رانيا خالد
تجمعوا أمام الكنيسة الإنجيلية بالإسماعيلية محملين بحقائب لا يوجد فيها إلا فتات من أغراضهم. ووقف آخرون أمام مبنى بيت الشباب في المحافظة لا يحملون شيئاً سوى أبنائهم، وما يرتدونه من ملابس. ينتظرون إيواءهم في شقق وغرف بحثاً عن قسط من الراحة بعد أكثر من 20 ساعة من الخوف والترقب.
هذا هو المشهد الآن داخل محافظة الإسماعيلية، 80 كيلومتراً جنوب غرب القاهرة، بعد أن نزحت إليها قرابة 55 أسرة من أقباط محافظة شمال سيناء منذ أمس ويستمرون في التوافد الآن، وفق مصادر كنسية بالمحافظة.
"كفار وسط المؤمنين"
تهجير الأقباط من العريش، شمال سيناء، بدأ بعد حوادث قتل سبعة أقباط في المدينة على يد مسلحين مجهولين على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية. وكانت الواقعة الأخيرة يوم الخميس الماضي، عندما قُتل قبطي داخل منزله في مدينة العريش أمام أسرته التي فرت من المنزل قبل أن يحرقه المهاجمون.
"إحنا عايشين زي الكفار وسط المؤمنين". هكذا وصف مايكل، أحد الأقباط المهجرين من شمال سيناء وضعهم داخل المحافظة الآن وأضاف: "بعد حادثة القتل الأخيرة حذّرني عدد كبير من أفراد أسرتي وأصدقائي وحتى العاملين بمؤسسات الدولة من أفراد جيش وشرطة، من الوضع الحالي ونصحوني بضرورة ترك المدينة الآن لخطورة الموقف".
يقول مايكل (اسم مستعار بناء على طلبه): "أعيش في العريش منذ أكثر من 17 عاماً. لم أشعر باستهداف، أو خطورة إلا عام 2012 وقت وجود الرئيس المعزول محمد مرسي في الحكم. من وقتها انتشرت حوادث قتل الأقباط وحرق كنائسهم وتهديدهم".
يستطرد مايكل الذي يعمل في نشاط تجاري صغير حديثه قائلاً: "عملي يحتم علي التعامل مع جميع الفئات داخل المدينة ولكن توجد حالة رصد للأقباط، ومراقبة لأنشطتهم وطريقة تعاملهم مع أفراد الجيش والشرطة، ومَن يجده عناصر تنظيم داعش يتعامل مع أفراد الجيش والشرطة جيداً يقومون باستهدافه وقتله".
ويوضح مايكل الذي وصل إلى الإسماعيلية مساء الجمعة 24 فبراير، أن كل أفراد أسرته نزحوا من المدينة، وحتى مَن لم يتركها فهو قادم الآن، تاركين عملهم التجاري ومنازلهم وكل شيء يملكونه، خوفاً على حياتهم.
ويضيف مايكل أن الكنيسة الإنجيلية والمحافظة تحاولان توفير سبل الإعاشة لهم قدر الإمكان لكن الأمر أصعب من الإمكانات الموجودة بسبب زيادة عدد الأقباط عن الشقق والغرف المتواجدة، مؤكداً أنهم في حاجة للمزيد من مواد الإعاشة والطعام والشراب والبطانيات.
عن حادثة القتل الأخيرة يقول مايكل: "تركت العمل لمدة عشر دقائق وذهبت إلى منزلي فسمعت صوت إطلاق النار. لم أغادر المنزل حتى أمن لي أحد الأصدقاء طريقة للخروج والسفر إلى الإسماعيلية، مضيفاً أن التهجير بدأ منذ شهر تقريباً مع أول واقعة قتل للأقباط نهاية الشهر الماضي، فتركت أسر كثيرة منازلها وأتت إلى الإسماعيلية خوفاً من الوضع. بين هؤلاء زوجته وأبناؤه.
تهجير الأقباط
وفقاً لأرقام المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، توجد 8 حالات قتل لأقباط بشمال سيناء بدأت منذ 30 يناير حتى الآن.
وأصدرت الكنيستان الإنجيلية والأرثوذكسية بياناً أدانتا فيه الأحداث الأخيرة بمحافظة شمال سيناء، بقتل سبعة أقباط داخل المدينة منهم اثنين حرقاً.
ونشر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، يوم الأحد الماضي، تسجيلاً مصوراً مدته 20 دقيقة هدد فيه المواطنين الأقباط بشن مزيد من الهجمات. وعرض التسجيل ما أسماه الرسالة الأخيرة لانتحاري زعموا أنه منفذ عملية تفجير الكنيسة البطرسية التي راح ضحيتها 29 شخصاً في ديسمبر الماضي. ودعا ما يُعرف بـ"تنظيم الدولة الإسلامية مصر" الأسبوع الماضي عناصره إلى قتل من أسماهم بـ"الصليبين في مصر".
