محمد يسري:
الجنس -وإنْ كان ذلك الممنوع غير المرغوب فيه لدى الكثير من صنّاع الفتوى أو تجّار الدّين- إلا أنّ الاهتمام به، وإعادة تشكيله، وترسيمه في العقل المسلم بوصفه الإثم الكبير والذّنب الذي لا يغتفر، يعتبر مؤشِّراً حقيقياً على أنّ الأصولية الدّينية هي تعبيرٌ عن حرمان جنسي، يؤكّد الباحث المغربي يوسف هريمة في حوار مع رصيف 22، وبرأيه فأن حب التملّك الذي تحظى به المرأة في ذهنية الأصولي نابع من أنّه ينظر إليها على أنهّا وسيلة لتعزيز قوّة الفكر الأصولي الدّاخلية، وتعزيز أواصر اللُّحمة مع باقي الأصوليات أو العصبيات المنافسة.
هريمة، باحث مغربي مهتم بالشأن الديني والثقافي والفكري في العالم الإسلامي، له العديد من الأبحاث والدراسات والمقالات، وكتاب بعنوان "ولادة المسيح وإشكالية التثاقف اليهودي والمسيحي. دراسة تحليلية مقارنة من خلال الكتاب المقدس".
شارك في العديد من الكتب الجماعية، منها كتاب "مقاربات معرفية في الإصلاح الديني"، وكتاب "محاولات تجديد الفكر الإسلامي، مقاربة نقدية"، وكتاب "مفهوم تطبيق الشريعة عند دعاة الإسلام السّياسي، مقاربة نقدية"، وكتاب "التطرّف الديني في فكر الجماعات الإسلامية: نحو مقاربة تفسيرية"، وكتاب "التسامح في الثقافة العربية، رؤية نقدية". كما شارك في مجموعة من الندوات والحوارات المكتوبة والمتلفزة، واللقاءات الفكرية. يحاوره رصيف22 في السطور التالية.
من المعروف أن مصطلح الأصولية، هو مصطلح حديث ولم يستخدم في تاريخ المسلمين، فهل يمكن بداية، أن تعطينا تعريفاً دقيقاً لما تقصده بالأصولي؟ وما هي الأصولية الدينية على وجه التحديد؟
عدم ظهور مصطلح معين في فترة من التاريخ القديم للمسلمين لا يعني عدم وجود إرهاصاته أو مؤشراته، أو أسسه وقضاياه، من هنا نستطيع أنْ نقول بإنّ الأصولية الدّينية التي تعنينا هنا هي تلك التوجّهات الدّوغمائية التي تريد أنْ تقنع الناس بأنّ المجال الديني هو مجال يستوعب كل الجزئيات وتفاصيل الحياة، ويشترك في هذا التوجّه جميع الحركات الإسلامية الكبرى، بدءاً من جماعة الإخوان المسلمين ووصولاً إلى ما تفرّع عنها من حركات وجماعات تختلف في الشّكل وتتّفق في المضمون.
هل من الممكن أن تشرح لنا أسباب التماهي بين الذكوري والأصولي في الحالة الإسلامية؟
تنظر الأصولية للمرأة على كونها مصدر كلّ نزوة وشهوة، ومن هنا فهي تفرض عليها منطق القيود والمنع والحجب، وقد تلعب المرأة دوراً قيادياً من موقع الضحيّة داخل الفكر الأصولي، فتتماهى مع المتسلّط الذكر في المواقف والسّلوك.
حيث يتمّ تعزيز كل القيم المفروضة عليها وعلى جسدها، وتدخل في حالة حربٍ معلنة مع الجسد والرغبة، ويتمّ ذلك عبر ثلاثة أشكال: التماهي بأحكام المتسلّط، التماهي بعدوانه، والتماهي بأسلوبه الحياتي ومُثله العليا وقِيمه. فلكي تتماهى المرأة بأحكام المتسلّط يلزمها استبطان كل القيم الذكورية العدوانية والمسلّطة عليها، وتوجيهها إلى الذات في شكلِ إحساسٍ مزمن بالذنب وتبخيس قيم الذّات.
أمّا عن التماهي بعدوانه فيتركّز أساساً بتسليط المرأة كل عدوانيتها على الأضعف منها، وربّما يكون الأبناء هنا هم الضحايا. أمّا التماهي بقيم المتسلّط ومُثله العليا فيكون عبارة عن حالة ذوبان في عالم المتسلّط، بالتقرّب من أسلوبه الحياتي، رغبةً في حلّ مأزقه الوجودي، أو تشخيصاً وهمياً لجبروته وقوّته.
متى ظهرت الأصولية الدينية في الحالة الإسلامية؟ وكيف عبّرت عن نفسها في التاريخ الإسلامي؟
بعيداً عن حسابات التاريخ وإكراهات تحديد النشأة والولادة، فإن ظهور الأصولية الدينية عموماً يرتبط بفترات الانحدار والتخلّف والشعور بالنقص. فكلما كان الإنسان متخلفاً تبدأ حركة النزوع إلى الماضي أو للفترات التي يعتبرها المرء قد استجمعت شروط النقاء والبقاء.
وهي نتيجة حتمية لمقدار إحساس الفرد والجماعة الحاضنة له، بالعجز والضعف والغلبة على غوائل الطبيعة وعَنَتِ المتسلّطين، من هنا، يمكننا تحديد ظهور هذا المصطلح بما عاشه العالم الإسلامي إثر سقوط الدولة العثمانية التي شكّلت، في المخيال العربي الإسلامي، الحالةَ التي تجسّدت فيها الدولة بوصفها إرادة لله.
ذكرت من قبل في إحدى مقالاتك "أن الهوس الجنسي بلغ ذروته مع المدّ الوهابي..." ألا ترى أن هناك أشكالاً أخرى من ذلك الهوس الجنسي، بعيدة كل البعد عن الوهابية؟ ماذا عن زواج المتعة عند الشيعة الإمامية؟ وماذا عن حرية ممارسة الجنس خارج إطار الزواج في النسق الغربي الحداثي، ألا تعتقد أن تلك الممارسات تتضمن هي الأخرى نزوعاً مشابهاً للهوس الجنسي الذي اعتبرته نتاجاً للأصولية الدينية؟
حينما تحدّثت عن المدّ الوهابي فقد قصدت تحديداً السياق المغربي. هذا السياق له خصوصياته، فهو على الأقل لا يعرف زواجاً للمتعة، ولا غيره من أشكال الزواج الأخرى.
لاعتبارات متعددة أهمها، أن النسيج الديني المغربي الرسمي لقرون طويلة اصطبغ في غالبه بالطابع المذهبي المالكي في الفقه، وبالعقيدة الأشعرية في الجانب الفكري العقدي، إضافة إلى طريقة الجنيد في السلوك، في هذا السياق المغربي يؤكّد ادريس هاني من خلال كتابه سرّاق الله، ورصده للتّجربة الإسلامية داخل المغرب بأنّ الهوس الجنسي قد بلغ ذروته مع المدّ الوهّابي.
أما في السياق الغربي الحداثي فتلك قصة أخرى. فالمرأة ليست ضحية فقط هذا الالتباس الديني الإسلامي، ولكنه امتداد لنظرة تشكّلت أيضاً من الإرث اليهودي والمسيحي.
فلا يجب أن ننسى بأن سفر التكوين يحمّل مسؤولية الخطيئة الأولى إلى المرأة، فهي المسؤولة الأولى عن مخالفة آدم للأمر الإلهي، وبذلك استحقّت العقاب. فالنظرة الدونية للمرأة ليس وليدة فقط للتراث الإسلامي، بل هي امتداد لتلك الدونية التي تأسّست مع الإرثين اليهودي والمسيحي.
وحتى بعد دخول المرأة عصر الحداثة، أو عصر ما بعد الحداثة، لم يتجاوز الغربي نظرته الأولى، حيث تم اختزالها في لعبة الجسد. وهي نظرة تستلهم البعد اليهودي المسيحي باعتبارها مصدراً للغواية.
