بقلم بابكر فيصل بابكر
أدلى وزير السياحة والآثار والحياة البرية السوداني السابق محمد عبد الكريم الهد الأسبوع الماضي بشهادته أمام محكمة جرائم الفساد ومخالفات المال العام في قضية سرقة شجرة صندل من داخل المتحف القومي إبان توليه الوزارة، ومما أثار الدهشة في شهادته قوله إن رجله لم تطأ أرض المتحف طوال فترة توليه منصب الوزير لأن "المتحف يحوي أصناما".
وربما تزول دهشة كثيرين عندما يعلمون أن الوزير السابق ينتمي للجماعة الوهابية المعروفة باسم "جماعة أنصار السنة المحمدية" وهي جماعة سلفية مدعومة من المملكة العربية السعودية، وتشارك منذ عدة سنوات في الحكومة السودانية التي يسيطر عليها تنظيم الإخوان المسلمين منذ عام 1989.
لا يحمل أهل التيار السلفي الوهابي أدنى تقدير للقيمة التاريخية والعلمية والحضارية للآثار. فالنقوش والرسوم والنحت بالنسبة لهم مجرد تصاوير محرمة، والتماثيل ليست سوى "أوثان وأصنام" يتوجب عليهم هدمها متى تمكنوا من ذلك دون النظر في علة تحريمها إن كانت بالفعل محرمة، وهم ينادون بتكسيرها سواء وجد من يعبدها أو لم يوجد.
وهم في اعتقادهم ذلك يستندون إلى أحاديث على شاكلة ما رواه مسلم (عن عمرو بن عبسة إنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء"). وكذلك رواية مسلم (عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته)".
هذه الأحاديث التي يتخذها السلفيون ذريعة لتحطيم الآثار هي التي دفعت أحدهم العام الماضي لتكسير تمثال "عين الفوارة" في وسط مدينة سطيف الجزائرية بمطرقة حديدية، وهي كذلك ما حدا بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لتحطيم متحف مدينة الموصل العراقية في عام 2015، ومن قبل ذلك حطمت حركة طالبان تمثال "بوذا" المقام في مدينة باميان الأفغانية في عام 2011.
يعاني العقل السلفي من حالة اغتراب زماني تجعل أصحابه يهيمون في أودية العصور الوسطى، فهو عقل مغلق لا يشغل نفسه كثيرا بالنظر في علل الأحكام، بل يكتفي بالمظاهر ويحتفي بالشكليات ويلوي عنق الحقائق الظاهرة حتى تتماشى مع التفسيرات الحرفية للنصوص، فهو على سبيل المثال لا يطرح السؤال المهم: لماذا لم يحطم المسلمون الأوائل الذين فتحوا تلك البلدان تمثال بوذا أو أبو الهول أو غيرهما من الآثار؟
وحتى إذا طرح السلفيون على أنفسهم ذلك السؤال فإنهم يجنحون لتبرير موقفهم بصورة ساذجة تثير الرثاء، فيقولون إن هناك ثلاثة احتمالات لعدم قيام الصحابة الأوائل بتحطيم تلك الآثار: أن تلك الأصنام كانت في أماكن نائية لم يصل إليها الصحابة، أو أن تلك الأصنام كانت غير ظاهرة، أو أنها كانت مغمورة ومطمورة!
وفي حين يستند أصحاب التيار السلفي إلى الأحاديث التي رواها مسلم فإنهم يتجاهلون الآية القرآنية الواضحة: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور)، والآية كما هو بائن لم تنكر عمل التماثيل بل عدته من النعم التي أنعم الله بها على نبي من أنبيائه.
بالطبع، فإن الموقف السلفي من الآثار والتماثيل لا يعكس بالضرورة الرؤية الإسلامية الوحيدة في هذا الشأن. فهناك العديد من الرؤى التي تبيح إنتاج التماثيل ما لم يكن الغرض من ذلك عبادتها. وفي هذا الخصوص، كتب الإمام محمد عبده مقالا عن قضية حرمة الصور والتماثيل بعد رحلة قام بها إلى إيطاليا قبل أكثر من مائة عام قال فيه: "يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من وجهة العمل".
غير أن الأمر المثير للدهشة في شأن الوزير السوداني هو الكيفية التي وصل بها إلى كرسي وزارة السياحة في حكومة الإخوان المسلمين. إذ لا يعقل أن تقوم حكومة راشدة بتعيين شخص في موقع بمثل هذه الأهمية في حين أن ذلك الشخص لا يؤمن أساسا بالرسالة التي يقوم عليها الموقع. فكيف ينتظر من رجل يعتبر التماثيل أصناما أن يقوم بتطوير المتاحف وما تحتويه من تماثيل حتى تجذب السياح من شتى بقاع المعمورة؟
صناعة السياحة تقوم على الانفتاح والتفاعل مع شعوب العالم التي تحمل ثقافات متنوعة ومتعددة، وهي لا يمكن أن تزدهر في ظل سيطرة عقلية منغلقة وذهنية تتغذى من فقه العصور الوسطى، وبالتالي فإن اختيار وزير سلفي على رأس وزارتها يعكس مدى الاستهتار الذي تتعامل به الحكومة الإخوانية مع المناصب.
ومما يثير الاستغراب كذلك أن الوزير الحالي للسياحة والآثار ينتمي لذات الجماعة الوهابية التي ينتمي لها الوزير المعني في هذا المقال، وهو الأمر الذي يشي بتواطؤ ما بين حكومة الإخوان المسلمين وجماعة أنصار السنة يهدف لتكبيل انطلاقة صناعة السياحة في بلد تمتد حضارته لآلاف السنين في عمق التاريخ، وهي حضارة تركت آثارا يمكن أن تجذب ملايين السياح إذا أحسن إدارة شأنها.