ماغنوس نوريل
قبيل اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل في خطاب ألقاه يوم 6 كانون الأول/ديسمبر، واجهت هذه الخطوة المتوقعة انتقادات شديدة من جانب "أعداء أمريكا التقليديين"، مثل إيران ومختلف الجماعات الإسلامية، وأيضًا من جانب حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والاتحاد الأوروبي. وقال ترامب – الذي كان قد أبلغ عددًا كبيرًا من أهم الأطراف الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنيته مسبقًا – إن "الأمر مجرد اعتراف بالواقع – وهو الخطوة الصحيحة". ولكن ما قصده منتقدوه هو أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى حدوث اضطرابات والمزيد من العنف، وأنها – وفقًا للمسؤول في "السلطة الفلسطينية" صائب عريقات – تعني تدمير أي فرصة لحل الدولتين.
ومنذ عام 1995 – عندما قرر الكونغرس نقل السفارة الأمريكية إلى القدس – قام كل رئيس أمريكي بالتوقيع على تنازل (يتجدد كل ستة أشهر) لتأجيل الخطوة، بما فيهم الرئيس ترامب. وكان المبرر لذلك أن هذه الخطوة قد تخل بأي مفاوضات سلام مستقبلية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولكن ترامب أعاد التأكيد في خطابه على العبارة المتكررة بأن الإسرائيليين والفلسطينيين يجب أن يقرروا الحل النهائي طويل الأمد بأنفسهم. كما ذكر أن نقل السفارة قد يستغرق عدة سنوات.
لذلك، لن يحدث أي تغيير فعلي في المستقبل القريب. وبالطبع، بالنسبة للإسرائيليين، فإن القدس عاصمتهم منذ 13 كانون الأول/ديسمبر 1949، ولا يوجد في خطاب ترامب ما قد يعيق أي من الطرفين عن التفاوض على اتخاذ القدس عاصمةً لدولتين، ولا ما ينفي أي مطالبات فلسطينية بالقدس. لا بل أكد على أهمية الحفاظ على الوضع القائم في ما يتعلق بالأماكن المقدسة.
والواقع أن حل الدولتين مع اتخاذ القدس عاصمةً لكليهما كان جزءًا من كل مقترح إسرائيلي منذ عهد إيهود باراك حتى اليوم. وكان الفلسطينيون هم من يرفضون المقترحات الأكثر تأثيرًا، مثل مقترح باراك في كامب ديفيد عام 2000 و"معايير كلينتون" في كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه واقتراح إيهود أولمرت عام 2008.
ومع ذلك، يمكن انتقاد ترامب لافتقاده بعض النقاط الرئيسية، أولها أنه كان من الممكن أن يصيغ الأمر بشكل أفضل. فقد كان من الأسهل أن يوضح بشكل صريح أن الجزء الغربي من القدس هو المقصود. أما الآن فغموض تصريحاته يجعل من السهل على منتقديه أن ينقضّوا على هذا الإغفال بحجة وجود "أجندة خفية" تهدف إلى حرمان الفلسطينيين من أية حقوق. أما ثاني هذه النقاط فهو التوقيت. فإذا كان قد ربط هذا الاعتراف بخطة السلام الجارية (كما يُزعم)، لكان من الأسهل ضمه إلى عملية سلام أوسع نطاقًا، ما يحد من تأثيرها.
وفي الوقت عينه، إن حساسية قضية القدس تجعل منها نقطة اشتعال محتملة، ليس بسبب ما قاله ترامب، ولكن لأن الأطراف الفاعلة الأخرى قد تقرر استغلال خطابه كذريعة للتحرك. وبالنسبة لمنتقدي ترامب الكثيرين، سيكون من المنطقي والنضج السياسي العمل مع مفاوضات متجددة ومطالبة الولايات المتحدة بتقديم بعض المقترحات الجادة أو طرح مقترحات جديدة بأنفسهم، بصرف النظر عن مدى اختلافهم مع النهج الحالي للولايات المتحدة.
وفي هذا الصدد، ينبغي ذكر روسيا بشكل خاص. فقد اعترفت روسيا بالقدس الغربية عاصمةً لإسرائيل في نيسان/أبريل، وأيّدت في الوقت عينه القدس الشرقية عاصمةً مستقبلية لفلسطين. وبذلك، أصبحت روسيا الدولة الأولى التي تقوم بذلك، ولكن الأمر مضى من دون أي إشارة تذكر في أي من وسائل الإعلام الكبرى، ولا حتى اعتراضات من الاتحاد الأوروبي أو أي مطالبات لعقد اجتماع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وعلى ذكر الاتحاد الأوروبي، فإن سياسة التشبث بالفكرة البالية بأن القدس كيان منفصل غير مجدية. فقد ضُمت هذه الفكرة في أول مقترحات الأمم المتحدة لتقسيم الانتداب البريطاني على فلسطين إلى دولتين، ولكنها اندثرت مباشرةً بعد حرب 1948-1949. والجدير بالذكر أن النظام اليهودي وافق على هذه الخطة، ولكن العرب – بما فيهم الفلسطينيين – رفضوا (ولكن يجب الإشارة هنا إلى أن القيادة الفلسطينية لم تكن منتخبة ديمقراطيًا في ذلك الوقت، وبالتالي فمن الصعب معرفة ما إذا كان الشعب الفلسطيني قد فكر بجدية في خطة التقسيم). ولطالما كانت فكرة القدس ككيان مستقل مجرد خيال لا وجود له إلا على الورق، وذلك بسبب رفض العرب لخطة التقسيم عام 1947 وخوضهم الحرب لمنع تنفيذها. وقد أدى الفشل في ذلك إلى تقسيم المدينة. فقد أصبح الجزء الغربي غير الديني إسرائيليًا (وبالتالي تحول هذا الجزء إلى العاصمة)، بينما أصبح الجزء الشرقي – بما يحتوي من جميع المواقع الدينية المهمة – تحت سيطرة الأردن (التي منعت دخول اليهود إلى أماكنهم المقدسة في القدس الشرقية). لذلك، عندما اعترفت الولايات المتحدة بإسرائيل عقب استقلالها، كان من الأسهل أن تعترف أيضًا بالقدس الغربية عاصمةً لها.
والجدير بالذكر أيضًا أن الموقف الحالي للمجتمع الدولي لم ينجح في دفع عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى الأمام. وقد جاءت النجاحات الوحيدة نتيجةً للمفاوضات المباشرة بين الطرفين. وكما ذكر آنفًا، لا يوجد في خطاب ترامب أو حتى في الخطوة النهائية لنقل السفارة ما يمنع أي تقسيم للقدس كعاصمة للدولتين.
وبالفعل، أدت هذه الخطوة إلى اندلاع العنف (ومن المؤكد أن المزيد سوف يحدث، وإن لم يكن بالضرورة في المنطقة)، ولكن ذلك لأن العديد من الأطراف – بما فيها حماس وإيران و"حزب الله" – لديها مصلحة في تصعيد الأمور لإحباط أي عملية سلام في مهدها. وقد لا ينتج ذلك بالضرورة عن أي شيء قاله ترامب، فهذا العنف يتعلق أكثر بوجود معارضة لأي سيادة يهودية في القدس. وفي هذا الصدد، ساعد الاعتراف في مكافحة الفكرة الخيالية الماكرة والمعادية للسامية – التي نشرها بعض الفلسطينيين وحتى قرارات اليونسكو – بأنه ما من حقوق يهودية وإسرائيلية شرعية في القدس. وبالطبع، فإن الفلسطينيين هم الضحية الأولى لهذا الموقف.
أما العنف والاضطرابات التي اندلعت في القدس والضفة الغربية وغزة، فلم تكن بالقدر المتوقع. وبما أنني متواجد في القدس حاليًا، تمكنتُ من متابعة المشهد من المدينة، كما استطعت التنقل في الضفة الغربية (في المنطقتين أ و ب). وبصرف النظر عن بعض الاضطرابات البسيطة، فقد تركّز العنف محليًا إلى حد كبير. وإن القدس قضية مهمة وحساسة بالنسبة للفلسطينيين، ولكن ما لم يتسبب الإسلاميون المتشددون (أو المنفردون المحليون) في إلحاق خسائر خطيرة، سيظل العنف محدودًا. ومن أهم الأسباب وراء ذلك التعاون الأمني المستمر بين إسرائيل والأمن الفلسطيني (على خلاف ما حدث في تموز/يوليو حول "جبل الهيكل")، والتفاهم القائم بين حركتَي "فتح" و"حماس" حول إبقاء العنف محدودًا، أقلّه في الوقت الراهن.
ومن المتوقع أيضًا أن "السلطة الفلسطينية" – وبالتأكيد عدد كبير من حلفائها العرب – ستتردد في المشاركة في أي عمليات سلام جديدة في الوقت الراهن، وذلك احتجاجًا ضد الإدارة الأمريكية. ولكن حسب خطة السلام الجديدة الجاري العمل عليها في واشنطن، قد يتغير هذا الموقف قبيل إعلان هذه الخطة، وذلك لن يحدث قبل العام المقبل. وفي الوقت عينه، هناك دلائل على أن غضب الجميع من اعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل لن يعيق العمل مع واشنطن على قضايا أخرى أكثر إلحاحًا.
أما بالنسبة إلى عباس (و"السلطة الفلسطينية")، فقد يتسبب خطاب ترامب في تبديل الوضع داخل النظام الفلسطيني، وهو أمر ضروري للغاية. ولمساعدة شعبه على العودة بقوة بعد أن تهدأ الأمور، يمكن لعباس المبادرة بإصلاحات سياسية ودعوة الجماعات الأخرى إلى "السلطة الفلسطينية" (بدلًا من مساعديه فحسب) وفتح المجال أمام العملية الانتخابية، وأخيرًا الإعلان عن انتخابات جديدة. وانتُخب عباس رئيسًا يوم 15 كانون الثاني/يناير 2005، وعلى الرغم من انتهاء ولايته يوم 9 كانون الثاني/يناير 2009 (بحسب الدستور الفلسطيني)، يرفض الاستقالة أو إجراء انتخابات جديدة. وعلى عكس ما يقوله منتقدو ترامب، فإن عملية تفاوض متجددة حول السلام والقدس يمكنها فتح آفاق جديدة أمام الفلسطينيين للتوصل إلى اتفاق سلام متماسك مع إسرائيل. ويمكن لعودة القدس على رأس جدول الأعمال أن تكون لصالح "السلطة الفلسطينية". وكما كتب هنا محمد الدجاني ومئير مرغليت منذ فترة قصيرة، فإن سكان القدس الفلسطينيين – الذين يشكلون 40% من عدد السكان الإجمالي- يمكنهم استخدام حقهم في التصويت لقلب الأوضاع في مجلس مدينة القدس. وبحسب الدجاني و مرغليت، فإن استخدام حق التصويت يتيح للفلسطينيين فرصةً جيدة للنهوض بحقوقهم والحرص على عدم نسيانها في أي مفاوضات سلام مستقبلية.
ويفيد التقييم الحالي بأن "السلطة الفلسطينية" – على الرغم من خطابها الناري – لا تريد التصعيد. وقد نقل هذه الرسالة إلى هذا المحلل أحد أعضاء المجلس التنفيذي لـ “السلطة الفلسطينية"، والذي أضاف أن السلطة تهدف إلى نوع من التصريحات الإيجابية فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية في القدس.
وبالنسبة إلى الكثير من منتقدي خطاب ترامب الذي أعلن فيه اعترافه بالقدس عاصمةً لإسرائيل، فقد قُضي الأمر بالتأكيد، ما أجبر الجميع على تقبل هذا الواقع الجديد. وللخروج من هذا الموقف بأي قدر من المصداقية، يُقترح أنه بدلًا من إصدار التصريحات أو انتهاج سياسية العنف أو محاولة الأمر ذاته مرارًا وتكرارًا (وهو بالمناسبة تعريف منتشر للجنون)، سيكون من البنّاء أكثر أن يقدموا بعض الاقتراحات الجدية بأنفسهم للتوصل أخيرًا إلى حل طويل الأمد للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
معهد واشنطن
ماغنوس نوريل هو باحث مساعد في معهد واشنطن