أحمد البهنسي
تربط سمة "الامتداد والتكرار" بين الاستشراق الإسرائيلي والاستشراق الغربي، بمعنى أن الأول يُعَدّ امتداداً للثاني، فقد خرج من رحمه وتعلم رواده في نفس مدارسه، كما كرر نفس شبهاته وفرضياته حول الإسلام ومصادره الأساسية وفي مقدمتها القرآن.
وكانت فكرة تأثر القرآن بمصادر دينية يهودية سابقة عليه من الأفكار التي كررها الاستشراق الإسرائيلي ووضعها في عدة أنساق وقوالب مختلفة، معتمداً في ذلك على منهج التأثير والتأثر أو ما سُمي في بعض الأبحاث العلمية بمنهج المقابلة والمطابقة، لا سيما في ما سمّاه بـ"قصص الأنبياء المشتركين"، والمقصود بهم بعض الأنبياء والشخصيات الدينية التي ورد ذكرها في كل من القرآن والعهد القديم ومصادر دينية يهودية أخرى مثل التلمود أو المدراشيم والآجادوت.
تشكل القرآن
يعتبر المستشرق الإسرائيلي أوري روبين، أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة تل أبيب في كتابه "بين العهد القديم والقرآن: أطفال إسرائيل وتصوّر الإسلام عن ذاته"Between Bible and Qur'an: the Children of Israel and the Islamic Self-Image، الصادر عام 1999، أن هناك دوراً يهودياً بارزاً في تشكل وظهور عدد من مفاهيم ورؤى القرآن.
ويحدد هذا الدور في تشكيل "التصورات الدينية والتاريخية المختلفة للمسلمين" في مرحلة مبكرة من ظهور الإسلام، وهذا يبدو واضحاً، من وجهة نظره، من خلال تاريخ العلاقات بين يهود ونصارى ووثنيي شبه الجزيرة العربية بالإمبراطورية البيزنطية عن طريق مملكة "الحيرة" العربية في العراق، والعلاقات بين عرب ما قبل الإسلام وما أسماهم بـ"الإسرائيليين" ويقصد بهم يهود شبه الجزيرة العربية.
ويلفت روبين إلى أن يهود بني قريظة وبني النضير أسهموا في تشكيل رؤية القرآن حول الوحدانية وحول الملائكة، لا سيما جبرائيل وميكائيل، وكذلك تصوّر المسلمين حول أهمية الصيام وكيفية ممارسته.
تبرز نفس الفكرة أيضاً في كتاب "اليهودية بين المسيحية والإسلام" الصادر عام 1973 عن مركز المناهج الدراسية التابع لوزارة التربية والتعليم الإسرائيلية للصف السابع الابتدائي، وهو من تأليف المستشرق الإسرائيلي مائير يعقوب كيستر الذي يُسمى بأبي الاتجاهات الاستشراقية في إسرائيل.
فقد جاء في الصفحة 22 من الكتاب المذكور أن "الدين الإسلامي كان خليطاً من الأديان السماوية، فمادة الدين الإسلامي (القرآن) تجمعت نتيجة لسفرات الرسول التجارية، وتعرّفه على مبادئ الدين اليهودي، وجمعه لقصص العجائب والتجارب التي حصلت لكل من سيدنا إبراهيم وإسحق ويعقوب وأنبياء إسرائيل، ولم تكن تعاليم محمد جديدة على العرب، لأن اليهود كانوا قد سكنوا الجزيرة العربية منذ خراب الهيكل الأول، وعلمّوا العرب تعاليمهم اليهودية".
كما جاء في الصفحة 115 من الجزء الثاني من كتاب "رحلة إلى الماضي" الصادر أيضاً عن قسم مناهج التعليم في وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية عام 1997، والذي شارك في تأليفه مجموعة من المستشرقين الإسرائيليين، أن "النبي محمد بذل جهداً مضنياً لمطابقة ومماثلة دينه مع العادات اليهودية، فقد أمر أتباعه بصيام يوم الغفران، والتوجه في الصلاة نحو القدس. ومع كل ذلك، كان أبناء الطائفة اليهودية يعرفون أن محمداً ما جاء ليتبع ناموس التوراة والوصايا، وأن دينه (قرآنه) يختلف عن دين اليهود في كل تفاصيله، لذلك رفضوا التخلي عن عقيدتهم، وسخروا منه بسبب ضآلة معرفته بشؤون التوراة والوصايا".
ويتابع الكتاب: "عندما أدرك (محمد) أن اليهود لن ينجذبوا إليه ولا إلى عقيدته، قرر أن يفرض عليهم قبول دينه عنوة أو طردهم من المدن التي يقطنونها...، وتوقف عن محاكاتهم وتقليدهم، ومن ثم قرر توجيه المسلمين أثناء الصلاة نحو مكة، وبدل أن يقوم أتباعه بصيام يوم الغفران، فرض عليهم صيام شهر رمضان، كما أن موعد صلاة الجماعة تحوّل من السبت إلى يوم الجمعة، وأمر بالصلاة خمس مرات وكل صلاة يجب أن يسبقها غسل اليدين، وأثناء الصلاة يركع المسلم على ركبتيه ثم يسجد، كما فرض عدم تناول لحم الخنزير كما يفعل اليهود".
قصص القرآن
ورد في باب القرآن في موسوعة "كنز إسرائيل، موسوعة لكل مجالات توراة إسرائيل وآدابها وتاريخها"، وتحت عنوان جانبي "ماذا تعلّم محمد من توراة اليهود؟"، أن محمداً لم يكن يعرف القراءة والكتابة، كما ذكر هو بنفسه (سورة محمد، الآية 22)، لذلك اضطر إلى أن يتعلم من أحد اليهود، الذين رووا له قصصاً عن حياة الأنبياء وأساطير من أعمال الآباء.
والآية الواردة في الاستشهاد خاطئة فنصها هو {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} والمقصود هو الآية 157 سورة الأعراف، ونصها هو {الذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ...{
وبحسب المقال المذكور، "كان أستاذ (النبي محمد) اليهودي هو عبد الله بن سلام، ووفقاً لما ظهر من القرآن فإن ابن سلام قال لمحمد مجرد أفكار هامشية وقطعاً بسيطة، لا معارف شاملة وكاملة، ومن الصعب تحديد ما إذا كانت الأخطاء الكثيرة والتبديلات والزيادات خرجت من فم المعلم أم التلميذ، كما لا يوجد ترتيب صحيح في القصص، فكثيراً ما حُدد إبراهيم، إسحق، يعقوب، إسماعيل، نوح، داود، سليمان، أيوب، يوسف، موسى، هارون، لكن بترتيب مقلوب". وهنا تقصد الموسوعة أن ترتيب ورود قصص الأنبياء في القرآن الكريم جاء مخالفاً لترتيب ورودهم في التوراة، وتصف ذلك بالترتيب "المقلوب".
وأضافت الموسوعة تحت عنوان جانبي "قصص القرآن وفق ترتيب التوراة" إلى "أن قصص القرآن وافق الترتيب التوراتي في بعض الأحيان وخالفه في أحيان أخرى، فقد ورد الترتيب القرآني لبعض القصص متوافقاً مع التوارة كما في قصة الخلق التي ورد فيها أن الأرض والسماء انفصلتا إحداهما عن الأخرى بعدما كانتا كتلة واحدة، وبعد ذلك خُلقت سبع سموات، وفي البداية خُلقت الجنة وبعد ذلك خُلق آدم وزوجه، وسمع الملائكة أن آدم سيُخلق، فاتهموه بالسوء أمام الإله، وحينما خلق آدم أمر الإله ملائكته بالسجود له، وسجدوا لكن الشيطان (إبليس) امتنع عن فعل ذلك ، ثم تم توجيه الأمر لآدم وحواء بألا يأكلا من شجرة المعرفة، لكن الشيطان (إبليس) حرّضهما وأكلا منها، وطُردا من جنة عدن، وأخرج الإله من بعده (أي من بعد آدم) نسله من الجنة وآمنوا بالله".
