بقلم عريب الرنتاوي
حتى كتابة هذه السطور، لم تكن الستارة قد رفعت عن مصير الكاتب السعودي المرموق جمال خاشقجي.. الثابت أنه دخل القنصلية السعودية في إسطنبول؛ أما أين انتهى به المطاف، وما إذا كان ما زال محتجزا داخل مبنى القنصلية، أم أنه نقل إلى بلاده السعودية بطريقة من الطرق، فتلك أسئلة ما زال يدور بشأنها جدل كبير، حيث تتضارب المعلومات والروايات، وتتعدد المصادر والقراءات.
خاشقجي مثقف وإعلامي سعودي، تقلب بين مناصب عديدة رفيعة، وكان مقربا من القصر والعائلة الحاكمة، ولطالما نظر إليه، بوصفه "الناطق باسم الاعتدال السعودي". نسج شبكة علاقات إقليمية ودولية واسعة، وكتب في كبريات الصحف العربية والغربية، وحل ضيفا على العديد من القنوات الفضائية، قبل أن يضيق به صدر ولي العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان، فيغادر المملكة قبل نحو عام، معلنا أنها لم تعد مكانا ملائما للعيش.
بانتقاله للعيش في الولايات المتحدة، استنشق الرجل نسائم الحرية، واستشعر زوال كثير من القيود والأصفاد التي كانت تطوق صوته وعقله، مع أن الخوف والقلق لم يفارقاه كما أوضح مقربون منه. أطلق لقلمه العنان، وبدأ بتوجيه انتقادات للسياسة السعودية في بعديها الداخلي والخارجي، مع أنه ظل، وأزعم أنني من المتابعين لما يكتب ويقول، حذرا في كل ما يقول ويكتب. كانت انتقاداته أقرب ما تكون إلى "النصائح" منها إلى التنديد والتفنيد، مجترحا خيارات وبدائل لبعض المواقف والسياسات التي ارتبطت بالغالب، بشخص ولي العهد رجل المملكة القوي، التي تجمعت بين يديه، في سن مبكرة، سلطات وصلاحيات وعناصر قوة ونفوذ لم يحظ بها ملوك المملكة المتعاقبون.
ولا أريد أن أستبق المصير الذي ينتظر الرجل، لكن من دون تدخل دولي حاسم، أميركي على وجه الخصوص، فإن الرجل معرض لأن يلقى مصائر بعض ممن سبقوه من المعارضين السعوديين، وبعضهم اختفى بظروف غامضة مماثلة ولم يكشف حتى اليوم عن الطريقة التي لقوا بها مصرعهم، مثل المعارض السعودي ناصر السعيد، الذي كان يقيم في بيروت في سبعينيات القرن الفائت، ويقال إن اختطافه تم بالتنسيق بين الاستخبارات السعودية وجهازين أمنيين، واحد فلسطيني والثاني لبناني.
إن السؤال عن السبب الذي يدفع السعودية للإقدام خطوة من هذا النوع، مع كل ما يمكن أن تثيره، أولا؛ من تأزم في العلاقات التركية ـ السعودية، باعتبار أن العملية تشكل انتهاكا لسيادة أنقرة على أرضها. وثانيا؛ من ردود فعل غاضبة على واحدة من انتهاكات حقوق الانسان وحرية الرأي والتعبير والصحافة، يبدو سؤالا فائق الأهمية، ويستحق التفكير والتأمل.
فالمملكة التي تتسابق لخطب ودها، كبريات شركات النفط والسلاح، تبدو واثقة تماما من أنها قادرة على فعل أي شيء تقريبا، من دون أن تلقى القصاص المناسب من المجتمع الدولي.. لقد رأينا دولا غربية، تعاود الاعتذار للرياض عن انتقادات صدرت عنها بحق المملكة على خلفية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان في اليمن أو في السعودية. حدث ذلك مع ألمانيا وإسبانيا، وقبلهما مع السويد ودول أخرى.. والمملكة تحظى بدعم أميركي لافت، عبر عنه الرئيس دونالد ترامب بقوله إنه يحب السعودية والملك سلمان أكثر من مرة، طالما أنها تدفع، أو ستدفع، ما يترتب عليها نظير حمايتها من قبل الولايات المتحدة.. والمملكة بوصفها المصدر الأكبر للنفط، واللاعب الأهم في "أوبك"، تستطيع أن تمارس ضغوطا على دول وعواصم عديدة، صغرى وكبرى.
حتى الأمم المتحدة لم تسلم من "ابتزاز" المال والاقتدار السعوديين، وحكاية الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون، الذي تراجع عن إدراج اسم السعودية في القائمة السوداء للدول التي تقتل الأطفال، باتت معروفة، وهو نفسه اعترف بتعرضه للتهديد بوقف تمويل عدد من المنظمات والبرامج الأممية، إن هو مضى في تنفيذ التوصية الخاصة بالسعودية، معتبرا أنه كان يوما من أصعب أيام حياته، وهو يقرر عدم إدراج اسم المملكة في قائمة العار المذكورة.
إن نجاح نظرية "كل شيء يمكن شراؤه بالمال"، حتى الضمير الإنساني العالمي، ومواقف الدول الكبرى والمنظمات الدولية، في تحقيق الكثير من أهدافها، قد يكون هو ما يشجع الأمير الشاب على ارتكاب انتهاكات، ليست في حربه على اليمن فحسب، بل وضد أركان عائلته ورجال الأعمال ورجال الدين وأكاديميين وكتاب وإعلاميين.
على أن واقعة استدعاء (اختطاف) رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وهو على رأس عمله، وإجباره على تقديم استقالته من الرياض تحت الضغط والتهديد والاعتقال، ستظل النموذج الأبرز، وتجسيدا لقناعة متجذرة بأن الرجل يستطيع أن يفعل ما يشاء وقتما يشاء وضد من يشاء.
اليوم، إذا ثبت الاحتجاز السعودي لخاشقجي، فإن ذلك يشير إلى وجود رهان سعودي على أن صفحة جمال خاشقجي سيطويها النسيان ومن دون أن يترتب عليها أي ردود أفعال تذكر، سوى بيان هنا وتصريح هناك.. وإذا أفلت المسؤولون عن الإخفاء القسري للصحفي السعودي المعروف من المساءلة والعقاب، في حال ثبوت التهمة، فلا ضمانة من أي نوع بأن هذه الأفعال الشنعاء لن تتكرر مستقبلا، وأنها لن تطاول عددا آخر من قادة الرأي والمعارضين السعوديين، وربما غير السعوديين، الذين لا تروق لهم مواقف المملكة وسياساتها، أو بالأحرى الذين لا تروق مواقفهم وانتقادهم للمملكة.
ومن بين دول المنطقة والعالم جميعها، يتعين على تركيا بشكل خاص أن يكون لها موقف مختلف.. فالحادثة (الجريمة) وقعت على أرضها وفي قلب أكبر مدنها.. وحتى لا تتهم الأجهزة الأمنية بالتواطؤ في جريمة الإخفاء القسري للخاشقجي، فإنها مطالبة بكشف المستور من هذه العملية، واتخاذ ما يلزم من مواقف وإجراءات تساعد في الكشف عن مصير الكاتب والصحافي السعودي، لتشكل بذلك رادعا يحول دون تكرار ما حدث مستقبلا.
لقد آن الأوان لإعادة الاعتبار لمنظومة حقوق الإنسان بمبادئها وقيمها، باعتبارها عنصرا موجها للسياسة الخارجية والعلاقات الدولية.. آن الأوان لقادة بعض الدول الكبرى، لأن يخلعوا "زي رجل المبيعات" الذي يرتدونه في زياراتهم المملكة ودولا خليجية أخرى، وأن يتصرفوا كـ"رجال دولة" وزعماء لدول ومجتمعات، تفاخر بأنها مُنشِئة هذه القيم والمبادئ وراعيتها.. فهذه المنظومة لا تقبل القسمة والازدواج، وما يصدر عن بعض حلفاء واشنطن في المنطقة، لا يقل تهديدا وانتهاكا لها، عما يصدر عن بعض خصومها وأعدائها.
الحرة