محمد شعبان:
عام 979، دفع البطريرك أبرام السرياني حياته ثمناً لوقوفه ضد تسرّي الأقباط، باعتبار أن ذلك يخالف الشريعة المسيحية، فقد قُتل مسموماً على يد أحد الوجهاء الأقباط المتسريين.
والتسري يعني أن يتخذ السيد أمته (جاريته) للجماع ولا يجامعها غيره، وهو ما تعتبره المسيحية "زنا"، لأنها لا تعترف بتعدد الزوجات، وأمرت بأن يكون للمسيحي زوجة واحدة، حسبما ذكر أستاذ التاريخ القبطي ماجد عزت إسرائيل لرصيف22.
ويروي القس منسّى يوحنا في كتابه "تاريخ الكنيسة القبطية"، أن أبرام تولى الكرسي البابوي عام 975، في عهد خلافة المعز لدين الله الفاطمي، فحارب عادة التسري التي كانت منتشرة بين الأقباط انتشاراً هائلاً لا سيما بين الموظفين منهم في المصالح الحكومية، والذين كانوا يتمتعون بالرفاهية في ظل الدولة الفاطمية، فتقلدوا المناصب الرفيعة وامتلكوا كلمة نافذة في الدواوين، وكثر تهافتهم على السراري.
وبحسب يوحنا، "كان الواحد منهم يجلب إلى بيته عدداً منهن بدون عقد شرعي مما ينافي روح الدين المسيحي، ولم يجدوا مَن يعارضهم أو ينكر هذه العادة لاهتمام البطاركة بجمع الغرامات المفروضة عليهم".
ولما جلس أبرام على كرسي البطريركية أنكر عليهم ذلك، وطلب منهم أن يقلعوا عن هذه الممارسة، لكنه "لم يلقَ منهم سوى المقاومة وعدم الرضوخ، بعدما تأصلت هذه العادة فيهم واعتادوا عليها وألفوها، ومضى على اتباعهم إياها زمن طويل، فلم يسهل عليهم التنازل عنها مرة واحدة".
وكان أشد المقاومين لمساعيه رجل مشهور بالغنى ونفوذ الكلمة يدعى أبا السرور، وكان من الحاصلين على المناصب العالية في الحكومة، وكان لديه عدة سراري وحظيات. اعترض البطريرك على سلوكياته وعنّفه لفظياً كثيراً، ولما لم يرتدع أصدر بحقه حرماناً كنسياً، فما كان منه إلا أن دس له السم وقتله، وكان قد مضى على تسلمه منصبه أقل من أربع سنوات، حسبما ذكر يوحنا.
من الأمويين حتى محمد علي
تذكر كريمة كمال في كتابها "طلاق الأقباط" أن ظاهرة تعدد الزوجات والتسري بالسراري أو الجواري تفشت في عهد عبد الملك بن مروان (685 - 705)، ولم يقتصر الأمر على المسلمين وإنما امتد أيضاً إلى الأقباط المسيحيين، إذ لم يمضِ وقت كبير على اختلاطهم بالمسلمين حتى راحوا يمارسون هذه العادة.
وبحسب المفكر القبطي كمال زاخر، فإن مصطلح "تعدد الزوجات" الذي ورد في كتب التاريخ لم يُقصد بها زواج المسيحي بأكثر من زوجة في وقت واحد، ولكن كا قُصد به التسري واقتناء الجواري بغرض المتعة، وهذا ما ترفضه الشريعة المسيحية.
وذكر زاخر لرصيف22 أنه ربما يكون الأقباط قد أخذوا نظام التسري عن المسلمين بعد فتحهم لمصر، ولكنه يشير إلى أن الظاهرة برزت بشكل أوضح في العصرين المملوكي والعثماني، وتحديداً من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر.
بيد أن تسري الأقباط كان قاصراً على الأغنياء منهم فقط، باعتبار أن مَن يملك المال هو فقط مَن يستطيع اقتناء الجواري، وقد واجهته الكنيسة على مدار تاريخها واعتبرته من الخطايا، بحسب زاخر.
وفي عهد محمد علي باشا، لاحظ المستشرق الإنكليزي إدوارد لين في كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم" أن الأقباط عرفوا تعدد الزوجات، وكان ذلك دافعاً للبطريرك بطرس الجاولي (1809 – 1852) ليندد بشدة بهذا الأمر، ويحذّر رعيته من الخروج عن الشريعة المسيحية.
كيرلس الثالث... منع رسامة أبناء السراري
اختلفت طريقة مواجهة الكنيسة لتسري أتباعها بين فترة وأخرى، ففي عهد الدولة الأيوبية، في فترة البطريرك كيرلس الثالث المعروف بـ"ابن لقلق"، والذي تولى الكرسي البابوي سنة 1235 في عهد الملك الكامل ناصر الدين محمد بن أيوب، اجتمع عدد من الأساقفة واتخذوا عدة قرارات إصلاحية وقام البطريرك كيرلس بالتوقيع عليها.
