دينا الرافعي:
أعاد الإعلان الأخير للهزيمة الإقليمية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») في سوريا محور تركيز النقاش حول كيفية تحقيق سلام دائم قائم على مبادرات ناجحة في مجال مكافحة التطرف. ويطرح ذلك سؤالاً حاسماً: من الذي يمكن أن يُكلَّف بشكل شرعيٍ بمقاومة الميل الديني إلى الجهادية في المنطقة؟
في 2 نيسان/أبريل، التقى الشيخ أحمد الطيب، الإمام الأكبر لجامع الأزهر، مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في القاهرة، حيث كرر المسؤولان التزامهما بتحقيق سلام دائم حول العالم، ومكافحة التطرف، والحد من الخطابات التي تحضّ على الكراهية. ويأتي ذلك في أعقاب الزيارة التاريخية التي قام بها البابا فرانسيس في شباط/فبراير إلى الإمارات، حيث وقّع والطيب على إعلان وثيقة "الأخوة الإنسانية"، الأمر الذي يشير إلى أن المؤسسة الدينية المصرية المعروفة على نطاق واسع تَعتبر نفسها قوة معتدلة قادرة على الاضطلاع بدور قيادي في مواجهة التطرف بين المجتمعات الإسلامية في العالم. وأكّد الإعلان، من بين جملة أمور أخرى، على أهمية مكافحة التطرف على الصعيد العالمي، مع تشجيع التسامح بين الأديان باعتباره عنصر أساسي لتحقيق هذا الهدف.
وفي حين أن هذه التطورات جديرة بالترحيب، إلاّ أنّ الافتراض بأن الطريقة المثلى لمواجهة التطرف الديني هي من خلال نشر ثقافة التسامح وقبول "الآخر" غير المسلم و"إيقاظ الوعي الديني" - موضوعان أساسيان في الإعلان - لا يأخذ في الاعتبار مسألتين هامتين تخصّان المنطقة. أولاً، إنّ المؤسسات مثل الأزهر التي يُفترض أنها مكلفة بـ "إيقاظ الوعي الديني" هي نفسها تقع تحت ضغط مستمر لإدخال إصلاحات دينية. ثانياً، إنّ التطرف العنيف في المنطقة هو نتاج لعدم وجود أخوة داخل الديانة الواحدة بقدر ما هو نتاج التعصب العام تجاه غير المسلمين.
قيود المؤسسات الدينية الحالية
شكّلت مؤسسة الأزهر محور المناقشات المحتدمة في مصر بشأن قصورها في مواجهة التطرف. وأصبح «الإخوان المسلمون» والوهابيون يُهيمنون على المؤسسة بشكل متزايد، من بين أمور أخرى، مما عزز الكتلة المحافِظة الداخلية التي قاومت بشكل دوري محاولات الإصلاح.
كما تعرّضت المناهج الجامعية التابعة للمؤسسة لانتقادات مماثلة بسبب الحثّ على نشر تعاليم الشريعة المتشددة التي تديم، كبداية، وجهات النظر الاجتماعية التمييزية للغاية التي كانت سائدة في فترات ما قبل الحداثة الاجتماعية، والتي تصف غير المسلمين بالأشرار. وعلى الرغم من أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد مارس ضغوطاً كبيرة على مؤسسة الأزهر لمراجعة سردها، إلا أنه لا يزال يتعين على المؤسسة فعل المزيد لمحاربة الأصولية الدينية بفعالية. ففي عام 2017، على سبيل المثال، صوّتت هيئة كبار علماء الأزهر على رفض طلبات تغيير قوانين الطلاق الذكورية - أي الحق الذي يجيز للرجال وحدهم أن يطلّقوا زوجاتهم دون الحاجة إلى موافقة المحكمة أو الزوجات - بحجة أن القانون الحالي يعكس "الممارسات التي لا جدال فيها التي انتهجها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)."
إن عدم القدرة الظاهرة لمؤسسة الأزهر أو عدم رغبتها في لعب دور أكبر ينبع جزئياً من وضع الحديث الشريف الأقرب إلى القدسية. إذ تشكل تحليلات الحديث الشريف التي تضطلع بها المعسكرات الفقهية المختلفة أساساً لمجموعة كبيرة من الأحكام القانونية. فعادةً، تعتبر تفسيرات الحديث الشريف مطلباً حقيقياً لا يزعزع الولاء لمدرسة الفكر التي تقف وراء هذه التفسيرات. وهذا بدوره يقيّد القدرات الإبداعية للعلماء المسلمين للدفع بشكل كبير نحو الابتكار أو الإصلاح.
ونتيجة لذلك، يتم تجاهل الحقيقة غير المريحة المتمثلة في حاجة دراسات الحديث الشريف في جميع أنحاء العالم إلى إصلاحات هامة. وفي بعض الأحيان، تُفسّر إمكانية تطبيق الحديث على الشؤون الجارية بخلاف معناها الأصلي، كما حدث عندما حاول الموقعون على خطاب عام 2014 الموجه إلى زعيم تنظيم «الدولة الإسلامية» أبو بكر البغدادي، تشويه سمعة جهاد الجماعة بحجة أن الجماعة قد فشلت في سن مبادئ الجهاد الحقيقي، بدلاً من مناهضة تقاليد الشريعة التي تحرك العنف الذي تمارسه هذه الجماعات. ومن خلال الإخفاق في وضع حجة لاهوتية مضادة أكثر قوة لتبرير سبب عدم سريان هذه القواعد بعد ذلك، تستمر مؤسسات مثل الأزهر في التغاضي دينياً عن الخطابات والممارسات التمييزية تجاه المسلمين وغير المسلمين على حد سواء. فالخطابات والممارسات التمييزية تجاه المسلمين هي أكثر وضوحاً في الانقسام العقائدي السني - الشيعي الذي يعزز الكثير من الصراعات في الشرق الأوسط اليوم، والذي يشكل موضوعاً أساسياً في الدعاية الجهادية.
افتقاد الأخوة داخل الديانة الإسلامية
في الوقت الحالي، إنّ الدول نفسها ذات الغالبية السنية التي تسعى إلى الإصلاح الديني وتطبيع العلاقات بين الأديان (على سبيل المثال، المملكة العربية السعودية) لا تتصدى للتشويه المتأصل لصورة الطوائف الأقلية المسلمة التي تعتبرها المذاهب السنية السائدة مهرطقة - ومن أبرزها الإسلام الشيعي. إن هذا الغياب الملحوظ للمناقشة حول آثار الطائفية الإسلامية ومساهمتها في التطرف العنيف على كل من جانبي هذا الانقسام، من المحتمل أن يعكس جزئياً الاتجاهات الطائفية القوية داخل مدارس الفكر السنية السائدة.
وعلى صعيد آخر، واجهت المحاولات البناءة المتكررة لمعالجة المصادر الدينية المثيرة للمشاكل المرتبطة بالعنف والتطرف أقوى مقاومة من المؤسسات الدينية مثل الأزهر. وفي إحدى الحالات المثيرة للقلق، وصف القائم بأعمال رئيس جامعة الأزهر السابق، أحمد حسني طه، الإصلاحي المصري، إسلام بحيري، علانية بالمرتد لأنه اقترح إمكانية وجود خطأ بشري في الانتقال اللفظي للأحاديث عبر الأجيال السابقة من الإسلام. وكان الأمر الأكثر إثارة للصدمة هو رفض طه المتزامن الحكم بالحرمان على مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» بحجة أنهم نطقوا الشهادة، مما دفع المذيع التلفزيوني أن يسأل، "ألا ينطق بحيري الشهادة أيضاً؟" وفيما تم إقالة طه من منصبه وإعادة تكليفه داخل المنظمة، نادراً ما يتم تقبّل الآراء المخالفة ووجهات النظر المعارضة من خارج المؤسسة الدينية، وغالباً ما يتم مكافحتها بنشاط.
ولا يغيب ذلك عن الجهاديين العابرين للحدود الوطنية، حيث أنّ أعمالهم العنيفة غير المتناهية وتجاوزاتهم الدينية التكتيكية تنمو وسط هذه المجموعة الثابتة من التقاليد القانونية. فالمؤسسات الدينية تسعى للحفاظ على سيطرتها على هذه المخططات القديمة الخاصة بالدولة والمجتمع، حيث أن سلطتها المؤسسية وصلاحياتها مستمدة إلى حد كبير من استمرار احتكار تفسير أحكام الشريعة. وتترجَم هذه الديناميكية إلى استجابة غير فعالة للإسلاميين، الذين يسترشدون نظرتهم للعالم ببعض من مفاهيم الحكم نفسها السابقة للحداثة الموجودة في الشريعة. ولكنها تساعد أيضاً في تفسير الاتجاه العام المتمثل في التعاون الفكري غير المقصود بين رجال الدين المسلمين والإسلاميين السياسيين ضد أهل الفكر المسلمين الذين يختلفون معهم، ومع ذلك فهُم يقدمون أفكاراً ذات إمكانات كبيرة لتطوير خطابات فعالة مضادة للتطرف العنيف.
الاستنتاجات: نهج طويل الأمد للإصلاح الديني
تُعد المحاولات غير الكافية لمعالجة الانشقاقات الفقهية داخل الإسلام، وما ينتج عنها من تعصب تجاه النداءات الخارجية التي تدعو إلى التغيير، من بين العوامل الرئيسية التي تسهم في التطرف الديني في الدول العربية والبلدان ذات الأغلبية المسلمة اليوم. وعلى الرغم من العجز المستمر في تقدّم مجال حقوق الإنسان في معظم دول الشرق الأوسط - وهو في حد ذاته عامل أساسي يساهم في التطرف - فإن اتباع نهج ذي شقين يمكن أن يدفع مصر والدول المجاورة المهتمة بمكافحة الأصولية إلى مزيد من الفكر الديني المعتدل:
- دعم النداءات الناشئة التي تدعو إلى الاعتدال الديني داخل المجتمع المدني. يعتمد تعزيز التسامح فيما بين الأديان أو الدين الواحد على القيادة الدينية الرسمية بقدر ما يعتمد على قدرة الفرد على النظر بعين ناقدة في الدين. وعلى الرغم من الإحجام المستمر لمؤسسات مثل الأزهر عن الشروع في إصلاحات بناءة، فقد ساعد المجتمع المدني في سد هذه الفجوة، على سبيل المثال، من خلال طرح أعداد متزايدة من البرامج التلفزيونية المخصصة لانتقاد الدين بشكل مدروس وإبراز أهمية الإصلاح. ومن الأمثلة البارزة في مصر، البرامج التي قدّمها بحيري المذكور أعلاه - مثل الخريطة والبوصلة - وإبراهيم عيسى، أحد أبرز مضيفي البرامج التلفزيونية والصحفيين في مصر، في برنامج "مختلف عليه". والجدير بالذكر أن بعض هذه البرامج يتم إنتاجها في مصر، ويمكن القول إنها كانت نتيجة دعوات السيسي المتكررة من أجل تجديد الخطاب الديني سواء في الداخل أو الخارج. وهذا الاتجاه يستحق الحماية والتوسّع، فهو يشجع على اتباع نهج قائم على قاعدة شعبية يتمتع بمصداقية أكبر من الحملات التي تُفرَض بطريقة تنازلية.
- مواصلة الضغط الشعبي على المؤسسة الدينية لإدخال الإصلاحات. يزداد إقبال الشعب على تقديم ردٍّ رسميٍ أكثر عدوانية تجاه التطرف الديني. فعلى الساحة المصرية، شجّع الضغط المتزايد من أجل الإصلاح المسؤولين في الأزهر مؤخراً على اتخاذ موقف أكثر وضوحاً بشأن قضايا مثل تلك المتعلقة بحقوق المرأة. فعلى سبيل المثال، في حديث ألقاه الشيخ الطيب في عيد الأم في مصر، قدّم الباحث حجة قوية ضد تعدد الزوجات. أمّا على الصعيد المؤسسي، فقد اعتمدت الأزهر، بقيادة لجنة مستقلة من الخبراء المصريين والأجانب، تعديلات في المناهج الدراسية تهدف إلى تحقيق التوازن بين السرد الديني والمنظور الثقافي والتاريخي حول تراث البلاد. وفي حين أن علمنة المناهج الدراسية لا تحل على الفور القضايا اللاهوتية الأعمق التي أثيرت هنا، إلّا أنّ الطلاب في المؤسسة سيحظون على الأقل ببعض الحماية من المحتوى التعليمي الانقسامي إلى حين يتم إعادة النظر بشكل كليّ في العلوم الدينية.
دينا الرافعي أستاذة مساعدة في "كلية سانت فنسنت" في لاتروب، بولاية بنسلفانيا، وأستاذة مساعدة عائدة في "برنامج مركز جورج مارشال للدراسات الأمنية والإرهابية". جميع وجهات النظر المُعرب عنها في هذا المقال خاصة بالكاتبة.