كمال بدار
كثيرا ما نسمع عن تحالف رجال السلطة والدين لإحكام الأغلال وتكميم الأفواه بعصا الدين السحرية. ونحن في العقيدة المسيحية لا نعرف سوى ملك واحد وقائد واحد للكنيسة، هو السيد المسيح الذي هو رأس الكنيسة. لكننا نجد أحيانًا أنه يتم تفسير بعض النصوص من الكتاب المقدس لصالح أصحاب السلطة في الحكم. ولعل أشهرها وأكثرها شيوعًا واستخداما من قبل رجال الدين المسيحيين هو الإصحاح الثالث عشر من رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية :
"1 لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ. وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ 2حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً."
عادة ما يتم استخدام هذا النص فقط من رومية 13 من دون إكمال باقي الآيات من نفس الإصحاح، والتي توضحه. ويحلو لبعض رجال الدين المسيحي تفسير(السلاطين الفائقة) بأنها تشير إلى الحكام والملوك الأرضيين الذين يحكمون البلاد والعباد، ولاسيما أن النص يجعل سلطتهم إلهية، ويحظر على أي فرد مقاومتهم والاعتراض عليهم لئلا يكون مقاومًا لترتيب الرب الإله على أساس أنه ليس سلطان إلا من الله. لكن بالرجوع إلى سفر الرؤيا والإصحاح 13 أيضًا، نجد تعارضًا مع هذا التفسير:
"1 ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى رَمْلِ الْبَحْرِ، فَرَأَيْتُ وَحْشًا طَالِعًا مِنَ الْبَحْرِ لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى قُرُونِهِ عَشَرَةُ تِيجَانٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِ اسْمُ تَجْدِيفٍ. 2وَالْوَحْشُ الَّذِي رَأَيْتُهُ كَانَ شِبْهَ نَمِرٍ، وَقَوَائِمُهُ كَقَوَائِمِ دُبٍّ، وَفَمُهُ كَفَمِ أَسَدٍ. وَأَعْطَاهُ التِّنِّينُ قُدْرَتَهُ وَعَرْشَهُ وَسُلْطَانًا عَظِيمًا. 3وَرَأَيْتُ وَاحِدًا مِنْ رُؤُوسِهِ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ لِلْمَوْتِ، وَجُرْحُهُ الْمُمِيتُ قَدْ شُفِيَ. وَتَعَجَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ وَرَاءَ الْوَحْشِ، 4وَسَجَدُوا لِلتِّنِّينِ الَّذِي أَعْطَى السُّلْطَانَ لِلْوَحْشِ، وَسَجَدُوا لِلْوَحْشِ قَائِلِينَ: «مَنْ هُوَ مِثْلُ الْوَحْشِ؟ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَارِبَهُ؟"
نرى في هذه الآيات سلطانًا مغايرًا للسلطان المذكور في رسالة رومية 13، حيث نرى التنين الذي عرفه السيد المسيح من قبل في رؤيا 12 ولاحقا في رومية 20 بأنه الحية القديمة إبليس:
رؤيا 12 : 9 "فَطُرِحَ التِّنِّينُ الْعَظِيمُ، الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ إِبْلِيسَ وَالشَّيْطَانَ، الَّذِي يُضِلُّ الْعَالَمَ كُلَّهُ - طُرِحَ إلى الأَرْضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلاَئِكَتُهُ".
رؤيا 20 : 2"فَقَبَضَ عَلَى التِّنِّينِ، الْحَيَّةِ الْقَدِيمَةِ، الَّذِي هُوَ إِبْلِيسُ وَالشَّيْطَانُ، وَقَيَّدَهُ أَلْفَ سَنَةٍ."
نرى هنا إبليس وهو يعطي قدرته وسلطانه للوحش الذي أيضًا فسره السيد المسيح لاحقا في سفر الرؤيا والإصحاح 17 على أنه رمز للإمبراطورية الرومانية التي سكرت من دماء القديسين، والتي تجلس عاصمتها روما الزانية على سبعة رؤوس هي سبعة تلال مبنية عليهم تلك المدينة. فكيف نفسر هذا التعارض؟
إذا عددْنا أن (السلاطين الفائقة) المذكورة في رومية 13 هي ملوك العالم ورؤساؤها، وأنه ليس سلطان (عالمي) إلا من الله، فكيف نفسر سلطان الامبراطورية الرومانية وقدرتها، المذكورة في رؤيا 13، وهي إمبراطورية عالمية أيضًا لكن من دون أن يكون سلطانها من إبليس؟
لفهم هذا التعارض الظاهري، تجب قراءة باقي الآيات في رسالة رومية اصحاح 13 لنرى تفسيرا آخر مغايرا لما تردده الأغلبية من رجال الدين في بلادنا لمعنى "السلاطين الفائقة".
يقول النص :
3فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ 4لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ. 5لِذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ بَلْ أيضًا بِسَبَبِ الضَّمِيرِ. 6فَإِنَّكُمْ لأَجْلِ هَذَا تُوفُونَ الْجِزْيَةَ أيضًا إِذْ هُمْ خُدَّامُ اللهِ مُواظِبُونَ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ. 7فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لَهُ الإِكْرَامُ.
السلاطين الفائقة في الترجمة الانجليزية هي higher powers وهي أعلى سلطة تخضع لها الكنيسة. فكيف تكون الكنيسة التي هي جسد السيد المسيح خاضعة لسلطة عالمية أو بشرية؟
كورنثوس الأولى 12 : 27 "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا."
قال السيد المسيح نفسه إنه قد دفع إليه كل سلطان من فوق، وهو رأس الكنيسة، وبالتالي لا يمكن أن تكون السلطة الفائقة العُليا سلطة بشرية أو عالمية، بل سلطة السيد المسيح :
متى 28 : 18فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلًا: "دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ."
الكلمة اليونانية المستخدمة للتعبير عن السلاطين في رومية 13 : 1 هي exousia وهي تعني القدرة وأحيانا حرية الإرادة. وهي نفس الكلمة المستخدمة لتشير إلى سلطان السيد المسيح الذي سلمه للكنيسة. (راجع مرقس 13 : 34)
"كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ تَرَكَ بَيْتَهُ، وَأَعْطَى عَبِيدَهُ السُّلْطَانَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ، وَأَوْصَى الْبَوَّابَ أَنْ يَسْهَرَ."
كما أنها أيضًا الكلمة ذاتها المستخدمة للاشارة إلى سلطان التنين الذي أعطاه للإمبراطورية الرومانية في رؤيا 13 .
لو أعدنا قراءة رومية 13 في هذا الضوء، لوضحت الأمور تمامًا ولانتفى التعارض الظاهري بين النصين في رومية 13 ورؤيا 13 .
وما يؤكد هذه الرؤية وذلك التفسير مواصفات الحكام المذكورين في رومية 13، والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنطبق على العديد من رؤساء هذا العالم وملوكهم. فمثلا، تتكلم الآيات على أن الحكام هم (خدام الله) للصلاح، وأنهم يحملون السيف للانتقام من فاعلي الشر، ولمدح فاعلي الخير، وأنه يجب الخضوع لهم (من أجل الضمير)، وأنه يتم دفع الجباية لهم لأنهم خدام الله المواظبون على فعل الخير ومحاربة الشر. فكيف تنطبق تلك المواصفات على العديد من الملوك والأباطرة والرؤساء الذين اضطهدوا الكنيسة قديما وحديثا؟
إن أصحاب السلاطين الفائقة هم خدام الله من آباء وشمامسة وشيوخ وقسوس وواعظين ومبشرين ومعلمين ومرنمين ومفسرين ........الخ ممن يخدمون كلمة الرب. وهم أصحاب المواهب المتنوعة التي تحدث عنها الرسول بولس في كورنثوس الأولى والإصحاح 12. فكل خدام الكنيسة وأصحاب المواهب فيها أخذوا هذا السلطان الفائق من السيد المسيح الذي كان يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة .
والسيف الذي يحمله أصحاب السلاطين هؤلاء هو سيف الروح الذي هو كلمة الله
افسس 6 : 17 "وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ."
أما عن الجزية والضريبة، فهي ما يعطى للمتفرغين للخدمة من أجل حياتهم ومعيشتهم، لأن الفاعل مستحق أجرته كما اوصت الشريعة قديمًا وحديثًا، إضافة إلى أن حكماء الكنيسة وخدامها كانوا يقضون بين المتنازعين في الكنيسة حتى في الأمور المادية، وكانوا يفرضون جباية على بعض منهم في حل تلك المنازعات .
كورنثوس الأولى 6 : 1 "أَيَتَجَاسَرُ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَهُ دَعْوَى عَلَى آخَرَ أَنْ يُحَاكَمَ عِنْدَ الظَّالِمِينَ وَلَيْسَ عِنْدَ الْقِدِّيسِينَ؟ 2أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِدِّيسِينَ سَيَدِينُونَ الْعَالَمَ؟ فَإِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُدَانُ بِكُمْ أَفَأَنْتُمْ غَيْرُ مُسْتَأْهِلِينَ لِلْمَحَاكِمِ الصُّغْرَى؟ 3أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّنَا سَنَدِينُ مَلاَئِكَةً؟ فَبِالأولى أُمُورَ هَذِهِ الْحَيَاةِ! 4فَإِنْ كَانَ لَكُمْ مَحَاكِمُ فِي أُمُورِ هَذِهِ الْحَيَاةِ فَأَجْلِسُوا الْمُحْتَقَرِينَ فِي الْكَنِيسَةِ قُضَاةً! 5لِتَخْجِيلِكُمْ أَقُولُ. أَهَكَذَا لَيْسَ بَيْنَكُمْ حَكِيمٌ وَلاَ وَاحِدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ إِخْوَتِهِ؟ 6لَكِنَّ الأَخَ يُحَاكِمُ الأَخَ وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ."
ولكن، هل معنى هذا أن تكون الكنيسة دولة مستقلة داخل الدولة الكبيرة التي قد تضم مواطنين من ديانات أخرى وثقافات مختلفة عنها؟ بالطبع لا. فالمؤمنون مطالبون بطاعة الترتيب البشري، كما أوضحت رسالة بطرس الرسول الأولى 2 : 13: "فَاخْضَعُوا لِكُلِّ تَرْتِيبٍ بَشَرِيٍّ مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ. إِنْ كَانَ لِلْمَلِكِ فَكَمَنْ هُوَ فَوْقَ الْكُلِّ، 14 أَوْ لِلْوُلاَةِ فَكَمُرْسَلِينَ مِنْهُ لِلاِنْتِقَامِ مِنْ فَاعِلِي الشَّرِّ، وَلِلْمَدْحِ لِفَاعِلِي الْخَيْرِ."
لكن الخضوع لهذا الترتيب البشري، كما أوضحت الرسالة، مقترن ومشروط بأداء هذه السلطات البشرية في دورها في محاربة الشر والانتقام من فاعليه، لا في اضطهاد كنيسة الرب ومحاربتها ومحاربة كلمة الخلاص والبشارة، وإلا أصبحت في حكم الإمبراطورية الرومانية التي أخذت القدرة والسلطان من عدو الخير كما سبق أن أشرنا في ما يتعلق برؤيا 13، وبالتالي لا يصبح الخضوع لها واجبًا بل تجب مقاومتها، كما دعا الرب إلى مقاومة إبليس حتى يهرب من المؤمنين .
يعقوب 4 : 7 "فَاخْضَعُوا لِلَّهِ. قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ."