محمد شعبان:
رغم أنه لم يمكث على الكرسي البابوي سوى سبع سنوات وتسعة أشهر، إلا أن المؤرخين يصفون البطريرك كيرلس الرابع بـ"أبي الإصلاح الكنسي"، بسبب إجراءاته النهضوية التي انتشلت الكنيسة المصرية من جمودها وتراجعها في تلك الفترة.
اسمه الأصلي داود توماس بشوت، ولد سنة 1816 في قرية الصوامعة الشرقية في مديرية جرجا في صعيد مصر، وتلقى تعليمه الأولي في كُتّاب الكنيسة حيث تعلّم القراءة والكتابة باللغتين العربية والقبطية إضافة إلى مبادئ الحساب. وعندما بلغ الـ22 من عمره، اتجه إلى دير القديس الأنبا أنطونيوس في الصحراء الشرقية من أجل سلك طريق الرهبنة، حسبما ذكر لرصيف22 أستاذ التاريخ القبطي الدكتور ماجد عزت إسرائيل.
وسرعان ما شاعت بين الرهبان شهرة داود الصومعي بالذكاء والتواضع ودماثة الأخلاق، إلى درجة أن رئيس الدير القس أثناسيوس القلوصني كان يوكل إليه إدارة شؤون الدير أثناء سفره. وعندما توفى القلوصني، أجمع رهبان الدير على اختيار داود خلفية له، وكان ذلك أثناء بابوية البطريرك بطرس السابع الجاولي (1809-1852.(
رحلة الحبشة
ساهمت في سطوع نجم داود الصومعي أكثر الأزمة التي نشبت عام 1851 بين الكنيستين الإثيوبية والمصرية، وسعي الأولى للانفصال عن الثانية بسبب الخلافات حول بعض الأمور العقائدية.
بحسب إسرائيل، فشلت الرسائل المتبادلة في حل الأزمة، وظهرت حاجة ملحة لإيفاد أحد الآباء لاحتوائها، فرشح البطريرك "القمص داود" لهذه المهمة الدولية، فوافق ولكنه طلب أن يرافقه أحد الرهبان ويدعى برسوم (صار بعد ذلك الأنبا يؤانس، أسقف المنوفية).
في بلاد الحبشة، قضى داود ورفيقه برسوم حوالي 16 شهراً، واستطاع بالحوار والمناقشة مع مطران الحبشة والكهنة إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، يروي إسرائيل.
إلى الكرسي البابوي
بعد تحقيق مهمته في الحبشة، ارتفعت أسهم القمص في دوائر الحكم، خاصة لدى الخديوي عباس حلمي الأول (1848 – 1854)، فتم ترشيحه، أثناء سفره، لكرسي البابوية بعد شغوره بوفاة الجاولي عام 1852، لكن ذلك قوبل بمعارضة شديدة من بعض الرهبان والأساقفة، ربما لصغر سنه، أو بسبب أفكاره الجديدة التي كان يطمح إلى تطبيقها "بهدف تطوير الكنيسة ووضعها في طريق الحداثة"، بحسب إسرائيل.
ولاحتواء الأزمة، جرى الاتفاق على رسامة داود أسقفاً عاماً يتولى إدارة شؤون البطريركية إلى حين الاتفاق على بطريرك جديد. وبعد 14 شهراً في هذا المنصب، أجمع الأقباط على تزكيته للكرسي البابوي، ورُسِّم في يوليو 1854 باسم كيرلس الرابع، ليصبح البابا رقم 110 في تاريخ الكنيسة المصرية، بحسب إسرائيل.
إنشاء المدارس
لم ينلْ كيرلس الرابع لقب "أبو الإصلاح الكنسي" من فراغ. مهّدت لذلك مجموعة إجراءات اتخذها لانتشال الكنيسة المصرية من جمودها، لا سيما أن تلك الفترة كانت تشهد نشاطاً مكثفاً للإرساليات التبشيرية التي هدفت من خلال بعض الأنشطة الاجتماعية إلى تحويل المصريين الأرثوذكس إلى البروتستانتية أو الكاثوليكية.
وبحسب إسرائيل، كان التعليم على رأس أولويات البابا، فأنشأ العديد من المدارس، في البطريركية وفي حارة السقايين (منطقة عابدين الآن)، وخصص بعضها للبنات، وكانت أبواب هذه المدارس مفتوحة أمام المسلمين والمسيحيين معاً، واقتصر التعليم فيها على دراسة اللغات القبطية والعربية والأجنبية والحساب.
ويذكر القس منسي يوحنا، في كتابه "تاريخ الكنيسة القبطية"، أن العرفان (أشخاص كانوا يدرسون للأطفال في الكتاتيب) سعوا، عندما علموا بأمر هذه المدارس، إلى نشر الفتن ضد البطريرك، فأوهموا أهل التلاميذ بأن البابا والوالي عقدا اتفاقاً على أن يُجنّد له الأولاد في الجيش، وكان إذا وصل البطريركية شيء من أدوات المدرسة ادّعوا أنها آلات حربية.
ولما تنامى انتشار هذا النوع من الشائعات، عمد البطريرك إلى استرضاء العرفان، فأناط بهم مهمة التعليم في المدارس، ولم تمضِ فترة قصيرة حتى أثمرت خطوة المدارس وأنجبت تلاميذ يجيدون التحدث بلغات مختلفة.
وتزامن تخرّج الطلاب من تلك المدارس مع إنشاء مصلحة السكة الحديدية، فانتظموا في العمل بمحطاتها، وكانوا يؤدون أعمالهم باللغة الإنكليزية، كما عمل بعضهم في المصارف وعند التجار، لمعرفتهم باللغة الإيطالية.
وبحسب يوحنا، "اهتم كيرلس الرابع بتعليم اللغة القبطية وإحيائها، فطبع بها عدة كتب بدار الطباعة في لندن، فتعلمها أبناء المدارس وتكلموا بها".
إصلاح الكتب "الفاسدة"
بيد أن أهم ما قام به كيرلس الرابع على الصعيد الإصلاحي كان إنشاء مكتبة في الدار البطريركية تضمّ الكتب النفيسة التي جمعها من خزائن الأديرة والمعابد القديمة، فأصلح ما فسد منها، وأمر بتصحيح الكثير من الكتب "التي كانت محشوة بالخلط والتخريف"، نتيجة امتداد أيدي الآباء السابقين إليها في العصور السابقة، حسبما ذكر يوحنا.
واتجه البابا إلى ترقية وتهذيب القساوسة، فكان يجمعهم كل سبت ويناقشهم في مسائل مختلفة ويشرح لهم واجباتهم وما يمنحهم حظوة لدى الناس، كما صرف رواتب شهرية لمَن يعرف اللغة القبطية والوعظ، وبهذا حبّب إليهم العلم وقاوم المبشرين في مصر والحبشة.
ولمواكبة تلك الإجراءات الإصلاحية، استورد البطريرك مطبعة من النمسا على نفقة الكنيسة القبطية، للمساهمة في طباعة الكتب التي تحتاج إليها المدارس التي أنشأها، وكذلك النشرات والقرارات البابوية والمقالات والتقارير، يذكر إسرائيل.
وامتدت إصلاحات البطريرك إلى الكنائس، فاستكمل بناء الكاتدرائية المرقسية الواقعة في منطقة كلوت بك بالقاهرة، ورمم بعض الكنائس في مناطق عدة في مصر القديمة وحارة الروم.
إلغاء الجزية ودخول الجيش
سعى كيرلس الرابع إلى الحوار مع كل بطاركة كنائس الروم والأرمن في مصر، يذكر الباحث في التراث القبطي مجدي كامل لرصيف22، ويضيف أنه حقق في ذلك نجاحات، حتى أن بطريرك الروم الأرثوذكس كلينيكوس وضع شؤون كنيسته تحت إشراف الأول عندما سافر إلى القسطنطينية.
لكن الحدث الأبرز في عهد كيرلس الرابع كان عام 1855، عندما ألغى الخديوي سعيد باشا الجزية المفروضة على غير المسلمين، وكان هذا أحد مطالب البابا منه.
ويذكر المدقق التراثي باسم الجنوبي لرصيف22 أن إلغاء الجزية لم يكن له علاقة بالكنيسة أو بتدخل البابا، وإنما يرجع بالأساس إلى رغبة الخديوي في تقليل الاعتماد على العنصر التركي وتأسيس جيش مصري يحلّ مكان الجيش الجهادي، وذلك بهدف تأسيس الدولة القومية المصرية، وأن إلغاء دفع الجزية كان تمهيداً لإلحاق الأقباط بالجيش.
وتردد وقتها أن البابا طلب من الخديوي إعفاء المسيحيين من الالتحاق بالجيش، وعندما سمع البابا بذلك سارع إلى إصدار بيان نفى فيه هذه الشائعات، بل وحثّ الأقباط على دخول الجيش، حسبما يروى كامل.
وبحسب الجنوبي، كانت تعاليم الكنيسة المصرية في تلك الفترة تؤكد حرمانية حمل القبطي للسلاح، حتى لو دفاعاً عن النفس، ولذلك استلزم القرار السياسي الجديد سلسلة إصلاحات في التعليم المسيحي ليمتثل الأقباط لقرار الدولة.
وهنا جاء دور البابا في تعديل المناهج المسيحية بحيث تتناسب مع حمل السلاح دفاعاً عن الوطن، وفي سبيل ذلك راح يغرس التوجهات الجديدة التي رآها الأصوليون آنذاك "هرطقة" عبر المدارس.
يُذكَر أن كيرلس الرابع راح يطالب بعد التحاق الأقباط بالجيش بوصولهم إلى مناصب عالية.
البابا ومكائد الإنكليز
عام 1856، كان كيرلس الرابع على موعد مع زيارة ثانية للحبشة، إثر خلاف بين الحكومتين المصرية والحبشية على الحدود بين البلدين. وبحسب يوحنا، قيل إن السلطان عبد المجيد الأول (1823 – 1861) هو مَن أوعز إلى سعيد باشا بإرسال البابا إلى الحبشة، للمساعدة في عقد اتفاقية بينه وبين الإمبراطور ثيودورس الثاني الذي تعدى على بعض جهات إقليمي هرر وزيلع التابعين حينذاك لمصر.
ولما علم إمبراطور الحبشة بقدوم البطريرك خرج لملاقاته في موكب حافل، وعندما بدأت مباحثاتهما طلب البطريرك منه أن يرد لمصر ما أخذه منها، فاستجاب له، ثم طالبه بترحيل المبشرين الإنكليز الذين كانوا يبشرون بالبروتستانتية، فاعتذر لأنهم يعلّمون جنوده فنون الحرب، فأجابه البطريرك بأن الحال تغيّر ولا يوجد داع لقيام حرب، فأمر ثيودورس الثاني بإخراج المبشرين من بلاده، ما تسبب بحقد المبشرين عليه فقرروا الانتقام منه، يروى يوحنا.
أثارت النتيجة حنق الإنكليز، فأوعزوا للخديوي بأن كيرلس يسعى إلى تسليم مصر لثيودورس الثاني، فتوجّه إلى الخرطوم بجيش عظيم، وفي الوقت نفسه كانوا يحبكون مكيدة ضد البطريرك لدى إمبراطور الحبشة، فدسوا إليه أن قدوم كيرلس كان لطرد الإنكليز الذين يعدون له آلات الحرب حتى يتمكن خديوي مصر منه، فأمر بحبس البطريرك وقضى بحرقه حياً.
لكن والدة الإمبراطور توسلت إلى ابنها أن يسمع دفاع البطريرك، وبالفعل استطاع الأخير إقناع الأول بحسن مقاصده، فأرسل البابا إلى سعيد باشا أن نجاحه في مهمته يتوقف على رجوعه بجيشه من حيث أتى، فاستجاب الخديوي ورجع إلى مصر، وعند ذلك تبيّن للإمبراطور صدق البابا واعتذر منه، بحسب يوحنا.
وفاته... طبيعية أم بفعل فاعل؟
رغم مرور 158 عاماً على وفاته، في سن الـ46، لا تزال علامات استفهام عديدة تلفّها. بحسب إسرائيل، ذكرت بعض الدراسات أنه سُمم، ولكن لا توجد أدلة تؤكد ذلك، لكن المؤكد أن الوفاة كانت غير طبيعية، بحسب تقرير الحالة الصحية فى ذلك الوقت.
ويجزم الجنوبي بأن كيرلس الرابع مات مسموماً من أفراد المجمع المقدس، ولكن التاريخ الرسمي للكنيسة يتغاضى عن ذكر ذلك.
يعضد هذا الرأي ما ذكره القمص صموئيل تاوضروس في كتابه "باباوات الكرسي الإسكندري 1809/1971"، الصادر ضمن سلسة "تاريخ البطاركة"، من أن ساسة الإنكليز كانوا ناقمين عليه لأنه طرد مبشريهم من الحبشة، ولم يمكّنهم من الاستيلاء على دير السلطان في القدس، واشتد حنقهم عليه عندما عزم على توحيد الكنائس الأرثوذكسية، فكادوا له عند الخديوي، وقالوا إنه يخطط للخروج عن طاعة الدولة وجعل الكنيسة القبطية تحت حماية القيصرية الروسية.
وفي تلك الظروف، استدعى محافظ القاهرة البطريرك لمقابلته من أجل أمر هام، إلا أن البابا صرف رسول الحاكم وأفهمه أنه لا يمكنه الحضوره لظروف شخصية، ولكن المحافظ أصر على حضوره وأرسل في طلبه مراراً، فلم يجد البابا مفراً من هذه المقابلة، وتحامل على مرضه وذهب إلى سراي المحافظ.
ورغم عدم الوقوف على ما دار بين البابا والمحافظ، إلا أن البطريرك عاد إلى مقره إثر المقابلة خائر القوى ومحموماً ولازم الفراش، فأوعزت "الدوائر المتآمرة" إلى مطران الأرمن في القاهرة، الأنبا كيريل، وإلى الخواجة حنا مسرة، بأن يذهبا في الحال إلى البطريركية وأن يأخذا معهما طبيباً.
وروى تاوضروس أن الثلاثة دخلوا على البطريرك، وأفهمه المطران أنه يثق في الطبيب لأنه طبيب الوالي، والواقع أنه كان خائناً مأجوراً، وأعطى للبطريرك جرعة سامة، وشجعه كيريل على تناولها، وبعد أن تجرعها فقد وعيه على الفور وسقط شعره ولحيته، ثم مات، وكان ذلك في 30 يناير 1861.
رصيف 22