وحول قصة نوح تحديداً، أشارت الموسوعة الإسرائيلية إلى أن نوح ذُكر في القرآن واعظاً قومه وقال: أنا لا أطلب منكم أجراً، فأجري على رب العالمين (في القرآن: {ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله})، مشيرة إلى أن نفس هذه الصيغة موجودة كذلك عند مَن دُعيوا بالأنبياء في العهد القديم من أمثال هود وصالح ولوط ويثرو، ومصدرها موجود في سفير أشعياء (62/11)، وفيه: "هَا هو أُجْرَتُهُ مَعَهُ وَجَزَاؤُهُ يَتَقَدَّمُهُ". وأضافت الموسوعة أن من هذا نفهم أن محمداً كرر لقومه أنه لا يطلب أي أجر منهم.
من جانبها، وضعت المستشرقة الإسرائيلية ميري شيفر في كتابها "الإسلام/ مدخل مختصر" الصادر عن جامعة تل أبيب عام 2007، نظرية مختلفة حول قصص القرآن ومدى تأثرها بما ورد في التوراة.
أشارت إلى أن قصص القرآن يمكن النظر إليه من خلال منظورين: داخلي، يعكس وجهة نظر المؤمنين بالقرآن وبهذه القصص على أنها قصص قرآنية خالصة؛ ومنظور آخر خارجي يعكس وجهة نظر واستنتاجات المستشرقين والباحثين في القرآن والذين يرون أن هذه القصص مقتبسة من مصادر دينية يهودية.
وأضافت المستشرقة الإسرائيلية أن قصة مثل قصة يوسف تمثّل التصور القرآني والتوراتي المشترك حول الشخصيات الدينية، فهي شبه متماثلة في كل من التوراة والقرآن، لكن القرآن حذف من القصة التوراتية الكثير من التفاصيل، إضافة إلى أن القصة التوراتية، لكونها سابقة على القصة القرآنية في الظهور، تُعَدّ أشمل وأوضح وتعطي سرداً تاريخياً، وليس قصصياً وحسب، حول شخصية يوسف وأبيه وإخوته وبقية شخصيات حكام مصر.
نقد الفكرة
تقوم الفكرة الاستشراقية الإسرائيلية حول تأثر القرآن باليهودية على فرضية التأثير والتأثر بين الأديان والحضارات، خاصةً استناداً إلى الحضور اليهودي في مهبط أو مكان نزول القرآن الكريم.
ولكن فكرة أو منهج التأثير والتأثر يقوم على خطأ في فهم التأثر نفسه والحكم عليه، إذ إن عملية التأثر المتبادل هي في الأساس عملية حضارية معقدة تتم على مستويات عدة، اللغة، والمعنى، والشيء، فلو كان هناك اتصال تاريخي بين حضارتين، وظهر تشابه بين ظاهرتين فإن ذلك قد يكون في اللغة، وفي هذه الحالة لا يكون تأثراً بل "استعارة"، فعادة ما يحدث أن تسقط الحضارة الناشئة ألفاظها القديمة وتستعير ألفاظ الحضارة المجاورة وتستخدمها للتعبير عن المضمون القديم. أما إذا حدث تشابه في المضمون بين ظاهرتين من حضارتين مختلفتين فإن ذلك أيضاً لا يمكن تسميته أثراً وتأثراً، دون تحديد لمعنى الأثر، لأن إمكانية التأثر من اللاحق بالسابق موجودة لأن الشيء نفسه موجود ضمناً في الظاهرة اللاحقة (انظر: حسن حنفي، التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، بدون تاريخ.(
وبشكل عام، لا شك أن التأثير والتأثر بين الحضارات والثقافات والجماعات هو سنة اجتماعية وتاريخية لا يمكن إنكارها.