نصح الكاتب خالد البرى ابنته بقلمه الرشيق قائلاً احذرى يا ابنتى حراس الثوابت وحاولى ألا تعيشى أوهام أهل الكهف، الكسالى الذين ينظرون إلى الظلال على الجدران ويتوهمونها الحقيقة ويخافون أن يخرجوا من كهوفهم، فزعاً من النور والشمس، ولسعة المعرفة ودفئها، كتاب الأمية المقدسة الصادر عن دار العين كتاب صغير الحجم عظيم القيمة، ظاهرياً هو نصائح لابنته وحكى لتاريخ سيطرة رجال الدين على الفكر الإنسانى وتعطيلهم للتقدّم، لكنه فى الجوهر فضفضة الكاتب نفسه عن مراحل فك قيوده الفكرية وكيف خرج من أسرها بعلامات الاستفهام التى أضاءت له طريق الخلاص، منذ قضم آدم لتفاحة المعرفة والصراع بين المعرفة والأمية مستمر،
يتتبع الكاتب رحلة التلاقح الفكرى والاقتباس القصصى الذى أثر على وعى الشعوب من البابليين والفراعنة إلى العبرانيين وما بعدهم، معارف تلك الزمن جمعها من عالم الشفاهية من أطلق عليهم المؤلف محدثو التعلم، حوّلوا الشفاهى الأسطورى المتحرّر من الجمود القابل للتطور إلى قالب كتابى جامد صلب يجب على كل حديث وجديد أن يدخل فيه ويصبح على مقاسه،
وصارت معارف هذه المجتمعات الأمية القديمة علماً يتحكّم فى مقدرات البشر ومصائرهم.
فى تتبّعه للتاريخ، وجد البرى أن السلطة بحثت عن إجابة السؤال كيف نحكم ونتحكم؟، فاختارت نخبة الكهنة، ومن تحكم رجال الدين اليهود والمسيحيين يصل المؤلف إلى رجال الدين المسلمين ويلتقط الخيط ليجيب عن سؤال لماذا وُلدت سلطة الخلافة الإسلامية مشوهة؟،
يُجرى سوناراً على أحشاء المجتمع الإسلامى منذ نطفة الخلاف حول السلطة وطريقة اختيار الخليفة، ثم مضغة الخلاف حول دفع الزكاة، ثم علقة الخلاف بين عثمان وعلى، حتى وصلنا إلى جنين الخلافة التى ينتحر المجاهدون الإسلاميون فى أنحاء العالم من أجل استعادته من الحضانة!!، أسئلة تلد أسئلة، لماذا استعانت الدولة الأموية بطبقة رجال الدين واختراع الأحاديث التى تدعمهم؟، إنها مشكلة الشرعية التى حاولوا حلها، لماذا كرهوا علم الكلام أو الفلسفة؟،
لأنها ستناقش معضلة الحرية وتشكّك فى جبرية وقدرية حكم الأمويين للمسلمين، لماذا حُورب المعتزلة؟، لأنهم قالوا إن الله عادل ولا يمكن لعدله أن يستقيم مع ظلم هؤلاء الحكام، لماذا انتصر الغزالى صاحب إلجام العوام عن علم الكلام على إخوان الصفا أصحاب شعلة التنوير، وعلى حى بن يقظان المتسائل، وعلى ابن رشد أرسطو فلاسفة الإسلام وصاحب تهافت التهافت؟،
كان لا بد أن تنتصر ثقافة التلقيم والتلقين وتغتال الفلسفة، لأنها تطرح السؤال، والسؤال جريمة، ومحدثات الأمور شر، وليس فى الإمكان أبدع مما كان، واستراحت السلطة لحسم هذا الصراع والتخلص من صداع الفلسفة، ليس صدفة أن تنتشر منشورات مارتن لوثر الذى أيقظ أوروبا من سبات الإذعان والقهر الدينى فى الوقت نفسه الذى احتل فيه العثمانيون مصر، ليُخدّروا مصر وينوموها فى وصلة شخير امتدت لقرون، بينما ترجم الكتاب المقدس للغة الناس ولم يعد هناك أسرار يفهمها الكهنة فقط، رفض مفتى الأستانة دخول المطبعة لأن المفتى كان يشغل حينها منصب نقيب النساخين!، تبخّر الاحتكار هناك وترسّخ الاحتكار هنا، كبرت قضمة آدم وتمرّد على السائد،
وتساءل وصار يجادل أبانا، ميّز بين الحقيقة الناصعة والخطأ المحبّب والأكاذيب المريحة، خرج بيكون ليُعلن أن الأرض مجرد تابع وليست مركز الكون، نقلنا نيوتن من العقل الرياضى المغلق إلى العالم الفيزيائى الباحث لماذا، قام الهولندى فسالياس باقتحام أسرار الجسد من خلال علم التشريح، ثم جاءت صدمة داروين الكبرى ليفضح مقولة إننا قد خلقنا منذ ستة آلاف عام فقط، ويكسر غرور الإنسان الذى ما هو إلا حلقة تطورية فى شجرة الكائنات.
كتاب يطرح الأسئلة أكثر من الإجابات، وليست بنت خالد البرى هى التى تحتاج إلى تفعيل تلك الأسئلة، بل كل بناتنا وأبنائنا وصغارنا وكهولنا، الجميع يحتاج لأن ينفض عن عقله ووجدانه غبار الأمية المقدسة.