رصيف 22
تقول كتب التنمية الذاتية إنّ لا شيء يمنعنا من بدء حياة جديدة مهما كان ماضينا مؤلماً، لكن هل يصلح هذا النوع من المقولات أيضاً مع الجهاديين السابقين الذين حملوا أسلحة وصنّفوا الناس بين مؤمنين وكفار، وبناء على هذا التصنيف حددوا ما إذا كانوا يستحقون الحياة أو الموت؟
يحاول كتاب "لا عودة إلى الخلف" للصحافية رانيا أبو زيد، الحائزة على جوائز صحافية دوليّة عدة، أن يقدّم صورة مختلفة عن الحرب في سوريا، من خلال قصص إنسانية لأربعة شبان يبحثون عن الأمان والحرية في بلد مزّقته الحرب والصراعات الدوليّة.
من خلال القصص الإنسانية تحاول أبو زيد في كتابها، الذي حمل شعاراً فرعياً هو "الحياة والخسارة والأمل في زمن الحرب السورية"، أن تُبرز صورة عن الصراع في سوريا، وكيف تحوّل من ثورة بدأت عام 2011، كانت أهدافها الحرية والحق في الحياة، إلى كابوس.
يتضمّن "لا عودة إلى الخلف" حكايات من سجون النظام السوري ومن كواليس لقاءات سريّة استغلّت فيها دول ومنظمات أجنبية المعارضين السوريين بهدف تنفيذ أجندات معينة، لكن في المجمل يمكن اعتباره دراما إنسانية مفعمة بالحيوية، مليئة بشخصيات حيّة تظهر كيف يمكن للأمل أن يزدهر حتى وسط واحدة من أعظم الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
ومن بين هذه الشخصيات كان "صالح"، الذي اختارت له الكاتبة هذا الاسم المستعار، وقرّرت نشر قصته في صحيفة "نيويورك تايمز" باعتبارها تقدّم مشهداً إنسانياً بسيطاً، لكن شديد التعبير، عن حياة وأفكار جهادي سابق يعيش في أوروبا.
الرغبة بحياة جديدة
تقول أبو زيد إنها التقت صالح في مدينة أوروبية لا يعيش بها، بهدف أن تصبح موقعاً محايداً، وكان اللقاء في شارع جانبي هادئ بعيداً عن حشود المتسوقين والمتنزهين من المارة.
بدا حينها كـ"هيبستر" يرتدي بنطالاً ضيقاً وقميصاً رمادي اللون، لكن الحقيقة أنه لم يكن أبداً كذلك. لم يكن هذا شكله منذ سنوات، حيث عرفته أبو زيد لسنوات في مسقط رأسه سوريا، حين كان مقرباً من "أبو محمد الجولاني"، ثم مسؤولاً في تنظيم "القاعدة" في سوريا.
بحسب المقال، كان صالح عضواً سابقاً في مجموعة خاصة بـ"جبهة النصرة"، والمشترك بين أفرادها أنهم كانوا صغاراً في السن، أو كما قال صالح، "لم يكن بيننا أي واحد غزا لحيته اللون الرمادي".
لكن بعد سنوات عدة انضم صالح لحشود من السوريين قرروا ترك وطنهم الممزّق والتوجه إلى أوروبا، هرباً من ساحة معركة معقدة ومرعبة في آن، لكنه أبداً لم ينس حياته السابقة.
انشق صالح عن "جبهة النصرة" نتيجة ما يقول إنه رغبة تملكته في أن يبدأ حياة جديدة وأن يترك حياته القديمة وراءه. وفي العام نفسه الذي هرب فيه إلى أوروبا تعلم لغتين أوروبيتين، إضافة إلى لغته الأم العربية والإنكليزية التي كان يجيدها.
"رغبتي في تعلم شيء جديد، أي شيء، فقط لأستطيع تهدئة الأفكار التي تدور في رأسي،كانت السبب وراء ذلك" كما الجهاديّ السابق، في إشارة إلى كلّ الأفكار التي خلّفتها رحلته مع الأفكار الإسلامية المتشددة، أخطاء "جبهة النصرة"، الاقتتال الذي حصل بين "القاعدة" و"داعش"، وسوريا التي كان يظن أنها ستصبح أفضل لو رُفعت على أراضيها الأعلام الإسلامية السوداء.
"كنت مجرّد قطعة في اللعبة"
كان صالح واحداً من الذين ساعدوا الفرع المحلي لتنظيم "القاعدة" في زرع أعلامه السوداء على الأراضي السوريّة في نهاية عام 2011، بعد أشهر قليلة من الانتفاضة السلمية التي تحولت فيما بعد إلى حرب قتلت مئات الآلاف من الناس وشردت نصفهم، ولا تزال.
"الآن أستطيع رؤية رقعة الشطرنج بأكملها. قبل ذلك كنت مجرّد قطعة في اللعبة" يقول صالح للكاتبة، مضيفاً أنه لم يكن جندياً عادياً، بل كان قائداً ورأى أشياء عدة و"كان هناك كثير من الناس المضطهدين".
فيما بعد وجد صالح أن عناصر ما يُطلق عليه "الجيش السوري الحرّ" ليسوا كفاراً مثلما اعتقد لسنوات، كما اكتشف أن أعضاء "النصرة" كانوا معدومين الضمير مثلهم مثل المجموعات التي كان يكرهها ويعتبرها قاسية ومنهم خصومه في "داعش".
"لقد قتلوا مسلمين وغير مسلمين على حدّ سواء. سرقوا من المدنيين والمؤسسات، وكان من ضمنهم قادة جائعون للسلطة والمال، يحركهم الغرور والرغبة في الشهرة، كان هدفهم أن يصبحوا أسامة بن لادن الجديد، كان يمكنهم أن يقتلوا صديقاً لهم بنفس سهولة شربهم رشفة من الماء"، يقول الجهاديّ السابق."
الصراع الداخلي الذي بدأ بين "القاعدة" و"داعش" جعل أفكار صالح تتغير، حيث يقول "كنا أخوة وبعد أيام كنا نقتل بعضنا البعض".
من حسن حظ صالح أن وجهه لم يُعرَف ضمن صفوف جبهة النصرة، كان حريصاً على عدم الظهور في أي من تسجيلات الفيديو أو التسجيلات الصوتية للتنظيم. وكان لديه هوية سورية مزيفة تتيح له دخول تركيا، وبسببها أصبح قادراً على الجلوس بشكل علني في مقهى في اسطنبول بالسهولة نفسها التي كان يتواجد بها في معسكر تدريبي لـ"جبهة النصرة" في سوريا.
"تعلمت أن أعيش وأترك غيري يعيش"
تقول الكاتبة إن صالح نجح في التسلّل إلى أوروبا، التي كانت تخشى رجالاً مثله، وهي نفسها أوروبا التي قررت، بعد أن استوعبت ملايين اللاجئين، إغلاق أبوابها في وجوههم إثر الهجمات الإرهابية في فرنسا وبلجيكا، بهدف منع رجال مثله من دخولها.
لكن صالح يقول إنه تجاهل أيديولوجيته السابقة، مثلما تجاهل اسمه الحركي السابق، مضيفاً أن أوروبا علمته أن يعيش ويترك غيره يعيش، معتبراً أنه لم يعد يشكل تهديداً للناس.
بحسب ما نقلته أبو زيد عن صالح فهو حالياً ليس لديه مشكلة مع كل الناس المختلفين عنه الذي يسيرون في الشوارع.
"لم يكن الأمر كذلك بالنسبة له في الماضي، فمنذ انضم للجهادية السلفية لأول مرة، كانت لديه مشكلة مع كل آخر لا يتبنى أفكاره. وعلى سبيل المثال حين كان يشاهد امرأة كان يقول لنفسه "لماذا لا ترتدي الحجاب، لماذا تضع مساحيق تجميل"؟ لكنه حالياً يعتبر أنه ليس إلهاً كي يُخضِع الناس للمساءلة"، بحسب ما جاء في المقال.
ويعترف صالح قائلاً "أصبحت قناعاتي أن الأفكار التي أعتبرها خاطئة يكفي ألا أقوم أنا بها، لكن الآخرين يمكنهم القيام بما يشاؤون. ما رأيته هنا في أوروبا من (الكفار) كما اعتدت أن أسميهم يجعلني أقول إن بعضهم أفضل بكثير من الأشخاص الذين قابلتهم أثناء فترة (الجهاد). إنهم يهتمون بأعمالهم ويحترمون الآخرين".
لكن أبو زيد تطرح أسئلة عدة، تعقيباً على ما قاله صالح، ومنها هل هو فعلاً مقتنع بما يقوله؟ هل يمكن لرجل مثله أن يتغير حقاً؟ أم أن أفكاره المتطرفة نائمة، في انتظار أن تستيقظ ذات يوم؟ هل صالح متقبل حقاً تصرفات أفراد مجتمع كان يحتقرهم في الماضي؟ هل يشكل تهديداً حالياً لأوروبا؟ لتقول الكاتبة إنها لا تملك إجابات لتلك الأسئلة.
كيف تصبح شخصاً عادياً؟
كيف تشرّب صالح الأفكار السلفية الجهادية؟ تقول أبو زيد إن صالح كان قد قرأ في أواخر سن المراهقة كتباً محظورة لشخصيات إسلامية قبل أن يعتقله النظام السوري، لكن قبل ذلك كان خجولاً ولا يصلي بانتظام، كما أنه لم يكن "إسلامياً" وقتها. تغيّر كل شيء حين اعتقله النظام السوري.
يشرح صالح "كنت وقتها طفلاً، وسُجنت مع أعضاء من القاعدة"، مضيفاً أن السجن جعله متطرفاً. وعندما فتح النظام باب زنزانته في أبريل عام 2011، خرج يومها شخصاً مختلفاً عما كان في طفولته ومراهقته.
يعمل حالياً في مطعم، حيث يقوم بتنظيف الطاولات بعد مغادرة الزبائن. يقول إنه سعيد بذلك، بسبب أنه حين كان جهادياً في سوريا لم يكن شخصاً عادياً، لكنه الآن حين يقوم بمسح طاولات المطعم يشعر أنه يفعل بما يقوم به الناس الطبيعية.
لم يجد صالح فرص عمل أخرى أفضل من ذلك، ويقول عن ذلك ساخراً "ماذا سأضع في سيرتي الذاتية، إنني تخرجت من دورة تدريبية للقناصة؟".
لدى صالح الآن أصدقاء أوروبيين يقول إنهم فاجأوه بالطيبة التي أظهروها للاجئين السوريين. أما الزملاء السابقين له في "جبهة النصرة" فلا يعرفون مكانه الحالي، ودائماً ما يتجنب السوريين والعرب الآخرين عموماً كي لا يتعرفوا على خلفيته. عائلته فقط من تعرف مكانه.
إلى أيّ حدّ تغيّر صالح؟
حكى صالح لرانيا أن صديقاً أوروبياً ذهب به إلى طبيب نفسي، ظناً منه أنه بالتأكيد يمرّ بصدمات من مشاهد الحرب في سوريا، وطبعاً لم يكن هذا الصديق يعلم أي شيء عن ماضيه في سوريا.
حضر صالح بعض الجلسات ثم توقف، فـ"ما هو الهدف؟ كنت مستلقياً أمام الطبيب لكنني لم أستطع أبداً مصارحته بحقيقة ما قمت به، لقد قتلت رجالاً في المعارك ولم أعدم أحد أبداً، لكنني كنت شاهداً على آخرين وهم يفعلون ذلك مرات عديدة".
لا يزال صالح حتى اليوم يؤمن بما يسميه الإسلام المحافظ، ويتمنى لسوريا في المستقبل أن تصبح دولة إسلامية، يقول "لا أريدها مثل أوروبا وفي نفس الوقت لا أتمناها مثل داعش. أريدها في الوسط بينهما".