مستقبل أقباط مصر المضطرب - Articles
Latest Articles

مستقبل أقباط مصر المضطرب

مستقبل أقباط مصر المضطرب

لم يتحمس الأقباط للثورة قط. وربما كانت حكمة قرون الاضطهاد هي التي علّمت الأقليات الدرس الأبدي للبقاء: أن الديكتاتور المضطهِد يفضَّل على الغوغاء دائمًا. إذْ يمكن شراء الحاكم أو إقناعه بالتراجع أو يمكن الضغط عليه أو تقييده بقوىً أجنبية، لكن لا توجد أية فرصة لك مع الغوغاء. لقد أُغوي بعض شباب الأقباط بوعد مصر ليبرالية يمكن أن تنتهي فيها محنتهم في آخر الأمر، لكن الجيل الأقدم يفهم الأمور على نحو أفضل. فوعود كانون الثاني (يناير) من عام 2011 انهارت أمام واقع أيار عندما هوجمت كنائس إمبابة وتشرين الأول (اكتوبر) في وقت حدوث مذبحة ماسبيرو. وأدى الانهيار الكامل للشرطة وأجهزة القمع التابع للدولة إلى تحرُّر الإسلاميين من أية كوابح وقيود. فعلى المستوى الوطني، سرعان ما اكتسح الإسلاميون الانتخابات وهيمنوا على المجال السياسي. وعلى المستوى المحلي، صاروا أكثر جراءة ببروز إخوتهم قوميًا وبانهيار الشرطة في توكيد قوتهم على شوارع مصر وقُراها وفرض وجهات نظرهم. وبينما كان قادتهم، مثل نائب المرشد العام للإخوان المسلمين، ينادون بهدفهم، "أسلمة الحياة"، كان الإسلاميون المحليون يحوّلون ذلك الهدف إلى حقيقة على أرض الواقع.

استمرّت أنماط الاضطهاد وتعززت بعد الثورة. فقد تضخم عدد الهجمات ومداها بشكلٍ كبير، فلم تعد مقصورة على قرى وبلدات فقيرة، بل امتدت إلى شوارع القاهرة وأمام مقر التلفزيون الرسمي. وهوجمت مبانٍ كنسيّة وأُحرقت، وتصاعد عنف الغوغاء ضد الأقباط، وصارت عمليات الإجلاء القسري من القرى أكثر شيوعًا، وقد أُجبر الأقباط في قرى صغيرة على نحو متزايد على الالتزام بمقاييس الإسلاميين ورؤيتهم على الأرض. وازدادت الاتهامات بالتجديف والإساءة إلى الدين الموجهة للأقباط كأهداف رئيسية. وما زال سبعة أقباط حتى الآن في السجون المصرية نتيجة لأحكام أصدرتها محاكم بسبب تلك الاتهامات. ويبقى أكثر جانب إقلاقًا للأقباط مشاركة جيرانهم وزملائهم في العمل والأشخاص الذين نشأوا معهم في الهجوم عليهم. وحتى لو قررت الدولة المصرية التي حكمها الإخوان المسلمون - بشكل معجزي – التدخل، صار احتواء الأحقاد المحلية مستحيلًا الآن.

والصورة على المستوى الوطني قائمة أيضًا. فمع أن جماعة الإخوان المسلمين تملقت المخاوف الغربية والقبطية قبل تولّيها القوة واعدة بالمساواة والحرية للجميع، إلاّ أنها حالما وصلت إلى السلطة، نسيت تلك الوعود. إذ تضمن ديناميكيات السياسة المصرية وبروز السلفيين والتهديد الذي يمثلونه للإخوان المسلمين الحيلولة دون محاولة الإخوان لمعالجة مظالم الأقباط. وما زالت الجماعة تصر على استخدام خطابها الطائفي الذي يشعل الغضب المحلي تجاه الأقباط، ويستخدم قادتها الأقباط ككبش فداء للمشكلات التي تواجهها مصر من حوادث القطارات إلى مظاهرات المعارضة.

