تعيش الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هذه الأيام فترة صعبة وفارقة، بعد قتل الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أبو مقار، داخل الدير، واعتراف الراهب إشعياء المقاري أمام جهات التحقيق بشكل رسمي بالقيام بالجريمة. واتخذ البابا تواضروس الثاني ١٢ قرارا للسيطرة على الرهبان، أهمها تعليق قبول طلبات الرهبنة لمدة عام ومنع الرهبان الحاليين من الخروج من الأديرة دون تصريح أو استخدام مواقع التواصل الاجتماعي.
وبغض النظر عن دوافع ارتكاب الجريمة فإن السيناريوهات المطروحة لتفسيرها تدعو للقلق، ذلك في ضوء السياق الذي تمت فيه، والمسئوليات التي كان يتولها الأسقف الراحل، ومكان الجريمة، لاسيما أنها المرة الأولى التي يشهد فيها أحد الأديرة حادثة اغتيال لرئيسه وبهذه الطريقة البشعة، وهو ما أكدته قرارات الكنيسة المتسارعة فيما يخص تنظيم الأديرة المصرية. وعلى الرغم من أنه من المبكر جدا الآن الوصول لاستنتاجات قاطعة بشأن حادثة جديدة نوعيا، كتلك التي نتعامل معها، سيحاول هذا المقال أن يقدم قراءة في دلالات الحادثة، وطريقة تعامل الكنيسة معها، وتأثيرها على سياسات الكنيسة في المستقبل.
ما حدث بدير أبو مقار لا يعد جريمة جنائية عادية، ارتكبها مواطن ضد مواطن آخر. نحن إزاء عملية اغتيال، راح ضحيتها رجل دين كبير، قام بها راهب بمساعدة آخرين من نفس الدير، ذلك لأسباب متداخلة، منها ما يرجع للخلافات الإدارية حول سلوك مرتكب الواقعة، تم تجريد المتهم الرئيسي الراهب إشعياء من الرهبنة بعد عدة أيام من الحادثة، لمخالفته نظام الرهبنة، ومنها ما هو مرتبط بالخلاف الفكري الموجود الكنيسة، بأن يكون القصد من الجريمة التيار الفكري الذي ينتمي إليه الضحية، ووضع حد لتناميه وقوة نفوذه داخل الكنيسة.
عملية الاغتيال هذه لها سمات وتداعيات ستكون صعبة إذا لم ينجح مسئولو الكنيسة في إدارة الأزمة، أول هذه السمات أنها تظهر أن العنف انتقل من خارج الأديرة إلى داخلها، فعادة ما كانت هذه الأماكن بعيدة عن ارتكاب الجرائم خصوصًا القتل، لاسيما أن الرهبان الذين يعيشون بها قد تخلوا عن حياتهم الطبيعية طواعية، واختاروا حياة الزهد. وثاني الدلالات – في حال كون الخلاف الفكري أحد دوافع الجريمة- أننا أمام مرحلة جديدة انتقل فيها الخلاف الفكري بين رجال الدين من مرحلة التشهير والإتهام بالبعد عن العقيدة إلى مرحلة العنف المادي والإغتيال، وثالثها أن ثمة مشكلة كبيرة داخل نظام القبول والتعليم للرهبان داخل الأديرة.
