محمد يسري
طقوس التعذيب، أخذت في الكثير من الأحيان، الشكل المشروع المقدّس، وذلك جرّاء ارتباطها بالمنظومة الدينيّة القائمة في دولةٍ ما أو مجتمعٍ بعينه، ومن هنا ظهر التساؤل حول حدود العنف المقدّس، وضوابطه ومحدّداته.
من صرامة نبوخذ نصر إلى عصر الشهداء: التعذيب في العالم القديم
حضارات الشرق الأدنى القديم، وخصوصاً تلك التي ظهرت في مصر وفينيقيا وبابل وأشور وبلاد فارس، مارس حكّامها صيغاً متعدّدةً من التعذيب البدني ضدّ أعدائهم، وعملوا على شَرْعَنَة ذلك العنف من خلال ربطه ببعض القيم المجتمعيّة أو الأيديولوجيّات السائدة.
على سبيل المثال يحدّثنا سِفْر الخروج في العهد القديم، ومجموعة من سور القرآن الكريم عن أنواع الاضطهادات البشعة التي مارسها فرعون مصر، بموجب كونه إلهاً أو شبه إله، ضدّ بني إسرائيل، وهي تلك الاضطهادات التي مثّلت الإرهاص المبكّر لخروج اليهود من مصر بعد ذلك، على يد النبي موسى.
أيضا ورد في سِفْر الملوك الثاني، الحديث عن وحشيّة نبوخذ نصر ملك بابل وتعذيبه لأعدائه من بني إسرائيل بعدما نجح في اجتياح مملكتهم، وإخضاع ملكهم صدقيا:
"فَأَخَذُوا الْمَلِكَ وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَلِكِ بَابِلَ إِلَى رَبْلَةَ وَكَلَّمُوهُ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَقَتَلُوا بَنِي صِدْقِيَّا أَمَامَ عَيْنَيْهِ، وَقَلَعُوا عَيْنَيْ صِدْقِيَّا وَقَيَّدُوهُ بِسِلْسِلَتَيْنِ مِنْ نُحَاسٍ، وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بَابِل".
تلك الممارسات البشعة كانت تتكرّر بشكلٍ اعتيادي في منطقة الشرق الأدنى، حيث تردّدت أصداؤها في كلّ مكان، خصوصاً وأن إظهار القوّة والبطش كانا السبيل الأكثر فاعليّةً وتأثيراً في إثبات هيمنة القوى الحاكمة، ومن هنا فلم يكن من الغريب أن تحدّثنا المصادر التاريخيّة عن الكثير من الفظائع التي مارسها الأشوريّون والفرس على وجه التحديد، والتي تنوّعت ما بين الإحراق بالنار، أو صب النحاس المصهور على رؤوس المعذَّبين، أو قطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وجدع الأنوف.
على الجهة المقابلة من شطآن البحر المتوسط، كانت الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة مختلفة في بلاد اليونان، حيث نجد حالات ممارسة التعذيب البدني كانت أقلّ بكثيرٍ من مثيلاتها المعروفة في بلدان الشرق الأدنى، ولكن المصادر ذكرت عدداً من حالات التعذيب، أشهرها ما يذكره براين إينز في كتابه "تاريخ التعذيب"، عندما فشلت الثورة على الطاغية نيارخوس، وتمّ القبض على الفيلسوف زينون إيليا، والذي كان مشاركاً في تلك الثورة، ووُضع تحت ضغط التعذيب الشديد، في محاولة للتحصّل على معلوماتٍ عن شركائه، ولكنه رفض ذلك، ولما اقترب من نيارخوس، قبض على أذنه وقطعها بأسنانه.
في التاريخ الروماني، تواتر ظهور ممارسات التعذيب، خصوصاً بعد التحوّل الكامل للنظام الإمبراطوري في الحكم، واستئثار الإمبراطور بالسلطة بشكل شبه مطلق، حيث توسّع الرومان في صلب أعدائهم، وكان الصليب في البداية عبارةً عن خازوقٍ يثبّت عليه المتهم حتى يموت من الجوع والعطش والإجهاد، ثم تطوّر شكله لتضاف إليه خشبة عرضيّة تثبّت عليها يدي الضحية، بواسطة الدقّ بالمسامير.
الكثير من أباطرة الرومان، اشتهروا بميلهم لتعذيب أعدائهم، من هؤلاء الإمبراطور تيبيريوس الذي عُرف بتعذيبه لضحاياه من خلال إجبارهم على شرب كمياتٍ كبيرةٍ من النبيذ، ثم ربطهم ببعضهم البعض بالحبال، بحيث يتمّ الضغط على مثاناتهم، فيتوجّعون ويشعرون بالألم، أما ابنه كاليغولا، فقد عذّب ضحاياه بنشرهم بالمناشير، وبتقديمهم للحيوانات المفترسة في ساحات مباريات الألعاب القتاليّة، أيضاً اشتهر الإمبراطور دقلديانوس بأساليبه وأدواته الغريبة التي استخدمها في سبيل تعذيب المسيحييّن في شتّى أنحاء دولته، للدرجة التي وصف معها عصره في الأدبيات المسيحيّة باسم عصر الشهداء.
الحدود: هل يمكن اعتبارها تجليّاً من تجلّيات التعذيب في الإسلام؟
تزامناً مع تأسيس الدولة الإسلاميّة الأولى في المدينة المنوّرة في العام الأوّل من الهجرة، ظهرت إلى الوجود منظومة العقوبات الشرعيّة في الإسلام، تلك التي اصطُلح على تسميتها باسم الحدود.
الكثير من تلك الحدود ارتبطت بفكرة التعذيب البدني والإيلام الجسدي، وظهر ذلك بشكلٍ واضحٍ في مجموعةٍ من الممارسات، من قبيل الجَلْدِ في حالتي الزنا وشرب الخمر، وقطع الأيدي في حالة السرقة، بالإضافة إلى الصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، بحقّ من تثبت عليه تهمة الحرابة.
بعض من تلك الحدود تشابه مع التشريعات الموسويّة التوراتيّة التي طبّقها اليهود، كما أن الكثير منها كان معروفاً وشائعاً بين قبائل العرب قبل الإسلام وذلك بحسب ما يذكر الدكتور جواد علي في كتابه "المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، فلما ظهرت الدعوة المحمديّة، صبغت تلك الأحكام بصبغتها الدينيّة الإسلاميّة، واستخدمتها في حياكة وتطعيم منظومتها العقابيّة، والتي تتسق مع أهداف وغايات الشريعة الإسلاميّة.
في الحقيقة، لا يمكن نفي صفة العذاب عن معظم الحدود الإسلاميّة، وذلك بدليل ما ورد في سورة النور، والتي تحدّثت عن حدّ الجَلْد للزاني والزانية، فجاء بها "وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين".
من المهم هنا أن نلاحظ أن الهدف الرئيس من تطبيق الحدود في المرحلة المبكّرة من الإسلام، كان يتمثّل في كونها نوعاً من المكفّرات عن الذنوب والمعاصي والآثام التي ارتكبها المذنبون، ومن هنا فقد كان هذا العذاب الجسدي سبيلاً للتطهّر والتوبة، وطريقاً لعودة المذنب مرّة أخرى إلى صفوف الجماعة المؤمنة، ويشهد على ذلك القصّة الشهيرة التي تذكر أن عمر بن الخطاب لما أصابه دم مسلمةٍ زانية أثناء رجمها، وتأفف من ذلك، فأن الرسول قد نهاه عن ذلك وأخبره بأن الله قد عفا عنها، وغفر لها ذنبها.
من هنا فإن الكثير من العلماء المسلمين قد ذهبوا إلى أن الهدف من إقامة الحدود هو صلاح الدنيا، فعلى سبيل المثال، يذكر ابن القيّم الجوزية في كتابه "الحدود والتعزيرات" أن الحدود قد "شُرّعت زواجر للنفوس ونكالاً وتطهيراً، فهي عقوبة مقدرة لحق الله تعالى، ثم لأجل مصلحة المجتمع؛ فالله تعالى أوجبها على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع البشريّة؛ فهي من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد؛ فلا تتمّ سياسة الملك إلا بزواجر عقوبات لأصحاب الجرائم، منها ينزجر العاصي ويطمئن المطيع وتتحقق العدالة في الأرض ويأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم...".
كيف رفضت المنظومة الفقهيّة الإسلاميّة التعذيب؟
التوجّه الإسلامي المبكّر، والذي ينظر للعذاب المصاحب للحدِّ على كونه مجرّد كفّارة للذنب، سرعان ما سيتغيّر عقب اتساع دولة المسلمين، وفرض سيطرتها التامة على العراق والشام ومصر وبلاد فارس، فسيصبح التعذيب الجسدي أداةً سلطويّةً مهمّة في أيدي الخلفاء والأمراء، بحيث استخدموه في البطش والتنكيل بأعدائهم، ومما يؤكّد على ذلك تعدّد أنواع التعذيب السياسي التي مارسها الخلفاء الأمويّون والعباسيّون بحقّ منافسيهم، والتي بدأت بالضرب بالعصي والسياط والخيزران، وانتهت بتمزيق الجسد ورشّه بالملح وتعريضه للشمس، مروراً بالوضع على الخازوق والصلب والحرق وقطع أعضاء الجسم.
ما يُحسب للمنظومة الفقهيّة الإسلاميّة، أنها قد رفضت الانصياع الكامل لمتطلّبات السلطة، فرفضت شَرْعَنَة الممارسات السياسيّة العنيفة التي تظهر فيها مختلف أشكال التعذيب، كما أنها فتحت باب التعزير على مصراعيه، لتُتيح للمجتمع أن يُحدّث منظومته القانونيّة العقابيّة بما يتناسب مع ظروف ومقتضيات كلّ عصر.
استند الفقهاء المسلمون إلى ما ورد في سورة الأنعام "لا تزر وازرة وزر أخرى"، ليذهبوا إلى ضرورة الفصل بين مقامي السلطة والسياسة من جهة، والأحكام الشرعيّة والدينيّة من جهةٍ أخرى، ورجعوا لقول الرسول "ادرؤوا الحدود بالشبهات"، وهو ما تابعه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، واتخذ منه عنواناً للسياسة العامة للدولة، حيث قال هو الآخر "لأن أعطّل الحدود بالشبهات أحب إليّ أن أقيمها بالشبهات".
من النصوص المؤسّسة لهذا الاتجاه الفقهي، ما ورد في صحيح البخاري من قول الرسول في حجّة الوداع "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، وَأَبْشَارَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ"، وما ورد في صحيح مسلم من نهي رَسُولُ اللهِ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْه.
أيضا رجع الفقهاء لما حُكي من أن الخليفة عمر بن الخطاب، لما مرّ أثناء عودته من بلاد الشام، على قومٍ من أهل الكتاب قد أُقيموا في الشمس، يُصبّ على رؤوسهم الزيت، فقال: ما بال هؤلاء؟ فقيل له عليهم الجزية لم يؤدّوها، فهم يعذّبون حتى يؤدّوها! فقال عمر: فما يقولون هم وما يتعذّرون به في الجزية؟ قالوا: يقولون لا نجد! قال: فدعوهم لا تكلّفوهم ما لا يطيقون، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
لا تعذبوا الناس، فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا، يعذبهم الله يوم القيامة، وأمر بهم فخلّى سبيلهم، وذلك بحسب ما يذكر محمد جمال الدين القاسمي في كتابه "محاسن التأويل".
من هنا فأن معظم المدوّنات الفقهيّة الكبرى قد حملت في طيّاتها ما يدلّ على رفض التعذيب، ومن ذلك ما ذكره القاضي أبو يوسف (تـ. 182هـ)، وهو واحد من أكابر أصحاب الإمام أبو حنيفة النعمان، في كتابه الخراج "ولا يُضرب أحد من أهل الذمّة في استيدائهم الجزية، ولا يقاموا في الشمس ولا غيرها، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره، ولكن يرفق بهم، ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم".
وقد أكّد القاضي والفيلسوف الأندلسي أبو الوليد ابن رشد (تـ. 595هـ)، على ذلك الرأي في كتابه "البيان والتحصيل" بقوله "لا يصلح أن يُعاقَب أحدٌ فيما يلزمه فيه العقوبة إلا بالجلد والسجن الذي جاء به القرآن، وأما تعذيب أحد بما سوى ذلك من العذاب فلا يحلّ ولا يجوز".
أما ابن فرحون اليعمري (تـ. 799هـ)، فقد أورد في كتابه "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام" أن الإمام مالك بن أنس قد سُئل عن مشروعية تعذيب اللصوص ودهن أجسادهم بالقطران، فرفض ذلك ولم يجزه، وقال "لَا يَحِلُّ هَذَا، إنَّمَا هُوَ السَّوْطُ أَوْ السِّجْنُ".
رصيف 22