ليس هدف الإسلاميين إبادة الأقباط. فليس من المحتمل أن يواجه الأقباط "محرقة" في المستقبل، مع أن مذابح منظمة محلية أمر مضمون. فهدف الإسلاميين هو إخضاع الأقباط لأفكارهم حول مكانتهم السليمة كأهل ذمّة تحت حكم الإسلام المُحْسِن. وعلى الأقباط أن يقبلوا وصفهم كأهل ذمّة، وأن يعيشوا وفق ذلك، وأن يتقبلوه. وسيُسمح للأقباط بأن يعيشوا في مصر، ويتم التسامح معهم كمواطنين من الدرجة الثانية مدركين هذه المنزلة وقابلين إياها. ومن شأن أية محاولة لكسر قيود الذمّية تلك من قبل الأقباط والتصرف على أنهم مساوون أن يثير الامتعاض كإهانة لسيادة الإسلام وصدارته في أرضه.

ومما لا شك فيه أن هنالك أُمّة قبطية اليوم. غير أنها أمّة لا تسعى إلى الاستقلال أو إقامة دولة لها. وليست أمّة عنصرية أو – بعد فقدان لغتها القبطية – مبنية على لغة مختلفة، أو على أسس دينية خالصة، لكنها أمّة مؤسسة على تاريخ فريد للكنيسة. وهي أمة تضاريسها غير منظورة، كما وصفها س. س. حسن. وقد تنوعت الأخطار التي واجهتها هذه الأمة على مدى تاريخها.. من تذويبها أو دمجها في مصر ليبرالية متخيلة، إلى تآكل الفرادة القبطية، وتهديد المرسلين البروتستانت، والحداثة والنواحي التي تثير الاستياء منها. وهي تواجه اليوم تهديدًا أكثر خطرة. يمكنها أن تناضل ضد الاضطهاد رغم أن الصعوبات المصطفة ضدها تضمن هزيمتها. ويمكنها أن تقبل وضعها كأهل ذمة وتعيش كمواطنين من الدرجة الثانية، أو أن تنسحب داخل أسوار كنيستها القديمة لتجد عزاءها ضمن تلك الأسوار.

إن آفاق الأقباط واحتمالات المستقبل في مصر كئيبة على أقل تقدير. فخياراتهم محدودة. وهم لا يتركزون جغرافيًا في منطقة واحدة بحيث ينظر إليها كملاذٍ محتمل يمكن أخذه في الاعتبار. فعلى خلاف المهاجرين اليهود الذين هربوا من مصر في الأربعينيات والخمسينيات، فإنه لا يوجد للأقباط المطرودين من وطن آبائهم وأجدادهم "إسرائيل" ليهربوا إليها. ولا يُسمح لنسبتهم الإجمالية في مصر بلعب دور رئيس في تشكيل مستقبلها. فالخيار الوحيد المتاح لهم هو أن يحزموا أمتعتهم ويرحلوا، واضعين بهذا نهاية لألفي سنة من المسيحية في مصر. ولقد بدأت بالفعل موجة جديدة من الهجرة القبطية، وهي موجة هائلة، ويتوجه معظمهم إلى البلدان التي سبق أن استقر فيها إخوتهم في العقود السابقة: الولايات الأمريكية المتحدة، وكندا، وأستراليا. ويقوم أقباط أكثر غنىً بشراء بيوت في قبرص ويحصلون معها حق الإقامة فيها، بينما أصبحت جورجيا وجهة مفضّلة لإخوتهم الأكثر فقرًا، غير أن الحقيقة المحزنة هي أنهم كلهم سيكونون قادرين على الهرب. إذ لا يوجد مكان في الغرب لملايين من الأقباط المهاجرين. وفي نهاية الأمر، فإن الأقباط القادرين على التكلم بلغة إنجليزية أفضل والمتمتعين بمهارات سيتمكنون من الهرب، تاركين إخوتهم الأفقر وراءهم. وسيفقد المجتمع أفضل عناصره، أولئك الذين يوفرون وظائف لإخوتهم، والذين يتبرعون للكنيسة، ما يرفع من تعاستها.