ولا يمكن قراءة واقعة اغتيال رئيس دير أبو مقار بمعزل عن مكانة دير أبو مقار في الصراع الفكري داخل الكنيسة والمقر البابوي، ودور الأنبا إبيفانيوس في صناعة القرار، لسنوات طويلة شهدت العلاقة بين الدير والمقر البابوي قبل اختيار البابا تواضروس الثاني في نوفمبر 2012، توترًا واضحًا وقطيعة إدارية وفكرية، حيث كان يسود الكنيسة تيارين الأول محافظ وتقليدي شعبوي يقوده البابا شنوده، وهو تيار مسيطر ونافذ، يميل إلى أحادية الرأى، يخلط بين النص المقدس وتفسيراته، ويرسخ لقيام الكنيسة بتمثيل الأقباط والتعامل معهم كطائفة دينية، وهو تيار شجعته الدولة، لأسباب عديدة أبرزها لسهولة استخدام الأقباط ككتلة مؤيدة وداعمة لنظام الحكم. بينما كان التيار الثاني تجديدي، ويقوده الأب الراحل متى المسكين مسؤول الدير لسنوات طويلة، يرى أن الكنيسة ليست مؤسسة الأقباط، وأن الكنيسة ليست بديلاً عن الدولة، فكان رافضًا لأن تقوم الكنيسة بتمثيل الأقباط أمام الدولة، كان هذا التيار التجديدي موجود بشكل أساسي داخل دير أبو مقار، خصوصا بعد موجة الاتهامات من جانب التيار الأول للثاني بإفساد العقيدة ومنع تداول كتب الأب متى المسكين بالكنائس.
أما القطيعة الإدارية، فكانت بسبب فشل البابا شنودة الثالث الذي بقى في منصبه واحد وأربعين عامًا، في السيطرة على دير أبو مقار الذي ظل بعيدًا عن مركزية الكنيسة، وتمتع باستقلالية كبيرة في اختيار رهبانه، ووضع القواعد المنظمة لهم، وإدارة الموارد الاقتصادية للدير.
زادت حدة الخلافات بين التيارين الفكريين خلال الفترة الأخيرة، على خلفية توجهات البابا تواضروس الثاني، وابتعاده عن أفكار البابا شنودة الثالث، واقترابه من أفكار الأب متى المسكين، بداية من حديثه المتواصل عن اتخاذ خطوات للإصلاح الإداري بالكنيسة، ومحاولة معالجة الملفات الشائكة كملف الأحوال الشخصية، والانفتاح تجاه الكنائس العالمية، وتعزيز العلاقات والحوارات اللاهوتية بينها، فقد عمل البابا تواضرس على استقدام أنصاره إلى المقر البابوي، واستبعاد عدد من قيادات الحرس القديم من مركز صناعة القرار بالكنيسة، وحظى الأسقف الراحل الأنبا إبيفانيوس الذي يعد من تلاميذ متى المسكين بثقة البابا تواضروس فيما يخص إحياء التراث الآبائي وتعزيز العلاقة مع الكنائس العالمية.
ولذلك اشتد غضب التيار الآخر المتشدد الذي يتزعمه سكرتير المجمع المقدس السابق وعدد من كبار الأساقفة، ورابطة “حماة الإيمان” المكونة من خدام وكهنة ومعلمين تنشر قوائم بأسماء من ترى إنهم يفسدون العقيدة.كان من أبرز الخلافات موضوع الاعتراف المتبادل بالمعمودية مع الكنيسة الكاثوليكية إبان زيارة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان إلى مصر في إبريل 2017. ثم زادت حدة الخلافات قبل اجتماعات المجمع المقدس الأخيرة خلال مايو الماضي، والذي شهد قرارات أحدثت تغييرًا هيكليًا وجذريًا في مسؤولي اللجان داخل المجمع المقدس – أعلى سلطة دينية في الكنيسة- وعين الراحل الأنبا إيبفانيوس مراقبًا للجنة الباباوية للحوار مع الكنائس وتغيرت سكرتارية المجمع المقدس.
وعلى الرغم من أننا أمام حادثة واحدة، من الصعب الوصول من خلال ملابساتها وحدها إلى أي تعميم بشأن العلاقات بين الأطراف المتصارعة داخل الكنيسة أو خارجها، إلا أن الخلافات الفكرية داخل الكنيسة ألقت بظلالها على معالجة قيادات الكنيسة للأزمة، وتميزت هذه المعالجة بعدة سمات من أبرزها:
– وجود رغبة في إعلان نتائج التحقيقات، فقد أعلنت الكنيسة منذ اللحظات الأولى للحادثة، أنها أبلغت السلطات المصرية التي تتولى التحقيق، من خلال النيابة العامة وقوات الأمن، وهو الأمر الذي أكد البابا في عظته الأخيرة بأنه لا تستر على مرتكب الواقعة، وهو مسلك يكتمل بإعلان جهات التحقيق أسماء المتورطين في الحادث سواء منفذين أو محرضين، ودوافعهم للجريمة.
– عدم التقليل من الحادثة، فقد أدركت قيادات الكنيسة أن مقتل أسقف أمر خطير، ولا يمكن وصفه بأنه حادث فردي، ويؤكد ذلك القرارات التي أصدرتها لجنة الرهبنة وشئون الأديرة لانضباط الحياة الرهبنية والديرية في ضوء استشهاد الأنبا إبيفانيوس وفقا للبيان الصادرعنها، منها: وقف قبول طلبات الرهبنة لمدة عام، عدم القيام بأية تعاملات مالية إلا بأذن من رئيس الدير، عدم تحدث الرهبان لوسائل الإعلام، غلق حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، منع خروجهم من الدير إلا بأذن.
– استمرار ملامح الصراع بين التيارين داخل الكنيسة، بالرغم من تأكيد البابا تواضروس أن الكنيسة ليست سلعة تحتاج لمن يحميها، وأن إيمان الكنيسة محمى بصاحب الكنيسة المسيح، ولكن في رأيي أن التيار المتشدد في مرحلة سكون انتظارًا لمرور الظرف الذي تعيشه الكنيسة، في انتظار مواجهة أخرى قادمة، فقيادات هذا التيار تعاملت مع مقتل الأسقف بتجاهل، وكأن شيئًا لم يحدث.
– نشطاء الأقباط أصبحوا جزء مهم من المشهد، فقد تناولوا الحادث بمناقشات مستفيضة وساخنة خصوصا على مواقع التواصل الاجتماعي، مما أدى لتراجع الحساسية الشديدة التي كانت عادة ما تصاحب مناقشة القضايا الخاصة بالكنيسة ورجال الدين المسيحي، سواء خوفًا على صورتهم، أو خوفًا من طريقة استقبال الأغلبية المسلمة للواقعة، في هذه الحادثة طرح كل فريق وجهة نظره التي تضمنت اتهامات واضحة لبعض رجال الدين بلعب دور مباشر أو غير مباشر فيما وصلت إليه الأحداث، قد يكون مرجعية ذلك خروج الأقباط إلى المجال العام عقب ثورة 25 يناير واكتسابهم خبرة مجتمعية، ورغبة في مناقشة القضايا المسيحية بشفافية وبدون حساسية.
– قد تستخدم هذه الحادثة كمبرر لفرض مزيد من التضييق على الزيارات إلى الأديرة، والتواجد الفعال والمؤثر لأجهزة الأمن بداخلها. منذ عام ونصف العام مُنعت الرحلات الدينية إلا بأذن الجهات الأمنية، بحجة الخوف من استهدافها من قبل الجماعات المسلحة، الآن قد تنقل الجهات الأمنية تواجدها الذي كان خارج الأديرة إلى داخلها، وهو ما يؤثر على استقلالية الأديرة.
عزاؤنا الوحيد في تجاوز هذه الأزمة البشعة هو أن نرى في الظروف الحالية فرصة في إجراء إصلاحات هيكلية في تعليم الكنيسة، ونظام الإدارة بها، وإعادة التوازن المفقود للعلاقة بين رجال الدين وعموم الأقباط. فالإعلان عن المتهم بقتل الأنبا أبيفانيوس رئيس دير أبو مقار و قرارات لجنة الرهبنة وشئون الأديرة وكذلك حديث البابا تواضروس، كلها تعد خطوة أولى في طريق طويل وشاق لمعالجة تداعيات الأزمة. ولن يتم بدون إدراك مشترك من قادة الكنيسة والأقباط أن استمرار الوضع الحالي مضر ومؤذي للكنيسة القبطية وعموم الأقباط.
معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط