بابكر فيصل
المعنيّ هنا هو الرئيس عمر حسن البشير الذي تولى للحكم عبر الانقلاب على الحكومة الديمقراطية، ممثلا للجناح العسكري لجماعة الإخوان المسلمين بزعامة الدكتور حسن الترابي، حيث ظل يُمسك بزمام السلطة منذ ثلاثين عاما، وهي أطول مدة يشغلها حاكم وطني منذ خروج المستعمر البريطاني عن البلد عام 1956.
ومنذ استيلائه على السلطة شرع في تطبيق الأيديولوجيا الإخوانية الإقصائية، عبر إنفاذ برنامج التمكين الذي تم بموجبه تشريد آلاف العاملين بجميع فروع الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة وضباط الجيش والشرطة، واستبدالهم بأهل الولاء والطاعة من كادر الجماعة، دون النظر في مؤهلاتهم لشغل تلك المواقع. كما رفع شعار الجهاد في الحرب ضد حركة التمرد في جنوب السودان.
كذلك سعى البشير للتدخل في شؤون الدول المجاورة (إثيوبيا، ومصر، وإرتيريا) عبر دعم الحركات الإسلاموية الساعية للاستيلاء على السلطة في تلك الدول. وفوق هذا وذاك، شرع في تهديد المجتمع الدولي وعلى رأسه أكبر قوتين عظميين حينها، أميركا وروسيا، باستعادة الخلافة الإسلامية، فضلا عن فتح أراضي السودان لاستضافة الجماعات الإسلامية المتطرفة من جميع أنحاء العالم، وفي مقدمتها تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن.
بعد عشر سنوات من الحكم وقع الطلاق بين الجنرال البشير وزعيم الجماعة الترابي، وانقسمت الجماعة إلى فريقين، انحاز أكبرهما لصالح السلطة، وذهبت أقلية مع المرشد الروحي. كانت البلاد حينها قد تحولت إلى زنزانة كبيرة تحكمها قبضة الأجهزة الأمنية الرسمية ومليشيات جماعة الإخوان المسلمين الموازية التي تعمل خارج إطار القانون، وصار القمع والتنكيل بالمعارضين هو العنوان الأبرز للنظام الحاكم الذي بدأ في التحول التدريجي من سيطرة الطغمة إلى حكم الفرد الطاغية.
أبرز ملامح حكم الجنرال تمثلت في انتشار الفساد والمحسوبية بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث، كما أنه تسبب في انفصال جنوب السودان بعد أن شن عليه حربا جهادية طويلة؛ إضافة لإشعاله الحروب الأهلية في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور التي قتل فيها ثلاثمئة ألف مواطن ونزح ما يربو على ثلاثة ملايين لدول الجوار.
تراجع الاقتصاد بشكل مريع في ظل حكم البشير، مما أدى لازدياد حدة الفقر وهجرة الملايين، وبرزت فئة طفيلية من الموالين للسلطة استولت على ثروات البلد ومواردها وفي مقدمتها البترول، بينما عانت غالبية فئات الشعب من المسغبة والجوع وضيق العيش.
عانى المواطنون من ندرة السلع الأساسية والارتفاع الكبير في أسعارها، كما ارتفعت نسبة التضخم إلى 70 بالمئة بحسب الجهاز المركزي للإحصاء وهو جهاز حكومي، و180 بالمئة بحسب جهات أخرى محايدة، وبلغت الديون الخارجية 53 مليار دولار، وتدهورت قيمة العملة الوطنية (الجنيه) أمام الدولار.
فشلت برامج الجنرال وزبانيته في إحداث النهضة الاقتصادية بسبب الفساد والتدمير الممنهج للمشاريع الزراعية والصناعية الكبرى، فأصبح النظام متسولا لدى الدول الخارجية يبحث عن القروض والهبات والودائع، مما أضطره لإحداث تحول مفاجئ في سياسته الخارجية في عام 2014 حيث أعلن قطيعته مع حليفته الأكبر إيران واتجه نحو معسكر دول الخليج والسعودية لعلها تغدق عليه بتلك الودائع المنشودة.
زج الطاغية بالجيش السوداني في حرب اليمن سعيا وراء تدفق الأموال الخليجية التي لم تحضر أبدا، حيث تعاملت معه دول الخليج كسمسار حرب يجلب جنودا مرتزقة، ولذا تمت مكافأته بمنحه مرتبات هؤلاء الجنود فحسب، فخاب رجاؤه وقرر الضغط على دول الخليج والميل باتجاه للمعسكر القطري/ التركي، ومن ثم اتجه صوب روسيا وطلب من الرئيس بوتين علانية حماية نظامه من الولايات المتحدة الأميركية التي تسعى للإطاحة به بحسب زعمه.
ومع ذلك، استمرت الأوضاع الاقتصادية في التدهور السريع وأوشكت البلاد على الانهيار، ولكن الجنرال ظل يواصل في سياسته الخارجية المتخبطة وقام بزيارة مفاجئة لسوريا بتسهيل روسي التقى خلالها بشار الأسد، وعند عودته كانت حالة الاحتقان الداخلي قد بلغت مداها على إثر انعدام الخبز والجازولين وارتفاع الأسعار، مما أدى لانفجار التظاهرات في مختلف أنحاء البلاد وخرجت الجماهير تهتف بسقوط الطاغية ونظامه الفاسد.
لم يتورع الجنرال المطلوب من قبل محكمة الجنايات الدولية لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، عن توجيه أجهزته الأمنية ومليشيات حزبه الفاشي لقمع التظاهرات السلمية بوحشية شديدة، حيث حصد رصاص قناصته أرواح اثنين وعشرين متظاهرا في ثلاثة أيام في مختلف ولايات السودان، وجرح المئات، وزج بالعشرات في السجون. ومع ذلك، ظلت وتيرة الاحتجاجات تتصاعد يوما بعد يوم مطالبة برحيله.
وجريا على عادة جميع الأنظمة الفاشية في الوطن العربي، عزا مدير جهاز أمن النظام التظاهرات الجماهيرية الضخمة إلى مؤامرة نفذتها عناصر تلقت تدريبها على يد جهاز المخابرات الإسرائيلي ـ الموساد، وهذه حجة سخيفة ومثيرة للسخرية تعكس مدى الإحباط واليأس الذي أصاب الحاكمين جراء السيول البشرية المنهمرة التي غمرت شوارع كل ولايات السودان، أطفالا ونساء وشيوخا، والتي لم تفلح نيران القناصة في وقف مدها الثوري المتعاظم.
أكتب هذه السطور وما تزال احتجاجات الجماهير السودانية تتوالى رغم القمع الشديد من قبل السلطة، حيث أعلنت قيادة المعارضة تاريخ بدء الإضراب السياسي العام والعصيان المدني، وهي الوسائل السلمية التي استطاع عبرها الشعب السوداني التخلص من نظامين عسكريين في ثورتي تشرين الأول/أكتوبر 1964 ونيسان/أبريل 1985.
أفادنا درس التاريخ بأن الطغاة لا يتعظون أو يتعلمون من تجارب نظرائهم، ولو كانوا يفعلون، لكان جنرال السودان أعاد النظر مرتين في مصير الطغاة العرب: معمر القذافي، وزين العابدين بن علي، وحسني مبارك، وعلى عبد الله صالح، قبل أن يشرع في ارتكاب المجازر بحق الشعب الثائر، ولكنه أبى وآثر التمسك بالسلطة حتى الرمق الأخير، ولا شك أنه سيلقي مصير أشباهه من الطغاة، عاجلا أم أجلا.