علي أديب
يواجه الفرد المسلم في عصرنا الحالي تحدياً فكرياً يومياً يتمثل في سؤال يتردد في كل نواحي حياته وهو يسمع الأخبار، ويقرأ فتاوى الدعاة، ويتعامل مع الآخر المختلف عنه ديناً أو مذهباً: هل الإسلام والحداثة في صدام؟
وقبل أن نسترسل نجد أنه من المهم أن نحدد تعريفاً للمصطلحات قبل أن نناقشها. ولأن للحداثة تعريفات مختلفة فإنه يمكننا اختصار ما نعنيه هنا بمنتجات الحداثة من علمانية الدولة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني. وكذلك لا بد لنا أن نقول إن الإسلام أيضاً ليس واحداً في كل أنحاء العالم الإسلامي بل هو متعدد الأشكال تبعاً لاختلاف التجارب والتاريخ والتفسيرات في كل منطقة، ويجب أن نضع هذا التعدد في الاعتبار عند الحديث عن الإسلام من النواحي الروحية والسياسية والفكرية.
ولأن هذا المبحث متشعب ويحوي العديد من التفاصيل، فقد ارتأينا أن نلخص أهم الأسئلة التي نظنها مهمة وطرحناها على اثنين من أهم المفكرين المعاصرين في العالم الاسلامي ممن أنتجوا بحوثا مهمة في هذا المضمار، الدكتور عبد المجيد الشرفي، المفكر التونسي ورئيس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة"، والدكتور عبد الله النعيم، المفكر السوداني، الذي يعمل حالياً أستاذاً للقانون في كلية الحقوق بجامعة إموري بالولايات المتحدة.
هل في الاسلام نظام حكم فعلي واضح الملامح ويمكن تطبيقه حالياً؟
جاء رد الدكتور النعيم سريعاً: " بالقطع لا يوجد". واسترسل قائلاً إن الدولة مؤسسة سياسية ولا تملك أن تعتقد. أما وصف دولة ما بأنها إسلامية فهو يعني أن القائمين عليها هم نفر ممن يطبقون رؤيتهم للإسلام. وأضاف أن تجربة الحكم في المدينة في أيام النبي حالة لا يمكن القياس عليها. فمنذ عهد أبي بكر أصبح كل ما يقال هو رأي للقائل فقط. وحتى أبو بكر نفسه لا يمثل الإسلام بل يمثل رؤية للإسلام ودليلنا في هذا اختلافه مع الصحابة في أول قراراته بخصوص حروب الردة. ولو لم يكن هو الخليفة لما نفذ رأيه. وقال إن كل الأحكام الشرعية أحكام ظنية، وأعلم العلماء يمكنه أن يعطي ما يشاء من الحجج ولكنه في النهاية يقول إن هذا هو تقديره، ولا يمكن أن يزعم أن هذا هو الإسلام بعينه.
أما الدكتور الشرفي فقد أحالنا إلى كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" وقال إن هذا السؤال تمت الإجابة عليه في بدايات القرن العشرين، أي أن الإسلام لا يحمل نظام حكم محدد لأن خلفاء النبي الأربعة أنفسهم لم يتفقوا على أسلوب حكم وانتقال سلطة موحد. وأضاف أن من يتشبث بنظام الخلافة على اعتبار أنها نظام إسلامي إنما لا يزال متأثراً بأيديولوجيا العشرينات على إثر انهيار السلطنة العثمانية، وهو هنا يشير إلى الأخوان المسلمين ومن جاء بعدهم كالقاعدة وداعش. أما آراء الباحثين فتقول إنه لا يوجد نظام حكم واضح في الإسلام إنما الأمور موكولة للناس.
ما هي أهم نقاط التصادم في رأيك بين الإسلام والحداثة؟
يقول الدكتور الشرفي إنه لا يوجد تصادم بين الإسلام والحداثة بل هناك تصادم بين أشكال من التدين الإسلامي والحداثة. ويفصل رأيه قائلاً إنه منذ القرن السادس قام التدين على حجية النصوص وخصوصاً عند الحنابلة، وهذا تدين يصطدم حتماً بالحداثة المبنية على العقلانية، ومسؤولية الفرد. ومن المهم أن نوضح هنا أن القول بأن الحداثة منافية للأديان أمر غير صحيح. فالحداثة نمط حضاري سائد في الدنيا كلها، والقيم الجديدة التي أتت بها الحداثة مثل الحرية، والمساواة، والعدل ليست منقطعة عن تراثنا بل هي موجودة ولكنها مهمشة ومغيبة. ويتفق الدكتور النعيم مع هذا الطرح حيث يؤكد أنه من واجبنا اليوم أن نقيم خطاباً حداثياً مستقى من خطابنا التراثي الذي كان يحوي قيم الحكم الصالح، والعدل الاجتماعي، والمساواة والكرامة.
ولكن ماذا عن النصوص الصريحة في القرآن التي تتعارض مع مفاهيم الحداثة، كنصوص القتال، والمرأة، والحدود وغيرها؟ ألا تقف هذه سداً بوجه محاولات التقريب بين الإسلام والحداثة؟
يقول الدكتور الشرفي إن تلك النصوص جاءت في سياق تاريخي محدد وأسبغت عليها فيما بعد صفة الشمولية وهي ليست كذلك. وأنه من المهم أن نفهم النصوص على أنها جاءت بتوجيهات أخلاقية لتكريس مفاهيم العدل ضد الظلم، والحرية ضد العبودية وغيرها من المبادئ الانسانية. وإذا فهمناها بهذا الشكل تنتهي مشكلة التراشق بالنصوص لأننا يجب أن نؤوّلها بصفة تاريخية واعية.
وينحو الدكتور النعيم نفس المنحى ويقول إن موضوع الناسخ والمنسوخ هو جهد بشري. وبالتالي فإنه يمكننا اعتبار أجزاء من النص المدني من القرآن أنها جاءت في سياق تاريخي محدد ونسخت الآن. وقال إنه يمكننا العودة إلى النص المكي وتعليق الأجزاء الخاصة بالمرأة مثلاً أو الرق أو الحروب واعتبارها غير محكمة الآن. فالنبي لم يقل إن هذا النص محكم وذاك منسوخ على الإطلاق. وبالتالي فإن هذه العملية خاضعة للفهم البشري. فالغاية هنا هو الإنسان، والإسلام وسيلة الإنسان لتحقيق إنسانيته.
واتفق الأستاذان الشرفي والنعيم على أن السلف كان يمتلك هذه الجرأة في تعليق النص عندما اجتهد الخليفة عمر بن الخطاب في موضوع حق المؤلفة قلوبهم، وقال: نعم، القرآن قال والنبي عمل ولكني لا أعمل هذا بل أملّك الأرض لمن يفلحها. فقد أقر عمر بالنص ولكنه قال إن مصلحة المسلمين في ذلك الوقت تكمن في رؤية مختلفة تتطابق مع تغير الظروف.
هل يمكن أن نتحدث عن علمانية حقيقية في العالم العربي مستقبلاً؟
يرى الدكتور الشرفي أن العلمانية مطبقة بالفعل في الكثير من نواحي الحياة في العالم العربي ما عدا قانون الأحوال الشخصية وفي مؤسسات الحكم. وأرجع استمرار الصلة بين الدين والسياسة في العالم العربي إلى مصلحة رجال السياسة في الابتعاد عن العلمانية لأنها تحد من نفوذهم. ولكنه قال إن تطور المجتمعات يسير في هذا الاتجاه.
ويرى الدكتور النعيم أنه لا يمكن أن يكون المجتمع إسلامياً ما لم تكن الدولة علمانية. فبهذه الحالة يسلم المسلم عن اقتناع لا عن خوف من السلطة. وقال إنه لا معنى أبداً لتلك العبارة التي نراها في دساتيرنا العربية من أن "الإسلام دين الدولة". فلا توجد دولة لها دين. ومتى حددنا ديناً لدولة ما فإننا نكون تلقائياً قد أسسنا للتمييز ضد أتباع الديانات الأخرى. وقال إن السياسيين عندنا يستعملون هذه النقطة في إسباغ قدسية الدين على تصرفات الحكومة.
ينتشر المشروع الجهادي بين الشباب العربي كما لم يحدث من قبل. هل هناك مشروع حداثي مقابل يمكن أن يجتذبهم؟
يرى الدكتور النعيم أن هناك مشروعاً حداثياً كامناً في تراثنا ولكن هناك ملابسات غيبته. فالكتب موجودة، وآراء مفكرين مجددين مثل الراحل "محمود محمد طه" منشورة ولكنها لا تقرأ. كما أنه أنحى باللائمة على المجتمع الدولي الذي سمح بحروب عدوانية فتتت بلدانا كالعراق وأسست لنظرة الحرب والعنف عند الشباب المسلم، ودفعته إلى أن يرد بشكل إنتحاري متخلف على هذه المشاريع.
أما الدكتور الشرفي فيقول إن الحداثة مشروع غير مكتمل البناء، ولأنها بطبيعتها لا تقول لك إفعل ولا تفعل لأنها ليست دوغمائية فهي تبدو غريبة عن ثقافة الشباب العربي الذي لم يتعود في بيئته ولا في مراحل تعليمه على استقلال الشخصية، ويصبح بالتالي منقاداً لآراء هذا وذاك. ويرى الشرفي أن الحل يكمن في يد الحكومات والمجتمع المدني لأن الأمر يتطلب تغييراً في الذهنيات وهذا ليس أمراً سهلاً.
ما رأيك في شعار "الإسلام هو الحل"؟
هو شعار قوي ولكنه عديم المضمون، يقول الدكتور النعيم، ويتساءل: ما هي تفاصيل هذا المشروع من ناحية البرامج السياسية والاقتصادية والأمنية والعلاقات الدولية؟ ويقول إن الجماعات الاسلامية ترفع هذا الشعار ولا تعي تفاصيله وليس عندها برامج جاهزة للتنفيذ مما يجعله شعاراً عاطفياً بدون أية نتائج عملية.
ويقول الدكتور الشرفي إن هذا الشعار يجعلنا نتساءل عن أي إسلام يتحدثون؟ فهناك وجهات نظر مختلفة بين الشيعة والسنة، والمجددين وغيرهم من الفرق، ولا يمكن أن يكون هذا التعدد هو الحل. وأضاف أن هناك مواطن شبه بين الشيعة والسنة تتمثل في الالتحام بين الأيديولوجيا الدينية والحكم. أما الاختلاف فيتلخص في أن التشيع هو وريث حركات احتجاجية على ما حدث في العهد الأموي والعباسي، وهو بهذا يمتلك هوية مختلفة عن الإسلام السني. كما أن تجربة إيران لها بعد قومي يجب أن نضعه في الحسبان. وقال إن التشابه أيضاً ملحوظ في اضطهاد السنة في إيران، واضطهاد الشيعة في السعودية، وأضاف أن التشبث بأشخاص توفوا منذ قرون مثل علي بن أبي طالب، والحسين وعائشة وجعلهم يتحكمون في حياتنا لا بد أن ينتهي لمصلحة هوية المواطنة التي تنبذ الانتماء المذهبي. ولفت هنا إلى إن مسؤولية الإعلام كبيرة جداً في تغيير هذه الأفكار عند جمهور القراء والمستمعين.
ما هي القوى التي يمكنها أن تحمل مسؤولية تحديث الإسلام في عالمنا العربي؟
يقول الدكتور الشرفي إنه من المآسي التي نعيشها في عالمنا الإسلامي أننا نفتقد إلى مؤسسات بحثية رصينة لا مؤسسات تقوم بالدعاية لرأي من الآراء. وقال إنه من المهم أن تتوفر أولاً حرية التعبير، وأن يقوم المجتمع المدني بدوره في تشجيع المراكز والمؤسسات التي تدرس قضايا الأديان، والأخلاق، والعلمنة بطريقة تستجيب لمقتضيات المعرفة. وهذا غير متوفر الآن لأن مؤسساتنا قائمة على نمط قديم موروث من الماضي، ونحن بحاجة للبحث بطريقة مستقلة بعيدة عن المؤثرات الطائفية والسياسية.
ويشترك الدكتور النعيم مع الشرفي في يأسه من أن تقوم المؤسسات الدينية الحالية بأي دور إصلاحي ذي قيمة. ويقول إن أمله يتركز في عموم المجتمع لا في الصفوة الحاكمة التي تعمل من أجل ترفها وفسادها. وقال إنه لا يود مخاطبة الأزهر أو القيروان، فكلها قائمة على قشور من الإسلام وقشور من الحضارة الغربية. وإنه لا بد لنا من أن نمضي نحو لب الإسلام في التسامح والسعة وقبول الآخر. وإن ما تقوم به المنظمات الإرهابية مثل داعش من الهمجية والسطحية في فهم الدين كفيل بأن يدفع الشباب نحو تحقيق علمانية الحكم وبطلان الدولة الدينية.