محمد يسري:
هنالك الكثير من المدن المقدسة من وجهة النظر اليهودية. كل منها ورد ذكرها في نصوص دينية يهودية مختلفة وتمثل قيمة معيّنة في عقل اليهود ووجدانهم الجمعي، وهو السبب الذي دعاهم لتقديس تلك المدن بالذات دون غيرها.
القدس: عاصمة المملكة القديمة ومدينة الهيكل المقدس
تقع مدينة القدس في منطقة جبال الخليل، ويسميها اليهود باسمها القديم أورشاليم، والذي يتكون من مقطعين، المقطع الأول وهو (أور) ومعناه مدينة والمقطع الثاني وهو (شاليم) وهو إله وثني عند الكنعانيين يعرف بإله السلام، أي أن أورشليم تعنى مدينة إله السلام. وتعتبر القدس من أقدم المدن التاريخية في فلسطين، إذ يذكر الدكتور حسن ظاظا في كتابه "أبحاث في الفكر اليهودي"، أن أول إشارة للمدينة قد وردت في لوحات تل العمارنة التي ترجع إلى عهد أمنحوتب الرابع المعروف باسم (اخناتون)، وكان ذلك ما بين (1400 -1350 ق. م) تقريباً. القدس هي المدينة الأكثر تقديساً في الديانة اليهودية، وقد ورد ذكرها في عشرات المواضع في العهد القديم، وقد ابتدأ تقديس المدينة في عهد الملك داود، عندما اتخذ منها عاصمة لحكمه بعد فتحها، واستمرت كذلك في زمن ابنه سليمان، كما تزايدت قدسيتها ومكانتها بعدما بُني بها الهيكل المقدس الذي يعرف باسم هيكل سليمان، والذي صار منذ ذلك الوقت رمز الدين اليهودي الأقدس. وبعد انقسام المملكة اليهودية أضحت القدس مركزاً لحكم دولة يهوذا حتى سقطت في يد البابليين في عام 587 ق.م، واقتيد أهلها أسرى إلى العراق، في ما عُرف بالسبي البابلي. وبعد رجوع اليهود من بابل، اتخذوا من أورشليم عاصمة لهم مرة أخرى، وحاولوا إقامة الهيكل المقدس فيها للمرة الثانية، إلا أن ثوراتهم المستمرة أدت لقيام الرومان بتخريب المدينة وإخراجهم منها في عام 70م، ليتشتت اليهود في عدد من المدن القريبة من أورشاليم.
طبريا: حيث ظهر التلمود
تعتبر مدينة طبريا من أقدم المدن التاريخية في فلسطين، وهي تقع على مسافة 198 كيلومتراً شمال شرق القدس. والسبب في قداسة طبريا عند اليهود، هو أنه وبعد فشل ثورة بركوبا ضد الرومان في الربع الأول من القرن الثاني الميلادي، قامت القوات الرومانية بإجلاء اليهود عن مدينة أورشليم، فرحلت جماعات كبيرة منهم إلى مدينة طبريا، وسرعان ما انتقل المجلس الأعلى لليهود المعروف باسم “السنهدرين” إلى طبريا، فأضحت المدينة بمثابة عاصمة الأمة اليهودية الجديدة. ومع مرور الوقت نشأت في طبريا مدرسة دينية علمية متميزة، وكان لها أثر كبير في إنتاج مجموعة ضخمة من شروحات العهد القديم وتفسيرات القصص التوراتي.
ولعل من أهم المنجزات العلمية التي قام بها علماء طبرية، اختراعهم للنص الماسوري للعهد القديم، والذي يعرفه العالم اليهودي الكبير إيمانويل توف في كتابه "النقد النصي للكتاب المقدس" بأنه "مجموعة من التقاليد التي انتقلت بها إلينا تفاصيل النص العبري للعهد القديم وضبط فيها لفظه بواسطة تحريك الحروف وتشكيلها". ولم يكن النص الماسوري هو المنتج الديني الوحيد لمدرسة طبريا، بل إن إنجازها الأكبر تمثل في ظهور التلمود بقسميه المشنا والجمارا، فبحسب الحاخام الأميركي روبن فايرستون في كتابه ذرية إبراهيم، قام علماء طبرية بتدوين التعاليم الشفوية للشريعة اليهودية وسموها بالمشنا، وهي كلمة تعني التثنية والتكرار، ثم شرحوا تلك التعاليم وأضافوا إليها الكثير من التعليقات والحواشي وسموها باسم الجمارا التي تعني الإنهاء والاتمام. وبذلك أضحت مدينة طبريا مرتبطة بالتلمود بشكل وثيق وقوي، وأدى ذلك لتقديسها ورفع مكانتها حتى اليوم.