عندما أراقب وجوه المهاجرين الجدد في كنيستي في فيرجينيا، أتيقّن أن التغلب على شعور الحزن والضيق أمر مستحيل. فالكنيسة التي صمدت أمام تحديات متنوعة هائلة تتعرض لتهديد في وجودها نفسه. فعندما يغادر الأقباط مصر، فإن الخسارة لا تصيبهم وتصيب كنيستهم فحسب، إذ سيفقد بلد ودين جزءًا من هويته وتاريخه. ويشير الأقباط الأنقياء إلى وعود الرب في إشعياء 19: 19 عن مذبح الرب في قلب مصر، وإلى تاريخ الكنيسة القبرطية، كان التاريخ القبطي قصة لا نهاية لها من الانحدار واليأس، لكنه أيضًا قصة بقاء ومثابرة واحتمال أمام الاضطهاد، حيث صارت شجاعة الشهداء ودماؤهم بذار الكنيسة. لقد أثّر الاضطهاد في الكنيسة وفي الأقباط. لكن التاريخ القبطي كان أيضًا قصة انتصار وسط اليأس، وقصة حماية الرب لشعبه. تضم الكاتدرائية القبطية في القاهرة بقايا رجلين؛ القديس مرقس الذي جلب رسالة المسيح إلى المصريين وبذلف دمه على ترابها، والقديس أثناسيوس، المدافع عن الإيمان والرجل وفق ضد العالم كله وحفظ على الإيمان الأورثوذوكسي حيًّا. فكأنّ الكاتدرائية والكنيسة القبطية بأكملها قائمتان على هذين العامودين، الشهادة والإيمان.

ويواجه البابا تواضروس الثاني الذي وصل إلى كرسي القديس مرقس في 18 من تشرين الثاني 2012 تحديات هائلة. وقد أعلن عن نيّته في التركيز على تنظيم الكنيسة القبطية داخليًا، وقام بالفعل ببعض المبادرات الإيجابية جدًا في هذا المجال. لكن مهما كانت نيّاته، سيجد نفسه حتمًا مجبرًا على التعامل مع محنة شعبه المتنامية.

سيشكل الخروج القبطي من مصر تحديًا ضخمًا للكنيسة القبطية. واليوم يوجد ما يزيد عن 550 كنيسة قبطية خارج مصر. وفي لحظة في مستقبل غير بعيد، لن يعود مركز الثقل للكنيسة القبطية داخل حدود مصر. فطبيعة هذا التحدي شيء لم تواجهه الكنيسة القبطية من قبل، وهي غير مجهزة حاليًا للتصدّي له: كيف  تصبح كنيسة جامعة (شمولية) حقًا، وتنفتح أمام بقية العالم المسيحي مع الحفاظ على فرادتها؟ وكيف يحافظ المهاجرون الجدد (إلى البلدان الغربية) على الإيمان المسيحي وهويتهم القبطية المحددة في وجه سوق مفتوحة للمنافسة بين الطوائف المسيحية؟ وما الذي يعنيه كون المرء قبطيًا بالنسبة للذين يعيشون خارج حدود مصر؟ وكيف تتوفر الاحتياجات المادية للمهاجرين الجدد المتمسكين بالكنيسة، والساعين إلى الإرشاد الروحي أيضًا؟ وكيف تلبّى احتياجات الذين يبقون والذين تزاداد حياتهم صعوبة؟ هذه كلها أسئلة مفتوحة تنتظر حكم التاريخ.

 

صموئيل تادروس مساهم في معهد هوفر – مجموعة عمل هربرت وجين داويت حول التيار الإسلامي والنظام الدولي. وهو أيضًا زميل باحث في مركز معهد هدسون للحرية الدينية، ومحاضر متخصص في معهد بول هـ. نتزه للدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز. وقبل التحاقه إلى معهد هدسون في 2011، كان شريكًا بارزًا في الاتحاد المصري للشباب الليبرالي، وهي منظمة تهدف إلى نشر أفكار الليبرالية الكلاسيكية في مصر.

هذا المقال مقتطف من كتاب أصدرته مطبعة هوفر بعنوان "الوطن المفقود": السعى المصري والقبطي للحداثة. http://www.hoover.org/publications/defining-ideas/article/167586

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags