أحمد متاريك:
احتلّت حياة "الأعراب" حيّزاً مهمّاً في كتب التراث العربي، وشكّلت جانباً طالما عُني بالكتابة عنه وفيه، لأسباب لغويّة وفقهيّة تبدأ من الدين وتنتهي إليه، ولا عجب في ذلك فهُم أهل العربية الخُلَّص، الذين يُشكّلون بعاداتهم ولسانهم، مرجعيّة لا غنى عنها، لكل مَن يبتغي سَلْك كل دروب فهم الشريعة الممكنة التي مهّدتها نصوص الكتاب والسُنّة والتاريخ.
عن كلامهم، وضع الأندلسي ابن عبد ربه كتاباً كاملاً في موسوعته، بدأه بعبارة بيّنت سبب اهتمامه به ووصفه فيها بأنه "الأشرف حسباً، والأكثر رونقاً، والأحنّ ديباجة، والأوضح طريقة".
ومن أجل اكتساب "رونق الكلمات" نشأت عادة العرب لإرسال الأطفال إلى البادية ليكتسبوا من أهلها طلاقة اللسان، وهي عادة ظهرت لنا في سيرة النبي الذي قضى سنواته الأربعة الأولى مع بني سعد، واستمرّت بعدها بِانتظام، فحُكي عنها كمراحل تربويّة روتينيّة لابدّ وأن تشملها حياة أمراء الدولتين الأمويّة والعباسيّة، بل وبقيت حتى كتب عنها رحّالة سويسري في كتاب له وضعه عن زيارته لشبه الجزيرة عام 1814م.
أصل الإسلام
بينما كان الخليفة عمر بن الخطاب يحتضر على فراش الموت، أمر بتشكيل لجنة سداسية تختار الخليفة من بعده، الذي أوصاه بالأعراب لأنهم "أصل العرب ومادة الإسلام".
بدوي جاهل أحياناً، رجل فصيح ينطق بالحكمة والمرح في أغلب الأوقات، وشيخ فظّ غليظ القلب واللسان، تتعدّد الأشكال التي تُظهرها الروايات متباينة المحتوى مجهولة البطل، يتماثل السيناريو في معظم اللحظات وتتباين مقاصده، الأرض تنشقُّ عن أعرابي ما عادةً لا تُحدَّد هويته، تخلّى عن باديته للحظات مرَّ فيها بجماعة، يُلقي عليهم جملة هي بطلة الرواية الأساسيّة وغرضها الرئيس، حتى يكاد أن يكون ما قبلها وبعدها مجرد حشو.
وهنا تختلف أغراض الروايات والراغبين في الاستعانة بها ما بين مؤيّدٍ لـ"أصل العرب" فيحتفي بحِكمتهم ونصوع لسانهم أو معارض لهم فيسخر من بدويتهم الفجّة ومكرهم وهمجيتهم، مُتخذاً من الطبيعة المركّبة لشخصية الأعراب الجامعة بين النقائض، تُكأةً للهجوم أو الدفاع عنها، لكنها بقيت في جميع الأحوال منبعاً مهمّاً لأحد أشكال الشخصيّة العربيّة القديمة وأحد روافد الإسلام بصورته الأوّليّة.
الأشدّ بلاغة.. وكفراً
في مجال فصاحة اللغة لا يمكن أن يضارعهم أحد ولا حتى أعتى المعارضين لهم، فهنا جاءت حتميّة الاستعانة بهم، كشهود عدل على إعجاز القرآن وبلاغته، وحصر أدوارهم المهمّة بهذا الإطار، يروي القرطبي في كتابه "الجامع لأحكام القرآن" رواية الثعلبي عن الحسن، بأن أعرابيّاً مرَّ على النبي وهو يقرأ آية "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم" فتأثّر بكلماتها بشدّة، وسأله "كلام مَن هذا؟"، فأجابه النبي: "كلام الله"، فقال الأعرابي: "بيع والله مُربح، لا نقيله ولا نستقيله (لا نفسخ البيعة أبداً)"، ثم آمن بالإسلام.
ويحكي يوسف بن حيان في كتابه "البحر المحيط في التفسير" موقفاً مشابهاً وإن لم يكن النبي أحد أبطاله، بعدما عبَر أعرابي على رجلٍ فوجده يقرأ "يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" فطأطأ رأسه، وقال: "هذا كلام القادرين".
