إميل أمين:
يعرف القاموس لفظة شعبوية بأنها التركيز على هموم الناس العاديين، أولئك الذي يضحون "شعبويين" عند ممارستهم مهام حياتهم لاسيما في إطار العمل السياسي حول العالم. والثابت أن جوهر الشعبوية كما يذهب الكاتب الألماني "بان فيرنر مولر" يكمن عند البعض في الموقف المعارض للمؤسسة الحاكمة"، لكنه يرى أن التعريف على هذا النحو ناقص، إذ يجب، علاوة على معاداة النخبة، إضافة عنصر آخر هو المتمثل في معاداة التعدد. إن ما يمثل جوهر كل الشعبويين يكمن في التعبير عنه تقريباً كالآتي "نحن ونحن فقط من يمثل الشعب الحقيقي".
والحركات الشعبوية حول العالم اليوم، تعكس خلافات سياسية في الكفاح من أجل ما يطلقون عليه "الأفق الشعبوي" ذاك الذي يتمثل في فكرة "البلد الموعود"، و "محو الذنوب" عطفاً على عودة الشعب إلى نقائه الأصلي، والأمر هنا لا يتعلق بالحاضر فقط بل هو نتاج أفكار يوتوبية ماضية، لاسيما فكرة الكفاح الأبدي للخير ضد الشر، وحتمية الانتصار التاريخي للطهرانية وإن كلف ذلك المرء الكفر بالواقع، بل محاولة تعديله وتبديله بأدوات عنيفة.
هل الخوف من الآخر هو أحد أهم أسباب تنامي الشعبويات حول العالم، وهو الذي مهد لعدد من رموز من نصفهم باليمين الأوربي المتطرف الصعود إلى مراكز الحكم المتقدمة في ألمانيا وهولندا وعدد من الدول ذات مستوى الحياة المتميز "الاسكندنافية"، بل هو الذي دفع البريطانيين إلى مسار البريكست والابتعاد عن الاتحاد الأوربي؟
خذ إليك دولة مثل إيطاليا على سبيل المثال، تلك التي تعتبر الأقرب إلى العالم العربي، والشرق الأوسط، وربما كانت أقرب دولة وأكبر دولة تعرضت لموجات من الهجرة غير الشرعية، أو تلك التي تسببت فيها ارتدادات ما عرف زوراً بالربيع العربي. قبل فترة اعترف الصحافي الإيطالي "إرنيستو غالوديلا لوجيا"، الكاتب في صحيفة "كوريري ديلا سيرا" بقلق ينتابه: فهو ولد كإيطالي، لكنه لا يعرف هل سيموت كإيطالي، فالبلاد تتغير بسرعة، وذلك نحو ما هو سلبي، وهذا التحول يربطه "ديلا لوجيا بأشياء صغير، مثل عدم مشاركة فيلم إيطالي في مهرجان "كان" السينمائي عام 2017، لأول مرة على الإطلاق في تاريخ المهرجان، ويضاف إلى ذلك سلسلة من الظواهر الجدية، مثل اقتصاد راكد، ومداخيل ضعيفة وشوارع في وضع سيئ، ووسائل نقل عمومية متردية، وعدم كفاءة البيروقراطية، والقائمة طويلة .... هل هي إذن ساعة الشعبويين التي تدق في ذلك البلد المعروف بانفتاحه على الشعوب القريبة؟ غالب الأمر ذلك كذلك لاسيما أن أحوال الأحزاب السياسية التقليدية تتردى إلى أسوأ وضع، وعليه يبقى المواطنون مدفوعون بالاستياء والحقد، وأحياناً بالضغائن والأحقاد، وهؤلاء وأولئك يتلقفهم الشعبويون فريسة سهلة.
حتى نضع أيادينا على بعض أعماق الظاهرة الشعبوية القاتلة، لاسيما تلك التي تدعي التمثيل السياسي الأخلاقي أو الحصري، أي المعروف بـ "نحن من يمثل المئة في المئة"، لابد من طرح سؤال: "كيف نعرف الشعبوية بدقة؟ وأين تمر الحدود الفاصلة بين الشعبوية والظاهر السياسية الأخرى؟ يمضي علماء الاجتماع الألمان بنوع خاص إلى القول أن الشعبوية ليست مطلباً لطبقات واضحة المعالم، وليست قضية عاطفية، كما أن قيمة العروض السياسية لا تكفي لقياس ما إذا كان شيء ما شعبوياً. وعليه فإن البعض منهم يخلص إلى أن الشعبوية تصور سياسي محدد، يرى أن شعباً خالصاً ومنسجماً يقف دائماً ضد نخب غير أخلاقية، فاسدة وطفيلية، ويرى أن هذه النخب لا تنتمي البتة إلى الشعب. من أمثلة ضيق المسار الشعبوي ما جرى ويجري في دولة مثل فنلندا وكيف بات هناك سباق وسياق للتفريق بين "الشعب الحقيقي" و"الشعب العادي"، الأمر الذي نراه منعكساً وبقوة في أسماء الأحزاب، فالحزب الفنلندي ومعنى اسمه "الفنلنديون العاديون"، كان يريد أن يترجم إلى اللغات الأخرى بـ "فنلنديو القاعدة"، أو "الفنلنديون الحقيقيون"، والآن يريد الحزب أن يترجم اسمه فقط إلى "الفنلنديين".