الخليل: أرض الآباء المقدسة
تقع مدينة الخليل على مسافة 35 كيلومتراً جنوب القدس، وتسمى المدينة عند اليهود باسم (حبرون)، وبذلك الاسم ورد ذكرها عدة مرات في التوراة والعهد القديم. وسبب تقديس حبرون عند اليهود، هو أنها العاصمة الأولى للدولة الإسرائيلية في عهد شاؤول، كما أنها الأرض التي شهدت إقامة عدد من كبار رموز اليهودية المبكرة في نواحيها، فالنبي إبراهيم عاش فيها جزءاً من حياته بعدما قدم من العراق، وكذلك عاش فيها اسحق ويعقوب من بعده. وقد ورد في سفر التكوين في العهد القديم، أنه أثناء وجود إبراهيم في حبرون، ماتت زوجته سارة، فطلب من أهل المدينة مكاناً ليدفنها فيه، وبالفعل اشترى منهم مغارة المكفيلة مقابل 400 درهم. ومنذ ذلك الوقت، أضحت الخليل مدفناً لأنبياء العهد القديم ولزوجاتهم، فقد دفن بها بعد ذلك كل من النبي إبراهيم والنبي اسحق، كما أن يعقوب قُبيل موته في مصر، كان قد أوصى أبناءه بأن يحنطوا جسده وأن يحملوه معهم عند الخروج ليدفنوه بجوار آبائه، وهو الأمر الذي يقر سفر التكوين بحدوثه فعلاً عند دخول العبرانيين لفلسطين زمن يشوع. حبرون - الخليل إذن ليست أرضاً عادية عند اليهود، بل أرض الآباء المقدسة التي يجب الحفاظ عليها والموت في سبيلها، وهو ما يفسر قيام إسرائيل بمحاولة فرض سيطرتهم على المدينة بكل وسيلة، ونزع الطابع الإسلامي الذي يميزها، وقد تجلى ذلك في أغسطس 1994 عندما قامت إسرائيل بإجراءات لتقسيم الحرم الإبراهيمي إلى قسمين، بحيث يصبح الجزء الأكبر لليهود، والجزء الأصغر للمسلمين.
صفد: مركز الكابالا اليهودية
تقع مدينة صفد على بعد 134 كيلومتراً شمال مدينة القدس، وهي واحدة من المدن الأربع المقدسة عند اليهود. ويرجع تاريخ تقديس المدينة إلى القرن السادس عشر الميلادي، ذلك أنه في تلك الفترة تم طرد اليهود من إسبانيا، فهرب عدد كبير منهم إلى المغرب ومصر وفلسطين. كان الكثير من يهود إسبانيا يعتنقون مذهباً روحياً يُعرف بالكابالا، وهو مذهب يعتمد على مجموعة من التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية اليهودية، هؤلاء استقر الكثير منهم في مدينة صفد تحديداً، حيث كونوا مجتمعاً يهودياً مغلقاً ومنعزلاً عما يحيط بهم من مؤثرات إسلامية أو مسيحية، مما خلق مناخاً مناسباً لظهور عدد من العلماء والمفكرين الذين عملوا على تطوير مذهبهم. إسحاق لوريا المعروف بالأري أو الأسد، كان أحد هؤلاء العلماء. يقول المسيري في موسوعته عن اليهودية والصهيونية، أن لوريا الذي ولد في أورشليم، رحل إلى مصر فقضى بها بعض الوقت، ثم رجع إلى صفد في عام 1570م، واتخذ منها مركزاً لتعليم الكابالا، وبمرور الوقت بدأت المدينة تجذب إليها جميع المهتمين بذلك المذهب. في الوقت الحاضر توجد العديد من مراكز تعليم الكابالا في شتى أنحاء العالم، ويعتنقها العديد من المشاهير والنجوم، ولكن تظل صفد تحتل المكانة الرئيسة والأهم، إذ يزورها سنوياً مئات الآلاف من أتباع الكابالا ومحبيها ودارسيها، وهو الأمر الذي يفسره الحاخام ريال رييس مدير مركز تزفات كابالا في صفد "بأن الكابالا موجودة هنا من آلاف الأعوام".
أريحا
بالإضافة للمدن الأربع المقدسة المذكورة آنفاً، فإن هناك مدناً أخرى تحظى بمكانة معتبرة في العقلية اليهودية، من تلك المدن مدينة أريحا. تعتبر أريحا من أقدم المدن التاريخية في منطقة الشرق الأدنى كله، وقد ورد اسم تلك المدينة في العديد من مواضع التوراة والعهد القديم. وأريحا التي تقع على الضفة الغربية من نهر الأردن وعند شمال البحر الميت، هي أولى المدن الكنعانية الحصينة التي سقطت أمام جموع بني إسرائيل المتحفزة، التي كان أفرادها يمنون أنفسهم على مدار أربعين عاماً متواصلة بدخول أرض الميعاد. وقد ارتبطت ذكرى تلك المدينة بمجموعة من المعجزات والخوارق، التي يعتقد اليهود أن "يهوه" قد أيد أجدادهم بها عند غزوها، مثل شق مياه نهر الأردن وهدم أسوار المدينة العظيمة وغير ذلك من التفاصيل التي ورد ذكرها في سفر يشوع في العهد القديم.
نابلس
مدينة نابلس الحالية، والتي كانت معروفة سابقاً باسم شكيم، تمثل مكاناً مهماً عند اليهود أيضاً. ويفسر ريتشارد إليوت فريدمان في كتابه من كتب التوراة، أهمية نابلس التاريخية فيقول إنه بعد وفاة الملك سليمان، انقسمت المملكة اليهودية إلى قسمين، وكان القسم الأول منها يقع في الشمال وعُرف بمملكة إسرائيل وكانت عاصمته تقع في نابلس. كما أن هناك عدداً من نصوص العهد القديم التي تحترم وتقدس مدينة نابلس، لأن الأسباط قد دفنوا بها عظام يوسف، ففي بلدة "بلاطة البلد" شرق مدينة نابلس، يوجد قبر يُعرف بقبر النبي يوسف، ويعتبر مقاماً مقدساً لدى اليهود منذ احتلال الضفة الغربية في عام 1967م.