يقول ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير في علم التفسير"، إنه حينما أُشكل على ابن عباس تفسير معنى كلمة "بعل" في آية "أَتَدعُونَ بَعلا وَتَذَرُونَ أَحسَنَ الخَـٰلِقِینَ"، أنقذه أعرابي قَدِم على صبيان سألهم على ناقة ضائعة له، قائلاً "مَن وجد ناقة فأنا بعلها"، وهي الجملة التي فهمها الصغار خطأً فراحوا يسخرون منه قائلين "يا زوج الناقة"، هنا انتبه ابن عباس وسأله عن معنى لفظة "بعل"، فأكّد أنه عني بها الرب والصاحب، هادياً دون أن يدري حبر الأمة لمعنى كلمة قرآنيّة استعصى عليه.
وهنا يتضح جليّاً مدى الحرص على إبراز انبهار الأعراب أهل الفصاحة والبلاغة بالقرآن ومعانيه فور سماعه، بِاعتبار أن شهادتهم ستكون حجّة على غيرهم، فهم أصحاب لسان منعزل لم يختلط بغيرهم فبقي فصيحاً صافياً وبالتالي يكون انبهارهم بالقرآن حُجّة للجميع على معجزته البيانيّة.
وعلى الرغم من هذا الاحتفاء بالتذوّق الأعرابي للوحي إلا أن أهل مُدن الحجاز قبل الإسلام وبعده عُرف عنهم الحذر الدائم في تعاملهم معهم، يقول جواد علي في "المفصّل"، إن أهل المدن كانوا ينعتون الأعراب دائماً بالغلظة والقسوة، حتى أنهم إذا أرادوا وصف شخص بالعنجهيّة قالوا "فيه أعرابيّة"، كما أن النبي نَهَى عائشة عن قبول أي هديّة من أعرابي لأنهم لا يهدون شيئاً إلا طمعوا في ردِّه بأكثر منه، ومن هنا نجد تفسيراً لما ورد في القرآن عن سيرة طائفة منهم وصفت بـ"الأشدّ كفراً".
هلا جعلتم الرسول في سفط
في يوم وفاة النبي، يحكي مرتضى الزبيدي في كتاب "تاج العروس"، أن أعرابياً مرَّ بالصحابة لحظة وفاة النبي فأنشد ناصحاً (هَلاَّ جَعَلْتُم رَسُولَ اللهِ فِي سَفَطٍ ... مِنَ الأُلُوَّةِ أَصْدَا مُلْبَساً ذَهَبَا)، يدعوهم لأن يضعوا النبي في تابوت فاخر من الخشب المطعّم بالذهب تكريماً له.
حديث "المدينة أرض قليلة المطر" الذي رواه أبو هريرة عن النبي، لم نكن لنعرفه لولا مرور أعرابي حاوَر خادم الرسول وسأله أن يعطيه "غنيمة له"، وفقاً لما ذكره أبو القاسم بن بشران في الجزء الأول من كتابه "أمالي بن بشران".
أبو هريرة لم يكن الصحابي الوحيد الذي اقترن اسمه بقصّة أعرابي مارّ، وإنما لحق به عبد الله بن مسعود، والذي يروي عنه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "فضائل القرآن" أن أعرابيّاً مرَّ عليه بينما كان "يُقرئ قوماً القرآن"، فلما سأله عما يفعلون أجابه ابن مسعود بأنهم "يقتسمون ميراث محمد".
كُتِبَ تاريخهم بأقلام عباسيّة
لا يمكن الحديث عن كيفيّة رسم صورة الأعرابي في ورقات كُتب التاريخ بمعزل عن مواقفهم السياسيّة من السُلطة قُرباً أو بعداً، لأن الأعراب كانوا أولى بذور حركة الخوارج التي عادت عرشي الأمويّين والعباسيّين، الذين وُضعت، تحت رعايتهما، كافة كتب التاريخ والأحاديث التي نعتبرها المادة الخام للإسلام حتى الآن، ولم يكن تأثيرهما ببعيدٍ عن عقول وقلوب كتّابها.
ناصروا علياً ضد معاوية ولمّا فشلت حربهم تشرذموا في جنبات الجزيرة واعتنقوا أشدّ المذاهب تشدّداً، وكادوا يكفّرون كل مَن ليس معهم على الرغم من أن معرفتهم بالدين ظلت مبسطة قائمة على العبادات.
وبالرغم من محاولة حكّام بني أمية اجتذابهم إلا أنهم ظلّوا أبداً شوكة في خاصرة الدولة حتى انتهت، لذا ليس بالغريب أبداً أن تكون صورتهم في الكتب، انعكاساً للهوى الأموي لهم، كغلاظ اجتمع واحد منهم بالخليفة معاوية بن أبي سفيان فتركه وراح يأكل خروفًا، فمازحه قائلاً "ما ذنبه إليك، أنطح أبوك؟، فأجابه بخشونة "وما خوفك عليه، أأرضعته أمّك؟".
أو كجهلة عسيري الفهم يدخل الواحد منهم على الوليد بن عبدالملك فيسأله "من ختنُك؟" يعني قريبه، ففهمها الأعرابي "ختنَك" أي عملية الختان، فأجابه "بعض الأطباء" ما أثار ضحك حاشية الوليد.
أما الدولة العباسيّة التي مالت بشدّة لتفضيل الفرس على العجم، وانزلقت في حركة شعبويّة تستعدي أهل الحجاز أجمعين بعربهم وأعرابهم، فكُتبت في عهدها أشهر كتب التاريخ، التي أبرزت مرويّاتها الصورة النمطيّة لما في أذهاننا عن الأعرابي الآن؛ الرجل الجلف محدود التفكير سهل الإبهار الذي ينطق بالغلظة معظم الوقت وبالحكمة بعضه، ففي كتابه "تعليق من أمالي ابن دريد" يروي موقفاً عن أعرابي شهواني مرَّ بامرأة كان يهواها قديماً، وكانت تقبّل طفلاً فأنشد لها قائلاً "يا ليتني يا ليتني كنت غلاماً مرضعاً ... تحملني الذلفاء حولاً أجمعاً".
فيما يضيف ابن حمدون بكتابه "التذكرة" موقفاً آخر جاء عن أعرابي مرَّ على قومٍ سخروا منه، فردّ عليهم ناصحاً "إنّ الناس رجلان: متكلّم غانم، وساكت سالم، فوالله ما سلمتم سلامة الصّامت، ولا غنمتم غنيمة المتكلّم".
ويُحكي أيضاً عن الأعرابي الذي مرّ بمرآة بنظر فيها لوجهه ولما استقبح نفسه سبّ المرآة قائلاً "ما طرحك أهلك من خير، ويظهر في صورة الغبي ناكث الأيمان في الحديث الذي أخرجه "ابن حبان" عن أعرابي حلف ألا يبيع شاته بـ3 دراهم وباعها، فوصفه النبي بأنه "باع آخرته بدنياه".
ما يُمكن تسميته بـ"فقه الأعراب" المُتأثّر بطبيعتهم المتمسّكة بالنصوص النائية بنفسها عن الدخول بجدال، التقفته بعض العقول وبثّته في كتبها، يقول عبد الجواد حسين بكتابه "السُلطة في الإسلام" إن أصولهم البدوية وانسلاخهم التام عن الدولة، قبل أن يشهدوا معها تبلور المنظومة الجماعيّة لرؤية الفقهاء إلى الدين، أدّت لتثبيت تشدّدهم وضيق أفقهم جنباً إلى جنب مع السذاجة الفطريّة، ما جعلهم دائماً لا يعترفون إلا بالقرآن مباشرةً دون وساطة أو تفسير من أحد، فرفضوا حجّة الإجماع، وحصر الإمامة في قريش، وآمنوا بالخروج على الحاكم إذا اجتنب العدل، وكانت هذه الآراء ربما سبباً في اعتناق الفكر السلفي، عكسها تماماً في سياق اتساقهم التاريخي مع الدولة التي عاداها الخوارج دائماً.
إلا أن صورتهم ظلّت حاضرة في كتب الفقه، للتدليل على الشيء ولو بشكل غير مباشر، فمثلاً اعتنى الإمام الحنبلي ابن بطة العكبري ببروزة موقفهم السطحي الرافض للخوض في المسائل الفلسفيّة المعقدة، عبر حكاية ينقلها في كتابه "الإبانة الكبرى"، بأن أعرابياً مرَّ على جماعة يتجادلون في مسألة القدر، ولمَّا طلبوا منه أن "يجري معهم"، أبَى الخوض في النقاش أبداً، مُترفعاً عن إدخال نفسه بمتاهات لا طائل منها، فأجابهم "هَذَا أَمْرٌ قَدِ اشْتَجَرَتْ فِيهِ الظُّنُونُ، وَتَقَاوَلَ فِيهِ الْمُخْتَلِفُونَ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَرُدَّ مَا أُشْكِلَ مِنْ حُكْمِهِ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ".
على الرغم من أنه شرح في كتابه رأيه بهذه المسألة باستفاضة أنهاها بأن الإيمان بما قاله "حقّ لازم" ومن خرج عن تعريفه فهو "أوّل الزنادقة"، وبهذا بدا وكأنه يمنح القارئ 3 خيارات غير مباشرة يحثّه عليها؛ أن يؤمن بما يقول، أو أن يكون زنديقاً رافضاً.. أو يريح نفسه من كل هذا الجدل ويبتعد عنه ويكون أعرابياً.
رصيف 22