جادلت في المقالة نفسها بأن "الأصولية الدينية هي تعبير عن حرمان جنسي" وفسّرت ذلك بقولك "...يولد العنف باعتباره صيغة تعويضية على الجنس، فالإرهابي الوهابي يمارس عدوانيته وفي مخيلته أنه يقدّم مهراً للظفر بحور العين، والتمتع بالجنس الأخروي"، السؤال هنا:
هل تقتصر أمنية الحصول على الحور العين والتمتع بالجنس الأخروي، على المخيلة الوهابية وحدها؟ أم أنها تتسع لتشمل المخيلة الإسلامية الجمعية؟ ألا نجد فكرة التلذذ بالجنس الأخروي حاضرة وبقوة في الأغلبية الغالبة من الأنساق المذهبية الإسلامية؟ ولماذا نربط الجنس الأخروي بمفهوم الجهاد حصراً؟ أليست الحور العين هي جائزة جميع المؤمنين الذين يدخلون الجنة، سواء كانوا من المجاهدين أم من غيرهم؟
حضور الجنس في الفكر الوهابي تحديداً لا يعني غيابه في الأنساق الفكرية والمذهبية الأخرى. لكن طبيعة البحث تقتضي من الباحث حصر وتضييق مجال البحث حتى يستوفي الغرض. ولهذا كان لزاماً أن نقرأ الأصولي أو المتطرّف أو الإنسان العدواني قراءةً يتمّ فيها استحضار جوانب غائبة أو يتمّ تجاهلها عن قصد أو غير قصد. ولأن فرويد شخصية تثير حساسية في السياق الإسلامي كان التجاهل والاستبعاد والتهميش مصيره في كلّ الدراسات والمقاربات التي تهدف إلى دراسة أبعاد العنف المتعلقة بالإنسان المسلم.
هذا الأمر لن يثنينا عن التركيز على الهوس الجنسي في مخيلة الأصولي، سواء كان وهابياً أو غير ذلك، فهو يقف مقابلاً للهوس الجنسي الحداثي. ففي اللحظة التي يعبّر فيها الحداثي عن جنسانيّته المتحرّرة، يقف الأصولي موقف المعارض والداعي والمسؤول عن الحفاظ على رمزية المرأة، لا بكونها إنساناً متكامل الأركان، بل فقط جسداً يجب حمايته، والاحتماء منه. لهذا وجب وضع الحجاب فوق الرأس، فهو الوسيلة الوحيدة لمواجهة الفتنة، أو مواجهة المدّ الحداثي التحرري. وكذلك يمكننا فهم منع الاختلاط بين الجنسين، أو تحريم المصافحة.
ولأن الأصولي الإسلامي مهووس بالجنس إلى الحد الذي يصعب فيه الافتراق، كانت الجنسانية بالنسبة إليه مدعاةً لإباحة التعدّد تعبيراً عن فحولته الدنيوية، وكذلك التمتع بما لذّ وطاب من الحور في الآخرة. فالأصولي عموماً ليس إنساناً زاهداً في السلطة أو متع الدنيا أو الجنس، بل هو في لا شعوره يكرّس ويعمل جاهداً على استعادة صورته الذكورية "الطبيعية"، ويحاول مقاومة كل ما يمس بهذا اللاشعور الجمعي.
ذكرت أيضاً أن هناك مجموعة من الفتاوي الجنسية، والتي ظهرت كنتاج للتفاعل المستمر بين الأصولية من ناحية، والحرمان الجنسي من ناحية أخرى. هل من الممكن أن تذكر لنا بعضاً من تلك الفتاوى، وأن توضح لنا الرابط بين الأصولية والحرمان الجنسي فيها؟
إن الجنس وإنْ كان ذلك الممنوع غير المرغوب فيه لدى الكثير من صنّاع الفتوى أو تجّار الدّين، إلا أنّ الاهتمام به، وإعادة تشكيله، وترسيمه في العقل المسلم بوصفه الإثم الكبير، والذّنب الذي لا يغتفر، يعتبر مؤشِّراً حقيقياً على ما أكّدنا عليه سابقاً، من كون الأصولية الدّينية هي تعبيرٌ عن حرمان جنسي.
والنّاظر في شكلِ هذه الفتاوى، من غضّ البصر إلى تحريم الاختلاط وعدم جواز السّفر دون محرم، وحرمة المصافحة يتبيّن له بأنّنا بإزاء سطحية في التّفكير مقيّدة بحدود النصّ، وهما سمتان تمتاز بهما منتجات سوق الفتاوى الجنسية بشكل عام، ولكنّ الفتوى الجنسية تمتاز بصفة أخرى، هي الهاجس المَرَضي من انتشار الفحشاء في المجتمعات المسلمة، مع الإصرار على المؤامرة التي يحيكها الغرب ضدّ المسلمين، ومن الفتاوى المهمة في هذا السياق، فتوى رضاع الكبير، وفتوى حرمة خلع الملابس أثناء المعاشرة الزوجية، وفتوى ختان الإناث، وفتوى عدم جواز الجلوس على كرسي كانت تجلس عليه امرأة إلا بعد مضي 5 دقائق تقريباً، وفتوى حرمة مصافحة المرأة، وفتوى حرمة نظر الشخص إلى أعضائه التناسلية لأنها تثير الشهوة وتحرّك الغريزة.
