أمجد عرفات
يستعد مسيحيو غزة للاحتفال بذكرى الميلاد المجيد في كنيسة القديس برفيريوس، وهي إحدى أقدم الكنائس في غزة وأكبرها، وتظهر معالمها الأثرية على جدرانها التي بُنيت من الأحجار الجيرية القديمة، لتعطيها ميزة الدفء شتاءً والبرودة صيفاً.
ولبرفيريوس مكانة خاصة عند المسيحيين، خاصة في فلسطين، فهو محارب الديانات الوثنية التي كان أتباعها ينتشرون بين غزّة وبلاد الشام.
مَن هو برفيريوس؟
يُعتبر القديس برفيريوس محرر غزة من الوثنيين ومن عبادة الأصنام. ويوضح عضو الهيئة المسيحية والإسلامية لحماية المقدسات، الأب مانويل مسلم، لرصيف22 أن "برفيريوس هو قديس يوناني تعلق قلبه بفلسطين، وعاش فيها شبابه وشيبته، وهو أحد أبرز تلامذة القديس هيلاريون الذي كان أول راهب في فلسطين".
تعرّض برفيريوس للمطاردة في عهد الإمبراطور الروماني جوليان الذي ارتد عن المسيحية عام 362، فهرب هو وهيلاريون نحو جزيرة قبرص، قبل أن يعود إلى فلسطين ويقيم في القدس، في عهد الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول، الذي أعلن عام 395 أن المسيحية هي ديانة دولته، يروي الأب مسلم.
وبعد وفاة ثيودوسيوس الأول بستة أشهر، انفصلت الامبراطورية الرومانية إلى إمبراطوريتين شرقية وغربية، وكانت فلسطين من نصيب الامبراطورية البيزنطية الشرقية تحت قيادة الإمبراطور آردوكياس.
حاول برفيريوس العودة إلى غزة بعد تعيينه راهباً لمسيحيي هذه المدينة عام 400، ولكنه واجه معارضة قوية لدخوله من قبل أتباع الديانات الوثنية الذين كانوا لا يزالون يتمسكون بدياناتهم القديمة في غزة التي كانت قبلة الوثنيين في الشام.
ولكن برفيريوس نجح في القيام بمعجزات لغزة من خارجها، حسبما تقول روايات متداوَلة. يروي الباحث في الدراسات التاريخية الفلسطينية الدكتور ناصر اليافاوي قصة مفادها أن أهالي غزة واجهوا بعد طرد برفيريوس ورفاقه جفافاً ومجاعة طيلة عام كامل، فقام برفيريوس بالصلاة على أسوار غزة القديمة واستجاب الله لدعواته فانتهى موسم الجفاف وحلّ موسم خيرات، فما كان من الوثنيين إلا أن طاردوه واتهموه بالتخطيط السحري مع ربه للتشكيك في عبادة الآلهة التي يعبدونها، بما فيها الإله زيوس.
ولكن على إثر ما فعله برفيريوس، اعتنق الكثيرون من الوثنيين المسيحية، فواجهوا اضطهاداً من قبل الوثنيين الذين عذّبوا وأعدموا الكثيرين منهم، وذلك بمساعدة الوالي على مدينة غزة من قبل الإمبراطورية الرومانية الشرقية "إيلاريوس".
كان إيلاريوس متعاوناً مع الوثنيين بشكل سري ضد الدين المسيحي، وتتهمه روايات بأنه كان يفعل ذلك مقابل رشاوى كانت تُجمع وتُدفع له.
في تلك المرحلة، قام الوثنيون بهدم دير القديس الفلسطيني الأول هيلاريون وكنيسته ودفنه تحت التراب، وظل كذلك طيلة 16 قرناً تقريباً حتى بدأت السلطة الفلسطينية بالتنقيب عن آثاره، عام 1995.
الدعم الإمبراطوري
يروي المؤرخ الفلسطيني الدكتور سليم المبيض لرصيف22 أنه "تحت مرارة تلك الظروف، توجّه القديس برفيريوس إلى العاصمة البيزنطية القسطنطينية (إسطنبول حالياً) واستطاع مقابلة الملكة إيليا بودوكيا وهي زوجة الإمبراطور البيزنطي آردوكياس، ويسميها أهالي فلسطين ‘أفذوكسيا’، وتحدث برفيريوس لها عما واجهه هو ورفاقه من اضطهاد وملاحقة من قبل الوثنيين في غزة، وكيف استجاب له الإله بأن عمّت الخيرات على المدينة قبل أن يكذّبوه".
ويتابع المبيض القصة: "كانت الملكة أفذوكسيا عقيمة ولا تلد، فوعدته بأنه إذا رزقها الله بمولود، بدعواته، ستضع حداً للوثنيين في غزة وللوالي إيلاريوس، وبالفعل رُزقت بمولود أسمته ثيودوسيوس الثاني، وصار لاحقاً إمبراطوراً، فما كان منها إلا أن أخذت الموافقة من زوجها الإمبراطور آردوكياس للبدء بتطهير غزة من الأوثان".
بأوامر من أفذوكسيا، بدأ الجيش البيزنطي بإبادة الوثنيين في غزة، بعدما تم تسريح الوالي إيلاريوس وإحالته على التحقيق، وتم هدم أهم سبعة معابد للوثنيين هناك وأهمها معبد مارناس، وهو أكبر معبد للوثنيين في الشرق الأوسط حينذاك، وبُنيت مكانه كنيسة بإشراف برفيريوس الذي دخل غزة هو وتلامذة هيلاريون السابقين بحماية البيزنطيين، واستُقبلوا بالاحتفالات، وكان ذلك عام 402.
استغرق بناء هذه الكنيسة خمس سنوات كاملة، وزارتها الملكة أفذوكسيا وأقامت صلواتها فيها طيلة شهر كامل، وسُمّيت في البداية على اسمها، بل قامت أفذوكسيا بدفن تمثال الإله زيوس تحت أنقاضها، وسط مدينة غزة، وظل التمثال المصنوع من الذهب والعاج مخفياً تحت التراب حتى اكتشفه العثمانيون في القرن التاسع عشر ونقلوه إلى متاحفهم في إسطنبول.
بعد وفاة القديس برفيريوس عام 420 ميلادي، دُفن في كنيسة أفذوكسيا، وتم تغيير اسمها لتحمل اسمه، وما زالت الكنيسة تحتفظ بجثمانه وتابوته حتى اللحظة.
وفي كل عام، في العاشر من مارس، يحيي الفلسطينيون في هذه الكنيسة والكنائس الأخرى ذكرى رحيل "محطم الأوثان"، القديس برفيريوس.
محطات من تاريخ الكنيسة
شهدت كنيسة برفيريوس العديد من الأحداث على مدار العصور المختلفة منذ بنائها وصولاً إلى يومنا.
يوضح مدير العلاقات العامة في الكنيسة السيد كامل عياد أن الكنيسة بُنيت في البداية على شكل صليب، ولكن الفرس ألحقوا العديد من الأضرار بها أثناء خوضهم معارك مع الرومان على أرض غزة عام 619، في حرب أسفرت عن مقتل أعداد كبيرة من مسيحيي غزة، بعد أربع سنوات فقط على مذبحة الفرس بحق مسيحيي القدس.
وأشار المؤرخ الفلسطيني الدكتور سليم المبيض إلى أن الكنيسة تمتد حتى المسجد العمري الذي يبعد عنها مسافة 70 متراً. وكان المسلمون عقب دخولهم بلاد الشام عبر بوابة غزة، بقيادة خليفة المسلمين عمر بن الخطاب عام 635، قد اقتصوا جزءاً من الكنيسة وحوّلوه إلى مسجد.
هكذا نشأ الجامع العمري المسمّى نسبةً إلى الخليفة عمر، وكان في البداية يمثل الجزء الشمالي من كنيسة برفيريوس، ولكن لاحقاً، إثر افتتاح شارع بين البنائين من قبل بلدية غزة في عهد الاحتلال البريطاني للأرض الفلسطينية، فُصل عن جدار الكنيسة.
وفي عهد الصليبيين، تحوّل المسجد المُقام على أراضي الكنيسة إلى دير مار يوحنا، ثم عاد مسجداً مرة أخرى في عهد الأيوبيين. وبقيت الكنيسة قائمة في مختلف العصور حتى عصرنا الحالي.
وفي عهد المماليك، في زمن السلطان ناصر محمد قلاوون، في فترة يقول مؤرخون إنها شهدت أعظم فترات التآخي بين المسلمين والمسيحيين، تقاسمت الكنيسة نصف جدرانها مع المسلمين لبناء جامع كاتب ولاية، في الجزء الشمالي من أرض الكنيسة، وحتى الآن ما زال هذا المسجد قائماً على أرض تتبع للأوقاف المسيحية.
سُمي المسجد "كاتب ولاية" نسبة إلى أحمد بك الذي كان يشغل مهنة كاتب ولاية مدينة غزة، والذي طلب من رعايا كنيسة برفيريوس أن يسمحوا ببناء مئذنة للمسجد، حسبما أوضح المبيض. وأُعطيت مساحة أرض المسجد للمسلمين بالتراضي، على عكس الحال مع المسجد العمري الذي بُني بالقوة.
وبُني مسجد كاتب ولاية بسبب زيادة عدد المسلمين في المنطقة، نتيجة اعتناق الكثيرين من المسيحيين للدين الإسلامي. ومن جانب آخر، كانت غزة تشكل حلقة وصل بين حاضرتي الدولة المملوكية الكبيرتين، دمشق والقاهرة، وكان المسجد العمري لا يتسع لقوافل التجار وطلاب العلم الذين كانوا يتوافدون على غزة بالآلاف حينذاك، ويقيمون فيها أياماً وأسابيع للراحة من مشقات السفر، ما كان سبباً في ظهور الحاجة إلى مسجد جديد.
وأشار المبيض إلى أن كنيسة برفيريوس تعرّضت لضرر جزئي جراء حرب البيزنطيين والفرس بين عامي 619 و622، ثم تضررت مرة أخرى عقب زلزال ضرب جنوب فلسطين وسيناء عام 1033، وتعرّضت لأضرار جديدة، هي والمساجد المحيطة بها، عقب تصدي الفلسطينيين للهجوم المغولي عام 1260، وأخيراً بسبب زالزال ضرب في نهاية القرن الثالث عشر.
وكان الترميم الأول الواسع لها ولكافة المساجد المحيطة بها في أواخر العهد العثماني، عام 1895، وأحضرت أحجار من إسطنبول، ولكن تعذّرت إعادتها إلى تصميمها الأول، فأصبحت على شكل السفينة، كما أوضح عياد.
ومن أبرز المحطات التي شهدتها الكنيسة في عصرنا الحالي قيامها بإيواء أكثر من 2000 فلسطيني طيلة 50 يوماً، عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في صيف عام 2014، وبشكل خاص بعد مجزرة الشجاعية.
وتخللت الخمسين يوماً أيام شهر رمضان، فكان رعايا الكنيسة يقدّمون طعام الإفطار والسحور للمسلمين في الكنيسة، وخاصة بعدما أُخليت العديد من المساجد من النازحين، وأحيا المسلمون ليلة القدر في باحتها.
رصيف 22