وكان من بين هذه القرارات الامتناع عن سيامة (تقلد مناصب كنسية) أبناء "الثواني" أي السراري، الذين يتقدمون إلى رتبة الكهنوت، حسبما روى كامل صالح نخلة في الجزء الرابع من "سلسلة تاريخ البابوات. بطاركة الكرسي الإسكندري. الحلقة الأولى. البابا كيرلس الثالث".
مرقس الخامس... العزل ثمناً لمعارضة التسري
غير أن البطريرك مرقس الخامس الذي تولى كرسي البطريركية في العصر العثماني، وتحديداً سنة 1602، كان على وشك أن يدفع منصبه الديني ثمناً لمعارضته تسري الأقباط.
ويروى كامل صالح أن أعيان نصارى الريدانية (إحدى قرى الدقهلية بدلتا مصر) طلبوا منه أن يأذن لهم بتعدد الزوجات فوبخهم على هذه الجسارة، فتحزبوا ضده وشكوه للوالي جعفر باشا، في عهد السلطان محمد بن مراد، طالبين عزله، فقبض عليه الوالي وحبسه في برج الإسكندرية وأذن لهم برسامة شخص آخر، فأغروا راهباً وكرسوه بطريركاً فأذن لهم بالطلاق وتعدد الزوجات.
لكن لم تمضِ مدة حتى ثار مسيحيو القاهرة والصعيد ورفضوا البطريرك الجديد وأهانوه، بل وقطعوا ذيل حماره (إشارة إلى الإمعان في الإهانة)، وتوجه وفد من وجهاء الأقباط في القاهرة إلى الوالي، والتمسوا عفوه عن البطريرك مرقس بداعي أن الذي طلبه أهل الريدانية كان لغرض في النفس ومخالف للإنجيل، فعفا الوالي عنه وأعاده إلى كرسيه.
ورغم ذلك، ظل أهل الحزب الأول مصرين على عنادهم، متمسكين ببطريركية الراهب إلى أن ضعف نفوذه وتفرق أنصاره عنه مع الزمن.
يوحنا الخامس عشر... نفس المصير لنفس السبب
لم يكن أبرام البطريرك الوحيد الذي مات مسموماً بسبب معارضته تسري الأقباط. فبعد 644 عاماً من وفاته، لقي البطريرك يوحنا الخامس عشر الذي تولى الكرسي البابوي عام 1613، في عهد سلطنة عثمان بن محمد، نفس المصير ولنفس السبب أيضاً.
التسرّي هو أن يتخذ السيد جاريته للجماع ولا يجامعها غيره، وهو ما تعتبره المسيحية "زنا"... عن ظاهرة التسرّي أو "تعدد الزوجات" في تاريخ أقباط مصر
انتشرت ظاهرة التسرّي بالسراري أو الجواري في عهد الأمويين في مصر، ولم يقتصر الأمر على المسلمين وإنما امتد أيضاً إلى الأقباط المسيحيين
ويروي منسى يوحنا في كتابه أنه بينما كان البطريرك يوحنا يطوف بين رعيته في أبنوب في صعيد مصر وجد وجيهاً عنده محظية، فنصحه وأرشده وأكد له أنه إذا لم يرجع عن ذلك فسوف يحرمه، فاغتاظ الرجل ودس له السم في الطعام، فلما شعر البطريرك بدنو أجله استقل مركباً للعودة إلى القاهرة فعاجلته المنية وهو في النيل، سنة 1623.
محاربة التسري في كنيسة الحبشة
لم تكتفِ الكنيسة المصرية بمجابهة التسري لدى أتباعها في مصر فقط، وإنما أيضاً خارجها وتحديداً في الحبشة عندما كانت الكنيسة الحبشية تابعة لها.
فقد أرسل البطريرك كيرلس الثاني الذي تولى الكرسي البابوي سنة 1078 في عهد الخليفة المستنصر بالله المطران ساويرس ليكون أسقفاً على الكنيسة الحبشية، فشرع في إصلاحها ومقاومة بعض العادات الشائعة هناك.
وبحسب يوحنا، كان أمراء الحبشة يأخذون جملة من الجاريات فوق الزوجة الشرعية، فأراد المطران أن يستأصل أصل هذه العادة، ولكن مساعيه لم تأتِ بفائدة تُذكر، لأنهم كانوا يدّعون "أنهم باقون على شريعة موسى في أمر تعدد الزوجات، واعتقدوا أن ذلك ليس محرماً إلا على القسوس والشمامسة فقط".
غض النظر وعدم المعارضة
وُجد من بين البطاركة مَن غض نظره ولم يعارض المسيحيين في تلك العادة، مثل البطريرك فيلوثاؤس الذي تولى الكرسي البطريركي سنة 979 خلفاً للبطريرك أبرام الذي مات مسموماً بسبب معارضته لتسري الأقباط، إذ آثر الدعة والسلامة.
وبحسب يوحنا، لم يعارض هذا البطريرك عادة التسري التي كان يستقبحها سلفه إلا أنه كان مبغوضاً، "فلم يكن يهتم بغير صالح شخصه، وأرخى العنان للملاذ الجسدية ومحبة الأكل والشرب وتدخير (ادخار) المال ولذلك لم يكن أحد يرتقي إلى درجة الأسقفية في عهده إلا بعد دفع جعل (مبلغ مالي) عظيم".