لماذا تحولت المصافحة على يد الفقهاء من فعل تلقائية ومودة بريئة إلى فعل جِماع وشهوة وتلذذ؟ كيف خلطوا بين اللمس فى المصافحة واللمس باعتباره مجازا مباشرة ونكاحا؟ وما معنى أن يحرِّموا مصافحة الرجل الذى يشتهى؟
عصام الزهيري
على رأس ما يمكننا أن نعتبره من العادات والتقاليد فى أى مجتمع هو سلوكياته تجاه النساء فيه، أو من اصطلحنا على تسميتهن بالجنس الآخر.
ولا يمكننى معرفة الأصل الذى خرج منه هذا المسمى، وقد يكون قد أطلق على سبيل المداعبة وروح المرح فى البداية، لأن المعروف أن مجموع الإنسانية كلها برجالها ونسائها جنس واحد وليس جنسين، وأن الذكر والأنثى ملمحان من ملامح هذا الجنس الواحد، لا يصير الجنس جنسا إنسانيا بالذكور فقط ولا بالإناث فقط، وليس كل منهما جنسا مستقلا طبقا لأى تصور علمى أو منطقى، بل ويسري هذا التصور على ما سمي ترتيبًا بعد ذلك بالجنس الثالث، وهم المخنثون، الذين يشكلون جزءًا لا يتجزأ بدورهم من الجنس الإنساني، سواء اعتبرناه جزءا قد لحقه الشذوذ أو التشوه أو المرض من الجنس الإنساني أو اعتبرناه تجربة إنسانية مغايرة من تلك التجارب التى صممها الخالق ليختبر بها نفس الإنسان.
لكن هل لهذه التفرقة أهمية؟ أهميتها تتمثل فى أننا يجب أن نكون على وعي دائما بأن العادات والتقاليد ما هى إلا تنظيم للعلاقات الداخلية بين أبناء الجنس الإنساني الواحد، وأن المرأة ليست كائنا مختلفا كليا عن الرجل، أو جنسًا ثانيًا يغترب الجنس الذكرى «الأول» أمامه ويتحوط فى سلوكه تجاهه كما يتحوط فى مواجهة كائنات طارئة على الوضع البشرى أو فى زيارة للكرة الأرضية، كأنهن بنات مجرات وكواكب أخرى مثلا أو إناث من نوع آخر غير النوع الإنساني.
ففي كل الأحوال لا يجب أن تؤدي العادات والتقاليد أو التصورات الخاطئة المرتبطة بالإنسان إلى الاغتراب عن نفسه أو جنسه أو زمانه أو مكانه. فتبقى النساء فى حقيقة أمرهن وحقيقة أمرنا معهم تلك الكائنات العذبة اللواتي يحطن بنا منذ مولدنا وخلال كل مراحل حياتنا، لأنهن سر ونبع ومصدر الميلاد البشري واستمراره وتجدده.
ويبقى الرجال والنساء أبناء «النفس الواحدة» التى صورتها المنظومة الكونية القرآنية ووالت التأكيد عليها فى آيات كثيرة، كقوله تعالى فى سورة الزمر: «خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق»، وقوله: «خلقناكم من ذكر وأنثى»، وقوله: «وخلقناكم أزواجا».
غير أن تفرقة مثل هذه التفرقة الحادة العجيبة بين أفراد الجنس الإنساني الواحد نعلم جميعا أنها وقعت بالفعل بتأثير مجريات التاريخ البشري القاسية، وترسخت فى ثقافة المجتمعات القديمة، وأدت إلى اغتراب الإنسان عن نفسه وجنسه قرونا تلو قرون، وكان لها بالطبع تأثيرها المذهل على فقهاء العصور الإسلامية القديمة.
وسواء كان جذر هذه التفرقة عند الفقهاء تأويلا خاطئا وقراءة مغلوطة لنصوص قرآنية وأحاديث نبوية أو كان مصدرها تأثيرات وعقائد قادمة من ديانات أخرى سابقة تاريخيا وتسللت للإسلام «مثل عقيدة مسؤولية حواء عن الخطيئة وإغواء آدم فى التوراة والتى برأها منها القرآن الكريم»، فإن المؤثر الأول فى صياغة هذه «البينونة» بين نوعي الجنس الإنساني لم يكن ما بينهما من فروق تشريحية ونفسية، ولا كانت بفعل نصوص القرآن والسنة، بقدر ما كان المؤثر الأول فيها هو ثقافة هؤلاء الفقهاء الموروثة، وما بلغته مجتمعاتهم من تقدم معرفي وحضاري فى وقتها، وما حققته من نضج فى الرؤى والاتجاهات الكامنة وراء عاداتها وتقاليدها القديمة.
وليس أدل على ما نذهب إليه هنا مثل موضوع مصافحة المرأة فى الفقه الإسلامي، فالمصافحة كواحدة من عادات وتقاليد مهمة تتعلق باللقاء بين الناس فى مجتمعات كثيرة، هى فى جوهرها واحدة من أكثر سلوكيات الناس تلقائية وبراءة وتعلقا بالمودة والقربى والفرح. وربما يكون أكثر ما يعبر عن حالة المصافحة من المأثور عن النبي، والمتضارب كالعادة بفعل خصام الفقهاء ووضع الوضاعين للأسف الشديد، هو حديث رواه البخاري ومسلم فى الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت». وفى رواية مسند الإمام أحمد ترد الرواية أكثر تحديدا وتلقائية وصراحة، إذ تقول: «فما تنزع يدها من يده حتى تذهب به حيث شاءت».
غير أن مأثورا آخر عن السيدة «عائشة» رضي الله عنها يؤكد أن النبى لم يصافح النساء يوم البيعة، وأنه قال: «إني لا أصافح النساء، إنما قولى لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة».
ومع أن هذه الكلمات لا تفيد تحريما لمصافحة المرأة من قريب أو بعيد، فالنبى لم يأمر فيها بالامتناع عن مصافحة النساء، ولم يصرح: «لا تصافحوا النساء»، لكنه خص الامتناع بها نفسه صلى الله عليه وسلم، كما خص نفسه بالامتناع عن أشياء أخرى، مثل أكل الثوم والبصل والضب، وأجازها فى نفس الوقت لأصحابه، إلا أن الفقهاء اتخذوا هذا النص دليلا على عدم جواز مصافحة المرأة الأجنبية، وليتهم توقفوا عند هذا الحد لكنهم توسعوا فى شرح حالات التحريم وأحوال النهي والمحظور فى المصافحة حتى كشفوا ما يقف وراء موقفهم من عادات الهوس الاجتماعي بالجنس ومخاوف ووساوس الاقتراب من «الجنس الآخر» ورغبات الفصل الصريح بين نوعي الجنس الإنساني أو جزأي النفس الواحدة.
وكلها –نؤكد- كانت عادات وتقاليد تنتمى إلى عصور هؤلاء الفقهاء وثقافتهم، ومن الظلم أن يتم تحميلها اليوم للإسلام، أو الترويج لها باسمه واسم قرآنه ونبيه.
وقبل الانتقال إلى عرض معالجات الفقهاء «الفزعية» فى موضوع مصافحة المرأة، لا بد من التنويه أن هناك مأثورا ثالثا مختلفا عن النبي، هو الوارد فى حديث «معقل بن يسار» من أن النبي: «كان يصافح النساء فى بيعة الرضوان من تحت الثوب».
وهو ما يعلق عليه الفقيه الشافعى «البجيرمى» تعليقا مدهشا بقوله: «وعدّ بعضهم من خصائصه أنّه كان يصافح النساء فى بيعة الرضوان من تحت الثّوب، وذلك لعصمته، وأما غيره فلا يجوز له مصافحة الأجنبية، لعدم أمن الفتنة».
والغريب أن يقال إن النبي كان يصافح النساء من تحت الثوب لعصمته، إذن ألم تكن تقتضيه هذه العصمة صلى الله عليه وسلم أن يصافحهن مصافحة عادية؟! وهل المصافحة تصل إلى هذه الدرجة الكبرى من الخطورة التى تجعل نبيا معصوما يجازف بها ولكن من تحت غطاء أم يجب أن نفهم أن عصمة الأنبياء هى التى تسرى فى نطاق محدود يجب معه التحوط بغطاء فى مصافحة؟!.
والأقرب للبديهة طبعا هو أن نقول أن النبي كان يصافح النساء من تحت الثوب لبشريته وليس لعصمته كما هو المنطقي، فعصمة الرسول تقتصر على رسالته وتبليغه وحي الله الناس، أما آيات القرآن الكريم وسيرة النبي فيشهدان ببلاغة على بشريته، وهو الذى كان يقول عن نفسه: «حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء».
عموما سواء صافح النبي صلى الله عليه وسلم النساء مصافحة مباشرة أو من تحت غطاء أو امتنع عن مصافحتهن كما تقول كل الأحاديث المتضاربة فإن أمرا كهذا لا يمكن فهمه بعيدا عن عادات وتقاليد وثقافة المجتمع الذى نزل فيه الوحي واستقبل الرسالة، ولا يمكن بحال عزوه إلى تعاليم ومبادئ الرسالة السامية.
تبقى أن ننظر فى المعالجة الهوسية للفقهاء القدامى موضوع مصافحة المرأة، والواضح أنهم مارسوا لونًا من الخلط المتعمد، خلط ينبع فى بعضه من التشدد وتأثير الاتجاهات الاجتماعية السائدة، ولا يخلو بعضه الآخر من دوافع غامضة للسادية والتلذذ.
والخلط الذى مارسوه كان بين اللمس فى المصافحة واللمس بمعناه فى القرآن الكريم، والذى يعني مباشرة النساء ونكاحهن، كما فى قوله تعالى: «قالت ربِّ أنى يكون لى ولد ولم يمسسني بشر»، وقوله: «فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا»، وقوله: «أو لامستم النساء»، وقوله: «وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن».
فالفقيه المالكي «ابن العربي» فى مبالغة غريبة يعلق على حديث امتناع النبى عن مصافحة النساء فى البيعة مستخدمًا المصافحة بمعنى المباشرة من دون حتى توسيط اللمس، فيقول: «لم يصافحهن، لما أوعز إلينا فى الشريعة من تحريم المباشرة، إلا من يحل له ذلك منهن»، رغم أن ابن حجر -مثلا- يرى أن امتناع النبي عن مصافحتهن فى البيعة لأن المصافحة ببساطة ليست شرطًا فى صحة البيعة، لكن ابن عبد البر يكرر استخدام المصافحة باعتبارها مباشرةً «نكاحًا» أو جزءًا منها، معتبرًا أن ما حدث فى البيعة «دليل على أنه لا يجوز لرجل أن يباشر امرأة لا تحل له، ولا يمسها بيده ولا يصافحها»، وهو نفس ما يذهب إليه الرازي من اعتبار مصافحة المرأة فعل جِماع، فيقول: «إن الأصل منع الشاب من مصافحة الأجنبية، إلا من عجوز لا تشتهى، أو من كبير يأمن الفتنة بينهما»، وهو يعود تأكيدًا فيستثني من تحريم المصافحة العجوز التى لا تشتهى إلا فى حالات شهوة العجائز، فيقول: «إلا من عجوز لا تشتهى فتحل المصافحة ونحوها، وكذا لو كان شيخًا وأمن عليه وعليها، فإن خاف عليها حرم».
والفقيه الحنفي «السمرقندي» يذهب نفس المذهب مع تحريم المصافحة كذلك فى حالتي المرأة العجوز أو الرجل الذى يُشتهى، فيقول: «فإن كانت عجوزًا، فلا بأس بالمصافحة إن كان غالب رأيه أنه لا يشتهي، ولا تحل المصافحة إن كانت تشتهى وإن كان الرجل لا يشتهي».
وهو يؤكد: «إن الشاب إذا كان لا يشتهي بمسّ العجوز فالعجوز تشتهي الشاب؛ لأنها علمت بملاذّ الجِماع».
على نفس مجرى فهم المصافحة باعتبارها مباشرة أو جماعًا أو جزءًا منهما، جرى الشافعية فى اشتراطهم شرطين لتحل مصافحة المرأة، هما: أمن الفتنة بين الرجل والمرأة، وأن تكون المصافحة من وراء حائل.
وهو ما يؤكده بشكل مثير الشيخ محمد الحامد بين سطور كتابه المخصص «حكم مصافحة المرأة»، إذ يقول: «الحق أن ننأى بالمرء عن هذا المنزلق الخطر فإن المرأة مُشتهاة خلقة، واللمس مثيرٌ شهوة الوِقاع، وهى أعصى الشهوات للدين والعقل»، أما ابن تيمية فقد اعتبر -فى مبالغة طريفة- حكم تحريم المصافحة قياسًا إلى حكم تحريم النظرة؛ مثل ضرب الوالدين قياسًا إلى التأفيف منهما!