حازم صاغية
الإسلام السياسيّ مفهوم واسع جدّاً. متضارب ذاتيّاً. منقسم مذهبيّاً. غير متجانس في المصالح أو المناطق أو الطبقات أو التأويل. فيه جماعات كـ «الإخوان» ومحاربون كـ «داعش». قد يقيم جمهوريّة إسلاميّة، كما في إيران، وقد يحافظ على شيء من العلمانيّة والديموقراطيّة التمثيليّة، كما في تركيّا. لكنْ على تنويعاته، فإنّ أحواله لا تطمئن أصحابه. كلّ قول بتدخّل الدين في السياسة، أو اشتقاق السياسة من الدين، هو اليوم مأزق.
وأن يكون الاقتصادُ السببَ المباشر في معاناة النظامين الإيرانيّ، ذي الإطلاقيّة الدينيّة، والتركيّ، ذي النسبيّة الدينيّة، فهذا إنّما يرمز إلى مصاعب التكيّف مع العالم الحديث استناداً إلى عدّة فكريّة بسيطة، وإلى قرارات تهبط على المجتمع من موقع سلطويّ مغلق لا مكان معه لاستشارة الناس في أمور حياتهم. صحيح أنّ السياسات التي تتّبعها إدارة ترامب هي التي لعبت دور الصاعق المفجّر في إيران، وبدرجة أقلّ في تركيا. ينطبق هذا خصوصاً على الانسحاب من الاتّفاق النوويّ، وفرض الرسوم الجمركيّة على الصلب والألومينيوم المستوردين. لكنّ الصحيح أيضاً أن الأسباب الداخليّة، في سياسات البلدين وإدارتهما الاقتصادية، تبقى الأساس.
في إيران يتضافر الفساد الفلكيّ والإنفاق الموسّع على المشاريع العسكريّة الإمبراطوريّة لتصديع الاقتصاد الوطنيّ. ولا نزال نذكر ان «الثورة الخضراء» في 2009 وكانت أبرز تحدٍّ يواجهه النظام منذ الثمانينات: بدأت بالاعتراض على نتائج الانتخابات وانتهت اعتراضاً على السياسات التوسّعيّة وأكلافها.
في تركيا، وبعد النصف الأول من سنوات حكم «العدالة والتنمية» الذي اتّسم بنجاحات اقتصادية باهرة، بدأ العد العكسيّ الذي تلازم مع تعاظم هيوليّ في المديونيّة ليجد تتويجه في نزاع إردوغان، وقد صار رئيساً للجمهوريّة، مع البنك المركزيّ، وإطلاقه نظريّاته العشوائيّة في نسب الفائدة، ثمّ دعوته الأتراك إلى شراء الليرة المنهارة. إلى ذلك، سلّم صهره بارات ألبيراق وزارة المال.
هذان التطوّران قد يُسقطان، وقد لا يُسقطان، النظامين. لكنّ وظائفهما الخارجيّة ستتأثّر حتماً. من المستبعد أن تستطيع إيران المفلسة المضيّ في تمويل شبكتها الممتدّة من اليمن إلى غزّة مروراً بالعراق وسوريّة ولبنان. ويُرجّح أنها سوف تحاول توريط العراق (ولبنان) بتحميله بعض أكلاف أزمتها.أمّا تركيّا، فسوف ينهار تماماً ما تبقّى من جاذبيّة النموذج الذي طرحه حزبها الحاكم ومشايعوه، أي ما وُصف بـ «المصالحة (الأردوغانية) بين الإسلام والحداثة». وهذا بعد الضربات الموجعة الكثيرة التي نزلت تباعاً بهذا النموذج، لا سيّما التجاوز المتمادي على الديموقراطيّة، وتالياً الإعلام والقضاء والمجتمع المدنيّ، منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة صيف 2016.
هذه الانتكاسات الكبرى لا تكتمل من غير الإشارة إلى أحداث وتطوّرات سابقة عليها: في الجزائر، تراجعت كثيراً قوّة الأحزاب الإسلاميّة، على ما دلّت الانتخابات المحلّيّة الأخيرة. في تونس، تعايشت «حركة النهضة»، أو قيادتها على الأقلّ، مع الواقع الجديد. في المغرب، رضي «حزب العدالة والتنمية» برئاسة الحكومة وكفى الله المؤمنين القتال. قبل ذلك، ومنذ 1999 مع خلاف البشير والترابي، لم يعد الإسلاميّون، بصفتهم هذه، يحكمون السودان. أهمّ من ذلك كلّه كانت إطاحة الرئيس الإخوانيّ محمّد مرسي في مصر، أواسط 2013، وصعود «داعش» ثم اندحارها في العراق، ومسؤوليّة التنظيمات الدينيّة المتطرّفة، والمكمّلة لمسؤوليّة الأسد، عما آلت إليه أمور سوريّة، وسلطة «حماس» في غزّة التي ضربت الرقم القياسيّ في رداءة الأنظمة اقتصاداً وتعليماً وحرّياتٍ. وبألعابها الصغرى، أكانت على شكل معارك أم على شكل هُدن، باتت «حماس» تقدّم لإسرائيل الذرائع المجانيّة كي تمارس فتكها المجنون بالمدنيّين في غزّة. لنا أن نتوقّع أيضاً احتداماً في العلاقات البينيّة لأطراف الإسلام السياسيّ العراقيّ بعد التزام حيدر العبادي بالسياسة الأميركيّة حيال إيران.
هذا لا يعني أنّنا لن نشهد حركات اعتراضيّة راديكاليّة ودينيّة. فالأرض تزداد خصوبة لمثل هذه الحركات. المؤكّد أنّ صفحة طويت، فيما على الجدد أن يفتحوا صفحات جديدة.
الحياة اللندنية