تُحيى ألمانيا وأوروبا الذكرى الخمسمائة لإصلاحات القس الألماني مارتن لوثر، الذي يجمع المؤرخون أن حركة الإصلاح الديني التي أطلقها في عام 1517 شكلت بداية خروج الفكر الديني من هيمنة سلطة الكنيسة على النص. الكاتب والباحث موسى برهومة يَسْتقْرِئ لموقع قنطرة مدى واقعية إصلاح الإسلام على طريقة مارتن لوثر.
تراود بعضَ المشتغلين بالثقافة والفكر والفلسفة والناشطين الدينيين والسياسيين أفكارٌ تدعو بين الحين والآخر إلى "إصلاح الإسلام" على طريقة رجل الدين الإصلاحي الثائر مارتن لوثر. وثمة من يستبعد هذا الخيار، لأنّ السياقات التاريخية والثقافية بين تجربة الإصلاح الديني التي عصفت بالكنيسة، وبين ما يمكن أن يماثلها في تجربة "إصلاح الإسلام" قد تكون متباينة ومتفارقة ومحفوفة بمخاطر شديدة.
بيْد أنّ ذلك ليس حكماً نهائياً، لو نحن حاولنا، كما سيتبيّن لاحقاً، قراءة أحوال الزمن التاريخي والسياسي الذي مهّد الطريق أمام فضّ الصلة بين سلطة الكنيسة الكاثوليكية والاجتماع السياسي، ووقف النزاع بشأن احتكار المعنى واليقين في الكتاب المقدّس.
الكنيسة، آنذاك، كانت تعتبر النصَّ الديني من أملاكها، وبالتالي عَدّتْ قراءة النصوص الدينية خارج الكنيسة أمراً مستحيلاً، بل تمت المطالبة بعدم السماح لـ "المهرطقين" الذين هم خارج الكنيسة أن يقرأوا النصّ المقدس.
في غمرة ذلك، أفضى النظر التأويلي إلى النص المقدس، إلى بروز تيارين يتبع أنصار الأول فيهما، وهم من مدرسة أنطاكية، التقليدَ اليهودي المسيحي في التفسير، حيث كان التركيز على القراءة الحرفية للإنجيل، والاستناد إلى حقيقة الوحي الإنجيلية التاريخية. وقد رفض قرّاء مثل ثيودور القورشي (428- 350) فكرة المعاني المختبئة في النص، واعتبر أنّ الإنجيل كتاب واضح ومفتوح لجميع المهتمين بقراءته.
أما التيار الثاني فيمثله "الهرمينوطيقي" الأهم في مدرسة الاسكندرية، وهو أوريجانوس (185-254) الذي انطلقت قراءاته التأويلية والرمزية للإنجيل من مبدأ أنّ الكون كله مليء بالرموز وأنواع العالم غير المرئي، وأنّ كل الأشياء لها جانبان، واحد ظاهري وواقعي وهو متوفر لدينا جميعاً، والآخر روحي عرفاني معروف فقط للشخص الكامل (...). كما يشير إلى ذلك بتفصيل أوسع ديفيد جاسبر، في كتابه "مقدمة في الهرمينوطيقا".
مارتن لوثر مهد الطريق لعصر الأنوار
في غمرة هذا التصارع المحموم بين الشرعية الدينية والشرعية السياسية، بزغ عصر الإصلاح الديني، الذي انفجر في أوروبا في القرن السادس عشر، ما جعل الصراع ينتقل إلى إطار معرفي أوسع ضمن ما أطلق عليه "عصر الأنوار"، الذي نشأت في غضونه البروتستانتية كحركة مناهضة لسلطة الكنيسة الكاثوليكية.
القس الألماني مارتن لوثر بدأ عصر الإصلاح في عام 1517 عندما كتب 95 أطروحة ينتقد فيها الكنيسة الكاثوليكية في روما بسبب الفساد بما في ذلك شراء الامتيازات الكنسية والمحسوبية والمراباة وبيع صكوك الغفران. وأدى ذلك إلى حدوث شقاق عنيف وسياسي أحيانا في أوروبا والمسيحية وكان من بين العوامل التي أدت إلى نشوب حرب الثلاثين عاما وتدمير أديرة إنجليزية وإحراق العديد ممن وصموا بالهرطقة من الجانبين.
وفي هذا المعنى، يقارب الفيلسوف الألماني هانز غادامير في كتابه "الحقيقة والمنهج" جهود أحد رموز الإصلاح الديني مارتن لوثر باعتبارها تمثل وجهاً من وجوه التأويل المنهجي، لا سيما ما أكده لوثر حينما قال إنّ الكتاب المقدس هو مؤِّول نفسه، وبالتالي "نحن لا نحتاج إلى التراث لتحقيق فهم مناسب للكتاب المقدس، ولا نحتاج إلى فن التأويل بالأسلوب الذي كان يتبعه المبدأ القديم عن المعنى الرباعي للكتاب المقدس، ولكن الكتاب المقدس ينطوي على معنى أحادي يمكن أن يُستشف من النص: هو المعنى الحرفي".
كان لوثر يعتقد بأنّ على القاريء أن يواجه النص المقدس من دون تدخل الكنيسة أو لاهوتها، فضلاً عن رغبته في إطلاق الحرية للإنجيل لكي يتفاعل مع التجربة الذاتية للبشر، وقد ساعد لوثر صناعةُ المطبعة التي وفّرت لتلاميذه وأتباعه المعايشة الذاتية مع النص المقدس من خلال نُسَخ مطبوعة لا لبس فيها ولا تباين ولا أخطاء، وهو ملمح، بحسب جاسبر، ينطوي على دلالات شديدة الأهمية، إذ إن منطوق السلطة الدينية أضحى بين دفتيْ كتاب، وصار النص يفسِر النص، بعدما جرى تعليق السلطة اللاهوتية المتمثلة في رجال الكنيسة.
وشهد القرن الثامن عشر نقلة نوعية لجهة تكريس حركة الإصلاح الديني، من خلال الانفصال بين الدين والسياسة بتأثير من فلسفة ديكارت الذي جعل الانتقال من الإيمان إلى الشك، مستنداً إلى ممارسة عقلية وتعليلية. وقد عززت هذا الاتجاه فلسفة كانط، واعترافها بالعقل الإبداعي للقاريء، وبالتالي تحريضها على عدم الاعتماد على سلطة الآخرين.
إحلال سلطة العقل النقدي مكان العقل البطريركي
وقُيّض للتطور العلمي في القرن التاسع عشر أن يضع الدين والإيمان في مواجهة اللغة والنص والعالم، لا سيما بعد فتوحات علم الفيزياء التي قادت إلى إطلاق النظرية النسبية لأينشتاين ، ما قاد إلى رؤية جديدة للكون، أسفرت عما يسميه جاسبر "زعزعة العالَم واللغة والنصوص بشكل جذري".
وتعاضدت بحوث دي سوسير، مع جهود دريدا في إحلال سلطة العقل النقدي مكان العقل البطريركي سواء أكان هذا العقل نتاج نصّ مقدس، أو ثمرة تحالف منفعي بين السلطة والمال وصيرورتهما نظاماً يتوجه إلى النطاق العملي العام ويخاطب المنتسبين إليه.
ولعل حدس الفيلسوف اللاهوتي الألماني فريدريك شلايرماخر، ومن بعده غادامير، بهرمنيوطيقا كونية كان في محله، حيث أضحى كل شيء يرتد إلى سلطة قراءة، وبالتالي سلطة فهم، وسلطة قوة ومسؤولية. بهذا المعنى نُظر إلى نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وبحسب "مقدمة في الهيرمينوطيقا"، فقد كانت السياسة الفاسدة والمتطرّفة في ذلك البلد "من نوع التأويل الإنجيلي الذي رأى أنّ الأشياء خُلقت مختلفة بعين الله، وأنه لا بد من الاعتراف بهذا الاختلاف الذي يظهر حتى في لون الجلد. بذلك فرضت السياسة بطريركية حتمية، الذكر فوق الأنثى، الأبيض فوق الأسود، وهكذا".
ومع أنّ العرض السابق كان مكثّفاً، ولا يضيء كثيراً على المرجعيات الفكرية والفلسفية، ولا على الخلفيات السياسية، والاستعدادات الاجتماعية لتقبّل إصلاح الكنيسة، والتحرّر من قبضة سيطرتها، لكنه رغم ذلك، يُعين في مقاربة إمكانيات "تبْيِئة" التجربة إسلامياً.