وهنا تظهر لنا على السطح إشكالية أخرى، فالنخب وبخاصة في تصور الشعبويين اليمينيين، تدخل في تحالف مشؤوم مع الطبقات الفقيرة الطفيلية، والتي لا تنتمي إلى الشعب الحقيقي، ويمكن أن نلاحظ مثالاً على هذه الرؤية اليوم في شرق أوربا حيث يتم دعم الغجر، في الرؤية الشعبوية، من طرف نخب ما بعد الشيوعية المناصرة لأوروبا.
أحد الأسئلة المتقدمة التي باتت تقض مضاجع المفكرين التنويريين في أوربا اليوم هو إلى أي مدى تذهب خطورة الشعبويات على مسالك ودروب القارة التي أنارت في القرون الوسطى للعالم عبر مفكرين ومثقفين، فلاسفة وشعراء وأدباء وموسيقيين، رأوا في التنوع طريقاً للإبداع، وفي التعددية درباً للحضارة، وجعلوا شعارهم "الحرية، والمساواة، والإخاء"؟
يمكننا القطع بأن الأوربيين يقتربون رويداً رويداً من سياقات شعبوية مخيفة، تختصم ولا شك من الرصيد الديمقراطي والتنويري الحقيقي لأوربا القديمة، فالشعبويون اليوم لا يحدهم البصر، ليس فقط في اليونان، لكن في أوربا كلها التي حبست أنفاسها عام 2015 أمام التحالف الذي جمع يساريين ويمينيين شعبويين في هذا البلد. وفي إسبانيا يتقدم الشعبويون أيضاً، ويتداعى النظام الحزبي الذي حكم البلد منذ نهاية عصر فرانكو. أما في فرنسا وإن لم تفز "مارين لوبان" برئاسة الجمهورية الفرنسية في انتخابات 2017، إلا أن الجبهة الوطنية التي تمثل هذا الاتجاه الشعبوي، باتت جزءاً من النظام السياسي القائم.
أما عن ألمانيا فحدث ولا حرج عن صعود اليمين الشعبوي المخيف والذي يستدعي حديثاً مفصلاً قائماً بذاته، لاسيما بعد احتلال مئة عضو من الحركات اليمينية ضمن حزب البديل من أجل ألمانيا مقاعد في البوندستاج "البرلمان الألماني".
ولعل المرء يفهم أو يستوعب حدوث انكسارات بعينها في مسارات دول ما كان يعرف بـ "أوربا الغربية" في زمن الحرب الباردة، لكن ما هو غير مفهوم ويستدعي تساؤلات عميقة، يتصل ببعض دول أوربا الشرقية، فكيف لها بعد أن أفلتت من براثن التيار الحديدي والقمع السوفيتي أن تمضي في مسارات الشعبوية وتترك أفق الليبرالية والديمقراطية؟
انظر إلى فيكتور أوربان في المجر، وياروزلاف كاتشينسكي في بولندا، وروبرت فيكو في سلوفاكيا، ثلاثة من الشعبويين يقودون أوربا الوسطى، هذا في وقت كان ينظر فيه إلى دول وسط أوربا على أنها رائدة في ما يتعلق بانتقال ناجح من اشتراكية الدولة إلى الديمقراطية الليبرالية والسوق الحرة.
أما الآن فإن أوروبا خصوصاً الشرقية القديمة منها هي التي باتت بطريق مباشر أو غير مباشر تدافع وتنافح في وضوع عن رؤية غير ليبرالية وربما أيضاً غير ديمقراطية، للدولة، ولا عجب أن يحذر رئيس المجلس الأوروبي السابق "هرمان فان رومبو"، منذ العام 2010 من أن "أكبر خطر تواجهه أوربا هو التيار الشعبوي".