الصحوة الإسلامية في سياقها التاريخي - Articles
Latest Articles

الصحوة الإسلامية في سياقها التاريخي

الصحوة الإسلامية في سياقها التاريخي

محمد المحمود:

 

كان الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ من أهم الرموز الأدبية/ الفكرية التي ناضلت في سبيل إشاعة روح التنوير على امتداد نصف قرن تقريبا. خطابه الروائي خطاب تنويري بامتياز. وبمقدار ما هو روائي تنويري منحاز إلى القيم الليبرالية في مجمل إنتاجه، كما في مجمل مواقفه، فهو في هذا وذاك من أشرس المحاربين لقوى الظلام (وتحديدا؛ لأولئك الذين يحاولون العودة بمجتمعاتهم قرونا إلى الوراء)؛ حتى وإن كانت "شراسته" كمحارب تتعمّد اختيار أجمل الطرق وألطف الوسائل، بعيدا عن المباشرة والصدام.

لكن، وبالرغم من كونه خصما عنيدا للخطاب المضاد للتنوير، أي للأصولية الإسلامية المتطرفة التي كانت النقيض الفعلي لكل ما هو تنويري في مجتمعه، إلا أنه يرى أن هذه الأصولية لن تبدأ بالتلاشي المنتهي بالهزيمة الشاملة؛ ما لم تُجرّب المجتمعات الإسلامية نموذجها المضمخ بالقداسة عن قرب، أي ما لم تصل هذه الأصوليات إلى الحكم، ومن ثَمَّ تفشل عمليا في تحقيق أبسط وعودها الطوباوية التي طالما ألهمت خيال الجماهير.

طبعا كانت الأغلبية الساحقة من مثقفي التنوير المُجَايلين له يختلفون معه في هذا الرأي، ويرون أن خطورة هذه الأصوليات تصل درجة السم القاتل، وبالتالي، لا يمكن أن نسمح بوضع المجتمعات في قبضتها ولو لساعة من نهار، خاصة وأننا إذ نملك خيار القبول بها ابتداء، فإننا لا نملك خيار رفضها بعد أن تكون قد امتلكت كل وسائط الإجبار والتأثير والإغراء التي تمتلكها الدولة المعاصرة. وهنا ـ وفق محاججة هؤلاء ـ ستكون الديمقراطية التي يتوسل بها الأصوليون إلى السلطة هي الحلقة الأخيرة، وسيكشف النمط السلطاني القروسطي عن وجهه الصريح.

لا يهم هنا تقييم رأي نجيب محفوظ من حيث هو حلٌّ ناجع أو غير ناجع لهذا الداء الأصولي الذي بدأ يستشري في مجتمعاتنا أواخر القرن العشرين. ما يهم هنا هو الإشارة التي يتضمنها الرأي المحفوظي، حيث جعل "الصحوة الإسلامية" ـ التي تجلّت في شتى الخطابات الدينية الأصولية ـ تعبيرا عن حالة ظرفية، أو انعكاسا لتفاعلات مرحلة يصعب القفز عليها بمجرد رفضها أو تجاهلها. فهي/ الصحوة تَشكّلٌ جَنيني في رحم هذه المجتمعات، وسيأخذ "دورة حياة" على نحو ما، ليضمحل فيما بعد ويتحلل إلى عناصر أوليّة تُسهم في تشكيل مولود جديد يستجيب لضرورات المرحلة اللاحقة المفتوحة بشكل مباشر على آفاق التنوير المأمول.

فؤاد زكريا، وهو مفكر مصري من معاصري محفوظ، شاركه هذا الرأي في علته الأولى، أو في تفسير أصل الحكاية الأصولية؛ لا في نتيجته التي تسمح للمجتمعات الإسلامية بتجريب الحالة الأصولية على مستوى الإدارة/ الحكم، بوصفها مُكوّنا فاعلا ومؤثرا ينتظر دوره في التجريب. فؤاد زكريا يحاول مَوْضَعَة الصحوة الإسلامية في سياقها التاريخي بوصفها ابنة ظرفها/ الظرف التاريخي الذي مَرّ به العالم الإسلامي؛ ولا يزال. يقول: "فواقع العالم الإسلامي، في معظم أرجائه، هو واقع جماهير أمية ينقصها الوعي السياسي والعقلانية، وهو أيضا واقع بطش واستبداد وكبت للحريات من جانب القوى المعادية للجماهير. في مثل هذا الواقع يبدو أن الإسلام هو القوة الهائلة التي هي وحدها القادرة على تحريك مثل هذه الجماهير وتعبئتها ودفعها إلى الوقوف أمام القوى الغاصبة ومقاومتها إلى حد الاستشهاد" (الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، فؤاد زكريا، ص16.(