معظم هذه الفتاوى التي ذكرتها، إنما تعود إلى شيوخ من مؤسسة الأزهر في مصر. هل ترى أن الأزهر بات يعبّر عن الأصولية الدينية؟ وكيف يمكن أن نتفهم ذلك في ظل كل الفوارق العقائدية والفقهية التي تفصل بين الأزهر وبين الخط الحنبلي الوهابي المتشدد؟
الحديث عن الأزهر أو التركيز عليه لا يعني تبرئة غيره من المؤسسات الدينية، ولكنها ضرورات البحث التي تستوجب التضييق والحصر. أما كونه يعبّر عن العمق الوهابي فهذا أمر وارد ومؤكد. وهنا يمكن أن نتحدث عما أورده أحمد صبحي منصور في تحليله للعقيدة الوهابية. فقد تحدَّث عن حاجة عبد العزيز مؤسِّس الدولة السعودية الثالثة لضمِّ مصر إلى الوهّابية، وذلك من خلال رؤية تتمسَّك بالأيديولوجية الوهّابية، والتسلّل من خلالها إلى مِصْر، لتكون مصر عمْقاً استراتيجياً للسعودية، وتستطيع من خلالها السيطرة على العالم الإسلامي. هذا التحوّل بدأ لمّا فشلت حركة محمد عبده في القيام بدورها الإصلاحي، بعد أن أجهضها تلميذه محمد رشيد رضا.
فقد أثْمَرَ التّحالف بين محمد رشيد رضا والملك عبد العزيز في نشر المذهب الوهابي، بعد أنْ سيطر عبد العزيز على الحجاز، وعمل على نشر الفكر الوهابي في البلاد العربية القريبة منه، والتي كانت مصر في مقدمتها بطبيعة الحال.
ولكن، إذا كانت الأصولية الدينية تختزل المرأة، في كونها مجرّد أداة للمتعة الجنسية، فكيف نفسر إقبال قطاع كبير من النساء على الانخراط في بعض الحركات الأصولية المتشددة؟ وكيف نفهم إقبال الكثير منهن من ذوي الخلفية الغربية الحداثية على الانضمام لتنظيم داعش على سبيل المثال، خصوصاً أن بعضهن يتمتع بمستوى تعليمي عال؟
قضية الانضمام إلى تنظيمات متشدّدة لا يمكن أن تفهم حصراً في أنها تعبير عن حرمان جنسي، وإن كان موضوع الجنس من الأمور المركزية المتعلقة به، ولكي نفهم قضية الاستقطاب والرغبة في التطرّف والعنف من طرف النساء ومن مستويات متعددة، لابد من استحضار ما أكد عليه جيرارد برونر عندما ذكر في أحد كتبه "أنْ تكون متطرِّفاً ليس معناه أنْ تكون مجنوناً، أو محروماً اجتماعياً، أو مقموعاً سياسياً أو عاطفياً، بالرّغم من أهمية هذه الشّروط لتشكيل حاضنة يؤسِّس عليها العقل قابليته للتطرّف".
ما ذكره برونر ينسحب على مجموعة من المتطرّفين من جهاديي القاعدة وداعش والإخوان المسلمين، إلى هواة التّجميع القهري للعاديات والصّور المستعملة، إلى عاشقي بعض الفنّانين المعاصرين.
السمة المشتركة بين هؤلاء جميعاً، هو أنهم قادرون على "التّضحية بأثمن ما عندهم (وظائفهم، حرّيتهم...)، ولاسيّما حياتهم، وفي كثير من الحالات حيوات الآخرين أيضاً، باسم فكرة"، وهو أمر تشترك فيه النساء مع الرجال، ويجتمع فيه المتعلّمون مع الأميين، وأبناء الطبقة الاجتماعية الغنية مع نظرائهم من أبناء الطبقة الفقيرة والمُعدمة، ومن ثم فلا غرابة أن نجد الكثير من النساء المتعلمات يلتحق بداعش أو بغيرها من جماعات الأصولية الدينية.