهود في كتبهم الدينبة التوراة وأخرى خارج التوراة مما يشهد للقرآن علم جيد بالتراث الديني الإسرائيلي التي لانعلم حتى الآن تحديدا أن كان يهود مكة على هذا التمكن من العلم والمعرفة الجيدة بهذا الكم من النصوص، وبأي لغة دون ليقرأها اليهود العرب في مكة؟.
ثم يتحول الموقف تماما في مرحلة ما بعد الهجرة النبوية والصدام العنيف مع يهود المدينة المنورة، ومع هذا الصدام تحولت معه نبرة الوحي من تلك النبرة اللينة والمحابية للشعب صاحب الأنبياء الكبارؤ مثل إبراهيم ويوسف وموسى وسليمان وداوود والقائمة تطول، إلى نبرة غاضبة موبّخة يقرع الله فيها شعبه مرة أخرى ويذكره بأخطاء الماضي وعثراته مع الله وتحول الخطاب من بني إسرائيل إلى ي”اليهود” ومع هذا التحول دلالة عميقة. أصبح موضوع اليهود في القرآن من الموضوعات المربكة، المحيرة. ومع تصاعد الصراع العربي الإسرائيلي لجأ الإخوان المسلمون لتفسير الصراع من القرآن مع التركيز على جانب السور المدنية لإستبشاع الخصم وهنا تظهر عبارة أخرى دالة من عبارات كتاب بومان أنه طوال عصور الإسلام كان ينظر إلى آيات القرآن التي تتحدث عن اليهود لأخذ العبرة والعظة منها مثلها مثل آيات الأمم السابقة على الإسلام-إلى هنا ينتهي كلام بومان-. وأضيف من جانبي أنه قد تغيرت تلك النظرة تماما مع قيام إسرائيل، وهو بالفعل حدث كبير وفاصل في التاريخ، اكتسبت معه تلك الآيات دلالات وسياقات أخرى لا بالغ أن اراها جليلة بالأخص مع تلك التي تتحدث عن (وعد الآخرة) وأحوال آخرالأيام، أو علم آخر الزمان المعروف إسلاميا بأشراط الساعة.
يصف بومان أنه عند تأمل العلاقة بين اليهود والله في القرآن لابد من فهم الطبيعة الإلهية أولاً وهو أن لله تجلييين كبيرين تجلي الرحمة وتجلي الغضب، يتضح هذا في أسمائه الحسنى “الرحيم، الحنان، المنان” وأيضا ” القهّار، الجبار، المنتقم، وهو القاهر فوق عباده، الغالب” وكان في هذا الشأن لليهود جولات في اختبار أحوال الله معهم من تفضيل ورحمة وإنزال المن والسلوى وارسال الغمام ونجدتهم من آل فرعون، ومن غضبه وتوبيخه وغيرته منهم لما عبدوا العجل، ومن إخفاء بعضهم للحق. ولإستكمال هذه العلائقة الشائكة لابد من فهم جيد لطبيعة العهد الذي عقده الله مع موسى في سيناء وشروطه وعد التقليل من شأن التوراة بأ يحال من الأحوال لفهم موضوع ضخم كموضوع اليهود في القرآن.
يقول جوته شاعر الألمان الكبير ” أن التراجيدا تولد من رحم التناقضات الصارخة” ,ان تراجيدا محمد صلى الله عليه وسلم مع اليهود هي امتداد لتراجيدا أقدم بكثير هي تراجيدا اليهود وعلاقتهم بالله في العهد القديم حتى العهد القرآني. وأن هذا التوتر بين المحابة مع يهود مكة كان لابد أن تنقلب رأسا على عقب مع يهود المدينة، وأن تتحول القبلة من القدس إلى مكة، حيث أن التشابه الكبير بين توحيد الإسلام واليهود وتشابه شريعة موسى وشريعة الإسلام في خطوطها العريضة جعل الإسلام ككل يقتبر من اليهودية جدا وانه كان لابد من هذا الصدام العنيف أو “الفطام” ليولد دينا جديدا من رحم ما سبقه بالأخص اليهودية/ كان هذا الصدام أشبه بتلخيص روح من روح، روح جديدة من روح بالغة القدم هي روح العهد القديم.
ختاما أتذكر عبارة سمعتها من أحد اليهود في المانيا أنه “ليس هناك شيئا اكثريهودية من الإسلام”
وللحديث بقية في المقال القادم ..
لميس فايد-المانيا.