ومن الضروري أن نتذكّر أنّ الصراع بين السياسة والدين في الإسلام تجلّى في الكيفية التي شَطَرَ فيها الخلافُ حول الآيات المحكمات والآيات المتشابهات الفرقَ الإسلامية والفقهاء والمتكلمين والنحويين، وامتد الخلاف ليشمل الكلام عن صفات الله وأصل الخلق، ونشأة الكون واستمراريته، وما يمكن تسميته بعالم الغيب.
كما شمل الخلافُ حول الآيات المحكمات والمتشابهات الشروطَ الواجبَ توافرها في "الراسخين في العلم" الذين يحق لهم علم تأويل كلام الله والتمييز بين المُحكم والمتشابه.
وإن اتخذ هذا الصراع بين النص الديني والتأويلات السياسية وجوها لغوية، فإنه في جوهره صراع أيديولوجي ميدانُه القرآن، ورحاه النقل والعقل.
لقد أفرز هذا الانقسام بين الديني والسياسي اصطفافات أيديولوجية اتخذت ما يمكن وصفه بالمعسكرين، الأول ينتسب إليه المنادون بالنقل والتفسير الحرفي للقرآن من "أهل السنة والجماعة"، و"السلف الصالح"، أو ما يمكن وسمهم بـ"المحافظين". أما المعسكر الثاني فهم أهل النظر العقلي من المتكلمين والفلاسفة، والذين لم يقتصر الهجوم عليهم وحسب، بل شمل منطق أرسطو وعلومه، وكل من يضع النصّ القرآني في سياق الاستنباطات الذهنية أو البرهانية.
لقد كان هذا العقل الماضوي، في هذه المواجهة، يشتغل بأدوات سياسية هدفها فرض تصوّر محدد لفهم الخطاب القرآني، وغالباً ما كان هذا التصور المعيَّن موائماً لتطلعات السلطات السياسية التي تريد أن تستعين من القرآن بالآيات التي تؤبّد بقاءها في الحكم، وتخدم مصالحها، وتبرّر أعمالها، وتسبغ القداسة على ممارساتها اليومية.
مأساة إبن رشد... مأساة العقلانية
الفيلسوف الراحل ابن رشد: "التجارة بالأديان هى التجارة الرائجة فى المجتمعات التى ينتشر فيها الجهل، إذا أردت أن تتحكم فى جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف دينى".
ولئن كان يُنظر إلى ابن رشد على أنه يمثل تيار العقلانية في التراث العربي الإسلامي، فإنّ مآل هذا التيار، من خلال المأساة التي حاقت برائده، كان التقهقر، حيث سيطرت النظرة الأحادية المطلقة للدين والسياسة والمجتمع، وحوصرت التعددية، وقُمع الاختلاف، وكان المتضررَ الأكبر في هذا الصراع الطويل والمرير الشريعةُ ذاتُها، لأن النظر إلى خطاباتها ظل قاصرا عن تمثّل المعاني المجازية الكثيفة الرمزية، والتي لا يمكن فهمها وتدبّرها إلا بالنظر العقلي والاستبطان التأويلي الذي يجعل الخطاب القرآني مفتوحا أمام القراءات المتعددة الذي تحافظ على الحيوية الإيمانية، وتقرّب المعاني القرآنية من مدارك البشر على اختلاف الأزمنة وتلاحُق العصور.
لقد قاد ارتباط الديني بالسياسي وتداخلهما الشديد والكثيف، إلى بروز ظاهرة التطرّف في العالم الإسلامي، وكذلك ظاهرة الأصولية التي يتفتق عنها ما يسميه أنصاره "الإسلام الجهادي" وهو في الحقيقة "إسلام إرهابي" لأنه يتوسل أدوات متوحّشة وعنيفة تصدر عن تصوّرات، مستمدة من التأويل المتعسّف للنصوص الدينية، تحث على تطبيق الإسلام بحد السيف، فضلاً عن تقسيم ذلك التصور الإصولي للعالم باعتباره فسطاطين: دار حرب، ودار سلام، على ما تنطوي عليه، هذه القسمة، من تهديد لمصالح ملايين المسلمين ممن يعيشون في بلاد الغرب، أو "دار الحرب"، بحسب الخطاب التكفيري الأصولي الذي يؤوِّل بعضَ الآيات القرآنية تأويلاً أيديولوجياً يخدم أغراضه السياسية، ومنافعه الآنية.
وإذا كانت أوروبا، أو الغرب بعامة، قد تمكن، بقدر كبير، من تجاوز هذا الاشتباك الضاري بين الديني والسياسي، من خلال ترسيم الحدود الفاصلة بين المعرفة العملية والمعرفة الدينية، وبالتالي تحديد العلاقة وضبطها بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، فإنّ العالم العربي والإسلامي لم يتمكن من ذلك الفصل النهائي بين الدين والسياسة.
فهل نحتاج إذاً، في هذه القنطرة الملتبسة، إلى مارتن لوثر إسلامي؟
لقد قام بيننا قبل ثلاثة عقود ونيّف، مفكر مصريّ شجاع يدعى نصر حامد أبو زيد (10 يوليو 1943 - 5 يوليو 2010) دعا إلى "أنسنة" الخطاب الديني، كخطوة نحو تحرير هذا الخطاب من التفسيرات التعسفية والرؤى الأسطورية التي رانت عليه، ما أدى إلى نشوء الممارسات الغيبية، والتأويلات التي تخدم السلطات السياسية، وتقدم للاستبداد والجهل مبررات بقائهما واستمرارهما وتغولهما.
حاول مشروع أبو زيد التأويلي أن يَخلُص إلى صيغة تصل التراث الديني، بكل عناصره ومستوياته، بلحظة العيش الراهنة الآن وكذلك بالمستقبل، لأنه يعتقد أنّ الانقطاع عن الماضي يُعادل الإقامة فيه، وبالتالي لا بد من البحث عن آلية تقرأ الماضي، ما يجعله مستمراً في الحاضر، ودافعاً إلى الترقّي، وحافزاً على الإصلاح والتمدّن.
وكان من المتوقّع، وهو ما جرى، أن يتلقّح هذا المشروع التأويلي بثيمات "تصادمية" مع السلطة الدينية والسلطة السياسية، وسلطة المثقفين الانتهازيين الذين خانوا ميراثهم التنويري، وأضحوا يقولون نصف الحقيقة، ويتواطأون مع قوى التخلّف والاستبداد، التي ترمي إلى جرّ المجتمعات إلى الاستسلام على المستوى السياسي، و"التأسلم" الملتبس الذي لا يفهم من الإسلام سوى القشور والطقوس والشعائر والأساطير التي لا تنشُد تغييراً، ولا تؤسس إصلاحاً.
أبو زيد، بسبب هذا المشروع الثوري التنويري، اتُّهم بالزندقة والإلحاد والكفر، وقضت المحكمة، بتواطؤ من الأزهر، وحَمَلة المباخر، وحرّاس الخوف والجهل، بفصله عن زوجته ضمن "قانون الحسبة"، فترك بلده، ويمّم شطر هولندا، وظل يدرّس في جامعاتها، حتى آخر أيامه.
لقد كان أبو زيد مثقفاً عضوياً حقيقياً، وخاض معركة ضد قوى الظلام التي سعت إلى احتكار اليقين الديني، والنطق الحصري بلسان السماء، وعمل على تصديع المنظومة الرمزية التي يتخندق فيها أصحاب ذلك اليقين، وتشقيق التصورات الميتافيزيقية التي تسعى إلى شلّ إرادة الإنسان، وتحويله إلى تابع مذعن لسلطة دينية ذات مرجعيات أيديولوجية، وتطلعات سياسية تستخدم الدين لأغراضها البراغماتية.
لقد أدرك أبو زيد، مبكراً، هذه المعضلة، لذا مضى، بلا هوادة، يقترح قراءاته المثيرة للجدل للخطابات والنصوص الدينية، لإثبات أنّ الخطاب الإلهي ثابتٌ في منطوقه، لكنه متحركٌ في دلالاته، وبالتالي من حق المؤوِّلين الراسخين في العلم والمعرفة إنتاج شروط قراءة جديدة تنتقد شروط القراءة القديمة للخطاب الديني، بما يتواءم مع المتطلبات العصرية والحضارية.
نصر حامد أبو زيد يمكن أن نعدّه لوثراً إسلامياً. فهل ثمة من يمكنه دفع الثمن الباهظ، ومواصلة مسيرته في إصلاح الفكر الإسلامي، والدفع باتجاه قراءة جديدة للدين تضعه في أفق التحولات الحضارية، قبل أن تصبح لفظة "مسلم" وجهَ العملة الآخر للرجعية والتخلف والهمجية؟!
موسى برهومة
حقوق النشر: موقع قنطرة
موسى برهومة كاتب عربي معروف يعمل أستاذأ للإعلام في الجامعة الأمريكية بدبي.
قنطرة