محمد المحمود:
تُواجه جمهورية الأصوليين/ إيران الثورة اليوم أصعب أزمة مرّت عليها في تاريخها؛ على الأقل منذ نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية قبل ثلاثين عاما. إنها أزمة حقيقية، بل وخطيرة، لا في ذاتها، وإنما في كونها نتاج تراكمات من التأزمات التي تقف الأزمة الحالية على قمة هرمها. وفي تقديري أن دولة رجال الدين، الدولة الثيوقراطية الوحيدة في هذا العالم، تقف اليوم في هذه الأزمة على مفترق طرق، وستكون خياراتها في هذا الموقف خيارات مصيرية، إذ سيتشكل على وقعها نوع ومستوى الحضور الإيراني في مستقبل الأيام.
منذ قيام الثورة الخمينية/ الثورة الإسلامية في إيران، وإيران الدولة تتشرنق في مشاكل وأزمات متواصلة، أشرفت بها على هاوية الانهيار، أو الاضطرار للتحول الجذري في الهوية والسياسيات، وهو التحول الذي ترى فيه الدولة الإيرانية المتأسلمة إلغاء لوجودها من الأساس. لكن، بكثير من التضحيات التي تسترخص الإنسان في وجوده المتفرد الحر، وبمكر صبور ومراوغ، استطاعت الصمود كدولة، أي بمقومات دولة، بل وكقوة إقليمية نافذة، تمددت مطامعها بما يسبق انتصاراتها على أرض الواقع، حتى تراجع الواقع لصالح الأحلام!
عموما، كل تلك الانتصارات، أو ما تظنه هي انتصارات (بينما هي مكاسب غَزَواتيّة احتلالية متراكمة في فضاءات تشكو من فراغ تطاول عليه الأمد)، لن تغير من مصير الأزمة الراهنة شيئا ذا بال. ما يعني في النهاية أنها مجرد انتصارات هشة سرعان ما تتلاشى وتضمحل؛ لو أنها تعرضت لاختبار حقيقي، أي لاختبار القوة الخشنة على محك الاصطدام بالقوة الأولى في العالم/ أميركا التي تحاول "الثورة الإيرانية" أن تظهر بمظهر المستهين بها، المقاوم لنفوذها؛ على الأقل في النطاق الإقليمي، بينما هي/ "الدولة الإيرانية" تتوسل أنصاف الحلول للإبقاء على بعض المكتسبات القابلة للتلاشي عند أول اختبار.
عندما نُفرّق ونقول: "إيران الثورة" و "إيران الدولة" فليس تبادلا بين مترادفات، وإنما لأن ثمة تمايزا بين هذه وتلك في مسيرة الحراك السياسي الإيراني منذ 1979. هذا ما لاحظه كثير من الباحثين واعتمدوه في مقاربة الحالة الإيرانية، أو الإشكالية الإيرانية يما يحلو لبعضهم أن يقول.
لـ"إيران الثورة" خطابها وسياساتها؛ كما أن لـ"إيران الدولة" خطابها وسياساتها. طبعا، تتداخل السياستان كثيرا، وهو المتوقع، ولكنهما قد يتعارضان إلى درجة التضاد؛ ما يعني أن ما تفعله هذه تنقضه تلك، والعكس صحيح. وبديهي أن دهاقنة السياسة الإيرانية لا يجهلون ذلك، بل ولا يتجاهلونه، ولكنهم يمارسونه ـ عن عمد وبوضوح ـ لسببين أو لدافعين يشتغلان على مستوى التصور العقلي؛ كما يشتغلان على مستوى الحراك العملي:
الأول: تجاوبا مع ضغط القناعات الأيديولوجية الكبرى (التي لم تصنع مسار القناعات العقلية فحسب، بل وصنعت التحيز الوجداني اللاعقلاني أيضا)، خاصة وأن هذه القناعات هي أسست الدولة الإيرانية ومنحتها هويتها الخاصة التي تتشرعن بها أمام مواطنيها، وأمام المتعاطفين معها.
الثاني: تجاوبا مع الضرورات التي تفرضها إدارة دولة حديثة مسؤولة عن مواطنيها في تدبير مسائل/ مسؤوليات حياتهم اليومية، تلك المسؤوليات التي أصبح المنجز في مضمارها يصنع مشروعية لها لا تقل عن مشروعية التوافق الأيديولوجي، بل هي المشروعية الحقيقية التي أصبحت الرهان الحاسم الذي يحكم العقد الاجتماعي ـ الصريح أو المضمر ـ بين الدولة الحديثة ومواطنيها في كل مكان.
هذه المراوغة أو المراوحة بين "منطق الدولة" و "منطق الثورة" حيّر كثيرا من المتعاملين مع السياسة الإيرانية، خاصة في الملفات الشائكة التي يفترض التعامل فيها/ معها مستوى معقول من الثقة بين الطرفين. والساسة الإيرانيون لا يجهلون هذا الاشتراط المتعلق بالثقة المبنية على الوضوح في الممارسات والأهداف، ولكنهم يتخففون منه أو يُهوّنون من أهميته؛ عامدين إلى توظيف المنطقين المتمايزين تبعا لمقتضيات الممارسة التكتيكية المراوغة ـ فيما يتصورنه ـ من باب الدهاء السياسي.
عندما يقول الأب الروحي والمؤسس الأول للدولة الإيرانية الحديثة، الدولة المتأسلمة/ الخميني: "الولايات المتحدة هي طليعة أعداء الإسلام، والصهيونية العالمية هي حليفتها التي لا تتورع عن أي شيء أو جريمة لتحقيق أطماعها" (الغرب المتخيل، نسيب الحسيني، ص192)؛ في تفكير ضدي صارخ، فهو يصنع ـ بمنطق غير سياسي ـ أيديولوجية الثورة، أو ثورة الأيديولوجية الغاضبة الحانقة على الغرب، وأميركا على وجه التحديد، ومع أن الغرب، وأميركا على وجه التحديد، هما العالم اليوم، هما "العصر الحديث" الذي يسعى الجميع ـ واعين أو غير واعين ـ للتموضع فيه وَعِيا وحِراكا، لصناعة الوجود من خلاله. أميركا والغرب ليس قوة العالم فقط، بل وضميره الكوني، مَن عاداهما فقد اختار طريق التدهور والانحطاط والانسحاق الحضاري، لا على المستوى المادي/ التنموي فسحب، وإنما حتى على المستوى الإنساني/ التأنسن أيضا. هذا مصير مَنْ عاداهما على مستوى الانحراف السياسي والثقافي عنهما، وأما من حاربهما حربا ساخنة أو بارة، فقد حكم على نفسه بالدمار الشامل والعاجل؛ بحيث لا يبقى منه بعد ذلك إلا قَاعا صَفْصَفا تذروه الرياح. يقابل ما أسميته هنا: أيديولوجية الثورة، أو ثورة الأيديولوجية الغاضبة الحانقة على الغرب التي تمثل وجها بارزا/ معلنا من أوجه السياسة الإيرانية، براغماتية الدولة التي نجدها حاضرة على الدوام في السياسية الإيرانية، بل حاضرة بصورة ملفتة، إلى درجة جعلت كثيرا من المحللين يعتقدون أن "إيران الثورة" مجرد وهم، وأن إيران الحقيقة، إيران الواقع التي على الجميع أن يتعامل معها على أساسه، هي إيران الدولة، المتجردة ـ في عمقها ـ من أية التزامات أيديولوجية، وأن كل تلك الأيديولوجية الصاخبة مجرد خداع جماهيري لا علاقة لها بما يجري على الأرض الصلبة للواقع السياسي.
هذا الانقسام أو التمايز بين سياستين متضادتين عمليا (إن التقتا في هذه المحور أو ذاك، فإنهما سيتعارضان في كثير من المحاور الأخرى)، هو ما يحكم ثنائية الصمود والانهيار التي نحاول استشرافها هنا. ما يحفظ إيران ويمكنها من الصمود هو منطق الدولة، الذي هو منطق براغماتي بالضرورة، بينما تقف أيديولوجية الثورة بإيران على حافة الانهيار، حتى وإن بدت تلك الأيديولوجية وكأنها هي صانعة التمدد الإيراني الذي يعده عشاق الأيديولوجيات الأممية دلالة انتصار، وبالتالي ـ وبضرورة يرونها منطقية ـ دلالة ازدهار يبعد عنها شبح الانهيار الذي يتنبأ به أولئك يقرؤونها فقط من خلال منطقها الثوري.
اليوم، وفي أزمة إيران الراهنة مع جيرانها ومع الغرب/ أميركا، تظهر هذه الثنائية بجلاء. تتقدم إيران خطوة للسلام، للاندماج التوافقي مع هذا العالم في أفقه الحر/ المتحضر؛ عندما تستحضر منطق الدولة، بينما ـ في المقابل، وفي الآن ذاته! ـ تتقدم بضع خطوات إلى المواجهة العنادية الضدية، بل وإلى الحرب، إلى المواجهة المدمرة؛ عندما تستحضر منطق الثورة الذي تريد تأكيده لتضمن مراكمة أكبر قدر من المشروعية، أو حتى لتمنع المشروعية الأولى من التآكل بفعل فتور الحماس الثوري.
لكن، هذا المسلك السياسي المراوغ إن خدمها في بداية التكوين، أي في زمن الصراع الداخلي على السلطة مع بقية الأطياف غير المتأسلمة قبل أربعين عاما، فإن الإصرار الأعمى عليه (خاصة في زمن تتشابك فيه الضرورات السياسية للدول؛ كما تتشابك فيه الضرورات الحياتية للجماهير/ مواطني هذا العالم(، سيتسبب لها بكارثة مدمرة، كارثة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها، لا المآلات المباشرة، ولا غير المباشرة؛ لا في الداخل الإيراني، ولا في خارجه، إلا أنها ـ على أي حال ـ ستكون كارثة واسعة النطاق؛ بما يتجاوز ما توقعه أكثر المراقبين تشاؤما.