وشهدت عدة محافظات مصرية حوادث قتل لأقباط في الفترة القريبة الماضية منها قتل مواطن قبطي صاحب محل خمور بالإسكندرية قتل ذبحاً أمام نجله. وأكدت مصادر أمنية وقتها أن السبب شخصي وليس طائفياً، كما قتل مواطن قبطي وزوجته ذبحاً بمحافظة المنوفية، ولم تفسر الأجهزة الأمنية السبب حتى الآن.
مينا ثابت، الباحث بملف الحريات والأديان بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات، قال لرصيف22 إنه من الصعب فصل حوادث مقتل الأقباط الأخيرة في محافظات الإسكندرية والمنوفية عن ما حدث في العريش موضحاً أنه يوجد مخطط من قبل أفراد التنظيمات التكفيرية والمتطرفة، لتغيير الطبيعة السكانية لأقباط مصر بنقلهم من أماكن سكنهم وانتزاع المكون المسيحي من بعض المناطق، وهذا ما كان يحدث قبل ذلك في صعيد مصر من افتعال أزمات ومشاكل تنتهي بجلسات عرفية، تؤدي إلى تهجير الأقباط من منازلهم.
وأضاف ثابت: "لديهم جميعاً نفس القيمة المشتركة التي يتبعونها بدرجات مختلفة، وهي أنهم يهجرون الأقباط بمباركة الدولة التي تبحث عن حلول سهلة في نقل أصحاب المشكلة وتهجيرهم بدلاً من حل المشكلة نفسها، وهو نفس ما يحدث في سيناء الآن".
وأكد ثابت أن ما حدث مؤخراً في العريش ليس الأول من نوعه ولكن المختلف فقط أن الانتهاكات هذه المرة كان بها استهداف مباشر وصريح للأقباط داخل منازلهم ومقار عملهم، ورغم أن حوادث القتل بدأت من فترة تزيد عن 20 يوماً، لكن التهجير لا يزال محدوداً لأن أغلب الأسر ليس لديها بديل مناسب.
سمير، قبطي نزح هو وأسرته أيضاً من شمال سيناء بعد مقتل أحد أقاربه. يقول بنبرة فيها خوف وغضب شديد: "الوضع في سيناء بشع وإحنا بنموت عيني عينك، يتم توزيع أوراق عليها أسماؤنا تدعو إلى استهدافنا وقتلنا".
ويضيف سمير (اسم مستعار بناء على طلبه): "حالة الإرهاب وقتل الأقباط في سيناء موجودة منذ فترة طويلة ولكن الجديد الآن هو فقط زيادة عدد التكفيريين وزيادة عدد الموتى".
يعلق فادي صبحي، منسق الكنيسة الإنجيلية بالإسماعيلية، على الوضع الآن هناك قائلاً لرصيف22: "توجد 50 أسرة حتى الآن نزحت من شمال سيناء إلى الإسماعيلية، ونحن في انتظار الآخرين ونقوم بتوفير سكن وإعاشة لهم ودعم نفسي من خلال فرق إغاثة من الكنيسة"، ويضيف "أغلبهم مصاب بصدمات نفسية وفي حالة خوف شديد بسبب قتل أفراد من عائلاتهم أمام أعينهم".
سياق قديم
يقطن في شمال سيناء نحو 400 أسرة قبطية وفقاً لمصادر غير رسمية، ولا يوجد رصد حقيقي لحوادث قتل واستهداف أقباط قبل عام 2012 وتولي الرئيس المعزول محمد مرسي الحكم.
ويقول اسحق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية لرصيف22 إن "حالة التهجير الأولى كانت من رفح بعد استهداف واعتداءات لعدد من الأقباط شملت اثنين من الكهنة، وكانت حوادث القتل على فترات متباعدة".
ويرى اسحق أن استهداف الأقباط يعود إلى أنهم الطرف الأسهل فأغلبهم يعملون في وظائف حكومية أو في التجارة، وليسوا من البدو وليس لديهم عائلات وقبائل تحميهم.
ويشير إلى أن مسؤولية الدولة حماية مواطنيها، وبالتالي فهي مسؤولة عما يحدث للأقباط، ولا بد من توفير حماية لهم من الإرهابيين.
ووفقاً لمصادر غير رسمية، من أبرز محطات استهداف الأقباط في شمال سيناء في السنين الماضية التهجير القسري الذي تعرضت له عشرات الأسر القبطية في سبتمبر 2012، إثر هجوم ملثمين على محال وبيوت مملوكة لأقباط، وتوزيع منشور تحذيري يمهل أقباط رفح 48 ساعة للرحيل عنها.
وتلا ذلك استهداف رجال دين ومواطنين أقباط في حوادث متفرقة، أبرزها اغتيال القس مينا عبود في يوليو 2013 برصاص ملثمين، وبعده القس رافائيل موسى في يونيو 2016، وأعلنت "ولاية سيناء" مسؤوليتها عن مقتل الأخير.
كما تعرض مواطنون أقباط للاستهداف على فترات متقطعة خلال السنين الماضية، منهم تاجر الأدوات الكهربائية مجدي لمعي، الذي وُجد مذبوحاً في الشيخ زويد في نوفمبر 2013.