نلاحظ هنا أن فؤاد زكريا إذ يُمَوضِع "اللحظة الصحويّة" في سياقها؛ لا يجعل من هذا التبرير توطئة لمنحها مشروعية محاصرة التنوير، فضلا عن مشروعية التحكّم في مفاصل القرارات المصيرية في السياسة والثقافة والاقتصاد. بل هو يأسى أشد الأسى أن يجد نفسه مضطرا لمناقشة مسائل/ قضايا يفترض أنها حسمت منذ قرنين أو أكثر. يقول متألما ومُدِينا كل ما أوصلنا إلى هذه الحال: "وإنه لأمر يدعو إلى الأسى العميق أن يجد المثقف العربي نفسه أواخر القرن العشرين مضطرا إلى أن يخوض معركة كاد المفكرون في أواخر القرن التاسع عشر أن يحسموها نهائيا لصالح العقل والتقدم.. فهل هناك دليل على انتصار خصوم العقل، وأعداء التبادل الفكري الخصب، أبلغ من نجاحهم في العودة بمستوى الجدل الثقافي قرنا من الزمان، بالنسبة إلى العرب أنفسهم وخمسة قرون على الأقل بالنسبة إلى المجتمعات المتقدمة؟" (الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، فؤاد زكريا، ص196.(

يظهر هنا من كلام فؤاد زكريا أنه ينتفض على المبررات التي ذكرها في المقطع الأول/ الاستشهاد الأول. هناك يرى أن ثمة ظروف تجعل المجتمع الإسلامي معذورا في اعتناق الأفكار الأصولية، بينما هو هنا يرى أن هذا لم يكن حتما، بل لم يكن طبيعيا، إذ الطبيعي ـ كما يؤكد ـ أننا تجاوزنا هذا الخيار الأصولي منذ قرنين، لكن ولأسباب تتعلق بخياراتنا الخاطئة ـ لا بحكم ضرورات السياق التاريخي ـ وجدنا أنفسنا ننساق وراء الخيار الأصولي بمحض إرادتنا، وكان بإمكاننا أن نرى الخطورة في هذا الخيار؛ لو أننا اعتمدنا الخيار العقلاني، لا الخيار العاطفي/ الوجداني.

ما بين التبرير في المشهد الأول، والأسى المتضمن لكثير من لوم الذات في المشهد الثاني، يتضح أنه لا تعارض بين أن تفهم هذه الحالة الأصولية/ الصحوية في سياقها التاريخي؛ بوصفها ابنة ظروفها/ العوامل المؤثرة فيها من خارجها، وأن تكشف ـ في الوقت نفسه ـ عن دورها الكارثي في تعطيب الحراك الاجتماعي نحو الانفتاح على آفاق الحداثة.

فرق بين أن تفهم الحالة الأصولية بتجرد، وأن تتفهمها وتمنحها شرعية الفعل على أوسع نطاق لمجرد كونها نتاج ظرف/ سياق ذاتي، فالعلل والأدواء جزء من مكوناتنا، جزء من حركة الواقع، ولا يعني فهم طبيعتها، ولا الإقرار بذاتيتها، تثمينها، ولا الاستسلام لها، بل يعني الأمر ـ في تسلسله المنطقي ـ التوسل بهذا الفهم إلى تدعيم فرضة العلاج، أي تدعيم الخطاب المضاد؛ ليكون أقدر على الفعل والتأثير، أي ليكون الدواء قادرا على محاصرة الداء؛ قدر المستطاع.

إن أخطر ما في هذا الموضوع هو الخضوع لتصور جبري يرى أن التفاعل بين مكونات الواقع يقتضي ـ وعلى نحو حتمي ـ هذه النتيجة/ انتصار الأصوليات، بل ويقتضي الاستسلام لها. بينما الصحيح أن هذا التفاعل وإن كان حقا أنه يصنع نتائجه، فإنه في الحقيقة تفاعل مفتوح على إرادتنا من حيث قدرتنا على الفعل كشركاء عمليين فيه/ في هذا التفاعل، ومن ثم كمساهمين أساسيين في صنع نتائجه، فلسنا مجرد أداة عمياء بيد القدر؛ حتى وإن كان القدر يحيط بخياراتنا، إذ نحن في النهاية نملك خياراتنا الذاتية الواعية في مصارعة تيار النهر بشتى الوسائل، حتى وإن كنا لا نملك التحكم في طبيعة جريان النهر، وفي كل الأحوال، فإن مَن يستسلم لتياره الجارف وأمواجه الهادرة؛ لا يملك إلا قدر الموت غرقا.

الحرة

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags