بقلم بابكر فيصل بابكر
أشرت في مقال سابق إلى الاستهداف الممنهج الذي يتعرض له المسيحيون في السودان، وضربت مثالا لذلك باستمرار الحكومة السودانية في سياسة هدم الكنائس التي بدأت منذ استيلاء جماعة الإخوان المسلمين على السلطة عبر الانقلاب العسكري في حزيران/يونيو 1989.
أتناول في هذا المقال بعدا آخر من أبعاد حملة التضييق الحكومية على المسيحيين يتمثل في استهداف المدارس الكنسية التي لا تزال تعاني من آثار القرار الجائر الذي أصدرته وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم العام الماضي، والذي فرض على تلك المدارس التوقف عن العمل وعدم تدريس الطلاب يوم السبت باعتباره عطلة رسمية في الولاية.
في البدء لا بد من إعطاء خلفية تاريخية مبسطة عن المدارس الكنسية في السودان. بدأت تلك المدارس في العمل منذ العام 1929 ويبلغ عددها حاليا 41 مدرسة بولاية الخرطوم، وتفوق نسبة الطلاب المسلمين الذين يدرسون بها نسبة 90 في المئة من مجموع طلابها البالغ عددهم 30 ألفا في ولاية الخرطوم وحدها. وقد أضحت تلك المدارس وجهة مفضلة لأولياء الأمور بسبب انضباطها وتميزها ومعقولية رسومها.
بدأت أزمة المدارس الكنسية في العام 2008 عندما أصدرت الحكومة قرارها بأن تكون العطلة الأسبوعية في الدولة يومي الجمعة والسبت بدلا عن الجمعة فقط كما كان في السابق. حينها أبلغت إدارات المدارس الكنسية وزارة التربية بأن يومي عطلتها المعروفة منذ تأسيسها قبل حوالي مئة عام هما الجمعة والأحد من كل أسبوع. ولما كان القرار الصادر يجعل السبت أيضا عطلة رسمية، فإن مدارسهم سوف تتأثر تعليميا، لأن العطلة الأسبوعية ستصبح ثلاثة أيام مما يؤثر على عامها الدراسي وتحصيل الطالبات والطلاب والتمسوا منها منحهم استثناء بالعمل يوم السبت، وقد تم تفهم الأمر من المسؤولين وتم استثناء تلك المدارس.
منذ تاريخ منح الاستثناء، والذي تجاوز الأعوام الدراسية الثمانية، استمرت المدارس الكنسية في أداء رسالتها التعليمية بصورة طبيعية إلى أن تلقت إدارات المدارس في شهر تموز/يوليو من العام 2017 رسالة من إدارة التعليم بولاية الخرطوم تطلب منها التوقف عن العمل وعدم تدريس الطلاب يوم السبت مع التنبيه بأن السبت عطلة رسمية وغير مسموح للمدارس العمل فيه.
ظلت المدارس الكنسية تعيش حالة من عدم الاستقرار منذ صدور ذلك القرار حيث تقلصت أيام الدراسة فيها إلى أربعة أيام فقط، وبات أولياء الأمور يعيشون حالة من القلق على مستقبل أبنائهم وبناتهم المهدد بالضياع مما دفعهم لتكوين لجنة للاتصال بالجهات الحكومية المسؤولة حتى تتم معالجة الأزمة التي تسبب فيها القرار.
لكن، للأسف الشديد، فإن جميع الأبواب أوصدت في وجه تلك اللجنة التي استمرت في إصدار البيانات التي توضح فيها تهرب المسؤولين من الإجابة على طلبها وكان آخرها بيان صادر قبل عشرة أيام.
بعد أن سردت لجنة أولياء الأمور المساعي التي بذلتها دون جدوى مع الجهات الحكومية ذات الصلة بالقرار (مجلس الوزراء ومجلس ولاية الخرطوم التشريعي) قالت في بيانها الأخير الموجه لأولياء أمور التلاميذ "نستطيع أن نقول إننا لم نجد أي أذن صاغية من هذه الجهات، وكأن الأمر لا يعنيها. عليه نعيد الأمر لكم مرة أخرى لتقرير ما يمكن فعله إزاء هذا الموضوع".
في شرحه لحيثيات قرار وقف الدراسة يوم السبت، قال وزير التربية والتعليم بولاية الخرطوم فرح مصطفى، في تصريح لصحيفة "الصيحة" المحلية إن القرار جاء إنفاذا لسياسات الدولة، وإن منح بعض المدارس عطلة لطلابها يوم الأحد بدلا عن السبت يعتبر مخالفا للوائح التعليم.
لكن تبرير الوزير مصطفى للقرار يثير الكثير من التساؤلات التي تؤكد أن أسباب اتخاذه ليست تلك التي ذكرها؛ فإذا كان القرار قد جاء إنفاذا لسياسات الدولة كما ذكر الوزير، فما هو السبب الذي جعله يتغاضى عن تنفيذ تلك السياسات طوال السنوات الثماني التي تم فيها استثناء المدارس الكنسية من قرار العطلة الأسبوعية؟ مع العلم بأنه طيلة هذه المدة لم تحدث أية تجاوزات من تلك المدارس تجعل الوزارة تعدل عن قرارها، ولم تشتك أية جهة حكومية أو أهلية من ضرر وقع عليها بسبب ذلك الاستثناء.
ومن ناحية أخرى، إذا كانت عطلة السبت تمثل مخالفة للوائح التعليم، فلماذا لم تقم وزارات التربية والتعليم في الولايات الأخرى بإلغاء عطلة السبت، لتكون ولاية الخرطوم هي الولاية الوحيدة التي اتخذت هذا القرار؟ وهل يعني ذلك أن تلك الولايات لا تقوم بتنفيذ سياسات الدولة؟
لا شك أن قرار وزارة التربية يضرب في صميم التنوع والتعايش الديني والاحترام المتبادل بين جميع الطوائف، فقبل صدوره كان الطلاب المسلمون يذهبون في عطلة يوم الجمعة، وهو أمر لم يكن يحتج عليه زملاؤهم من المسيحيين لأنهم يفعلون ذات الشيء يوم الأحد إذ تتعطل الدراسة كي تتاح للمسيحيين فرصة العبادة، وأيضا لا يحتج الطلاب المسلمون.
من الجلي أن قرار الوزارة يهدف فقط إلى إجبار المدارس الكنسية على إلغاء عطلة الأحد، وليس له مبرر آخر. وهو بالتالي يمثل حلقة من الحلقات العديدة الرامية لسلب حقوق المسيحيين، إذ أن عطلة يوم الأحد ظلت تمثل تقليدا وعرفا راسخا، وإلغاؤها سيحرم التلاميذ المسيحيين من التواصل مع الكنيسة.
وكذلك فإن القرار لم يراع مصالح التلاميذ وأسرهم، ولم يهتم كثيرا بما سيترتب عليهم من جهد إضافي وإرهاق نفسي وبدني وعقبات أكاديمية.
إن تعمد المسؤولين الحكوميين التهرب من مقابلة لجنة أولياء الأمور، إضافة إلى الحيثيات الضعيفة التي بني القرار على توضح بجلاء أن الغرض من ورائه ليس خدمة قضية التعليم أو التلاميذ بل هو جزء من السياسات التمييزية التي ظلت تنتهجها الحكومة تجاه المسيحيين منذ أن استولت على السلطة في البلاد.
من المعلوم أن هذه السياسات التمييزية ضد المسيحيين قد تضاعفت بعد انفصال جنوب السودان حيث اتخذت الحكومة عددا من الإجراءات، منها على سبيل المثال إلغاء عطلة عيد الميلاد المجيد، وقصرها على المسيحيين فقط، على أن يكون ذلك اليوم يوم عمل عاديا للمؤسسات والمدارس والهيئات الحكومية والخاصة، بعدما كان عطلة رسمية. كذلك، عمدت الحكومة إلى تصفية بعض المؤسسات المتصلة برعاية شؤون المسيحيين، وتعيين مسلمين في البعض الآخر.