محمد شعبان:
عندما كثرت الفتن السياسية في مصر وزادت الأزمات الاقتصادية، لم يجد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (1029- 1094) بُداً من الاستعانة بوالي عكا، القائد الأرمني الأصل بدر الدين الجمالي (1015- 1094)، للقضاء على الفوضى.
لم يمانع والي عكا من تلبية نداء الخليفة، لكنه اشترط أن يأتي بجنوده، وألا يستعين بأي جندي من مصر، ووافقه المستنصر على ذلك، حسبما ذكر أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور أيمن فؤاد لرصيف22.
وسنة 1073، جاء الجمالي بجيشه واستطاع القضاء على الفوضى، وآلت إليه مقاليد الحكم الفعلية، وتولى منصب الوزارة، ولُقّب بـ"أمير الجيوش" وهو اللقب الذي أصبح يطلَق على مَن يتولى المناصب من الوزراء والعسكريين بعد ذلك.
وبحسب فؤاد، قام الجمالي بإصلاحات إدارية واقتصادية عدّة، وطبّق إجراءات لإعادة الأمن فبنى سور القاهرة وقام بتحصين العاصمة، حتى آلت الأمور إلى الهدوء.
الوشاية بـ"خيروستوذولو"
لم يكن الجمالي بعيداً عن المشهد القبطي آنذاك، فارتبطت به حكايات ومواقف كثيرة أبرزت قربه مما يدور في أروقة الكنيسة المصرية، إلى درجة أن بعض المؤرخين قالوا إنه كان مسيحياً ولكنه أخفى ذلك حفاظاً على نفوذه، في حين تُظهر مواقف أخرى نقمته على البطريرك وانحيازه ضد الأقباط.
يروي القس منسى يوحنا في كتابه "تاريخ الكنيسة القبطية" أن الجمالي قبض على زمام السلطة في مصر في عهد البابا السادس والستين خيروستوذولو (1047-1078)، ومرةً وشى له أحد المسلمين بأن فكتور، مطران النوبة (كانت خاضعة للكنيسة المصرية)، أمر بهدم جامع للمسلمين هنالك، فغضب وأمر بالقبض على البطريرك وألقى عليه تبعة ذلك العمل، ولكن البطريرك برهن له على فساد التهمة، فأطلقه وأخلى سبيله.
وحدث أن "هرب أحد العصاة من وجه الجمالي إلى بلاد النوبة، فكلف البطريرك (خيروستوذولو) بأن يبعث أسقفاً من قبله إلى ملك النوبة يطلب منه تسليم ذلك الثائر، فأجاب البطريرك طلبه وعيّن لذلك أسقفاً يدعى مركوريوس، سار مع مندوبين من قبل أمير الجيوش، وبلّغوا الطلب لملك النوبة فقبض على ذلك الرجل وسلمه إليهم وجاؤوا به إلى القاهرة"، روى يوحنا.
وفي وشاية أخرى لدى الوزير، قيل له إن "كيرلس مطران الحبشة يغرر بالمسلمين هناك ويدعوهم إلى شرب الخمر عند تناول الطعام، فقبض الجمالي على البابا خيروستوذولو بصفته رئيساً لذلك المطران، ليعاقبه عوضاً عنه".
ولحسن الحظ، كما يروي يوحنا، لم يكن كيرلس المذكور قد رُسّم مطراناً بعد، فدفع البابا عنه التهمة، وتعهّد بأن يرسل له الأنبا مركوريوس لتتميم رسامته ونصحه بأن يكف عمّا يفعله، إنْ كان ما شاع صحيحاً، فاقتنع الجمالي وأطلق سراحه.
كيرلس الثاني وملك النوبة
بعد وفاة خيروستوذولو عام 1078، تولى البابا السابع والستون كيرلس الثاني البطريركية في نفس العام في عهد خلافة المستنصر. وعقب رسامته بقليل، تنازل سلمون ملك النوبة عن الملك لابن أخته المدعو جرجس، وآثر العزلة والانفراد في دير أبو نفر السائح الواقع بين حدود مصر والنوبة، متفرغاً للصلاة والعبادة.
لم ينفرد سلمون بنفسه كثيراً، إذ حاصره أهل أسوان طمعاً في ضم الدير إلى مصر، وأخذوه أسيراً وأتوا به إلى الجمالي، فقابله البطريرك وكبار الأقباط باحتفال عظيم ولقي من أمير الجيوش إكراماً زائداً، وخصص قصر لإقامته، وبقي في مصر حتى توفى ودُفن في دير الخندق المعروف الآن بدير الأنبا رويس بالقاهرة، حسبما روى يوحنا.
وأثناء إقامة سلمون في مصر، تبادل البطريرك معه الزيارات واحتفى به وجهاء الأقباط، وكان وجوده بينهم سبباً في رفع شأنهم عند أكابر الدولة وعظمائها لا سيما أمير الجيوش الذي لما شاهد علامات الإخاء بين الأقباط والنوبيين وكذلك أبناء الحبشة (إثيوبيا) رغب في عقد معاهدة مع ملوك هاتين الأمتين لتسهيل طرق التجارة بينهما وبين مصر.
وبحسب يوحنا، كاشف أمير الجيوش كبار الأقباط بما يكنّه في صدره وطلب منهم بذل الجهد في مساعدته، فلبوا طلبه وشرعوا في الاتصال مع ملوك الحبشة والنوبة بواسطة البطريرك، حتى تحققت رغبة الجمالي الذي منح البطريرك مالاً يستعين به على إصلاح الأديرة والكنائس المخرّبة.
وظائف وألقاب
تروي إيزيس حبيب المصري في كتابها "قصة الكنيسة القبطية/ الجزء الثالث"، أن منزلة البابا زادت ارتفاعاً لدى الخليفة ولدى الجمالي، وشمل التقدير كل القبط، فتقلد عدد منهم الوظائف العالية في دواوين الحكومة، وكانوا في ذلك العهد قد تمكنوا من اللغة العربية.
ولم يفز الأقباط بالوظائف فحسب، ولكن أيضاً بألقاب التقدير التي كان الخلفاء في تلك الأيام يطلقونها على مَن يعرفون فضلهم، ومنها "الرئيس" و"هبة الله" و"الأمجد" و"الأسعد" و"الشيخ" و"نجيب الدولة" و"فخر الدولة".
ولم يقتصر الأمر على ذلك. ذكر الدكتور عزيز سوريال عطية في "موسوعة تراث القبط"، أن البابا كيرلس الثاني جعل مقر إقامته في حصن كنيسة القديس ميخائيل في جزيرة الروضة بالقرب من حي مصر القديمة ذي الكثافة السكانية القبطية، كذلك استأنف الأقباط احتفالاتهم الدينية العامة التي كان الحاكم بأمر الله (985-1021) قد أوقفها، وأخذت الدولة تشارك فيها رسمياً.
في القرن 11، شهدت مصر فتناً سياسية واضطرابات، فاستعان الخليفة الفاطمي المستنصر بالله بوالي عكا بدر الدين الجمالي للسيطرة على الأمور... وبسبب علاقته الجيدة بالأقباط، قال البعض إنه مسيحي مستتر بالإسلام
"كان العصر الفاطمي العصر الذهبي للمسيحيين في مصر. فالفاطميون كانوا براغماتيين، استفادوا من خبرات المسيحيين بدلاً من الاستعانة بالمسلمين السنّة، وظهر ذلك بشكل واضح في عهد بدر الدين الجمالي"
مساجد "الحبشة"
رغم هذه الامتيازات، وقعت بعض المناوشات بين الجمالي والبطريرك على خلفية بعض الأحداث، منها ما رواه يوحنا من أن شخصاً يُدعى كيرلس انطلق إلى بلاد الحبشة وادّعى أنه مطرانها وتسلط على كنائسها، ولما بلغ أمره البابا كيرلس الثاني حزن وقصد أن يقيم أسقفاً شرعياً يدعى ساويرس، ويرسله إليها.
بيد أن أمير الجيوش رفض ذلك وأبى أن يرخص له بسفر المطران إلا إذا وعده ببناء خمسة مساجد في الحبشة، وبإرسال المطران كل سنة هدية، فرضح البطريرك، وسار ساويرس إلى الحبشة فهرب من وجهه كيرلس إلى بلدة دهلك (جزر في البحر الأحمر قبالة سواحل إريتريا)، وبلغ أمره أمير الجيوش فاستقدمه إليه وأخذ كل ثروته وقتله.
إنصاف البابا
في موقف آخر، وجد الجمالي نفسه حكماً بين البابا وأساقفة أرادوا الإطاحة به من منصبه. روى يوحنا أن الأسقف "يوحنا بن الظالم" تحالف مع أربعة أساقفة هم أخيه مرقس، أسقف سمنود، ويوحنا أسقف دميرة، وخائيل أسقف أبي صير، ومقارة أسقف القيس، ومعهم الشماس أبو غالب أحد أعيان مصر المشهورين، وتواطأوا على عزل البطريرك.
وبحسب المصري، أعرب الأساقفة عن استيائهم من بعض الرجال المحيطين بالبابا، وطالبوا بإبعادهم.
وفي سبيل ذلك، كتبوا تقريراً يطعن في حق البابا وطالبوا بعزله وقدموه للجمالي بواسطة رئيس بستانه وكان قبطياً يدعى "يسيب"، وكان البطريرك متغيباً حينئذ في الأقاليم يزور الكنائس ويتفقد الرعية.
فلما اطلع أمير الجيوش على التقرير، رأى أنه ليس له أن يحكم في الأمر من تلقاء نفسه، فأمر البطريرك بعقد مجمع من أساقفة الوجهين القبلي والبحري وكبار الأمة يرأسه أمير الجيوش ليبحثوا في الأمور المنسوبة إليه.
ولما تكامل الحضور انعقد المجمع في قطعة أرض خارج القاهرة، ثم وضع الكتاب المقدس في الوسط، وقدم "ابن الظالم" تقريره الذي يتهم فيه البطريرك بتهم شنيعة، فقام البابا وفنّد كل تهمة تفنيداً لا يدع مجالاً لمدّع، فاقتنع الجميع وعلى رأسهم أمير الجيوش ببراءة البطريرك ووقف وسط المجمع ووبخ الأساقفة على هذا التنابذ، ثم حثهم على الخضوع لرئيسهم والإخلاص له وطلب منهم أن يطلبوا منه العفو، فتصافح الجميع أمامه، ثم أمر بقطع رأس عامل بستانه الذي سعى بالشر ضد بطريركه، ذكر يوحنا.
وفي ما بعد، اشتغل البابا كيرلس بوضع قوانين جديدة للكنيسة سارت عليها إلى ما بعد وفاته بزمن، واهتم أيضاً بإصلاح الكنائس وتفقد الفقراء.
المسيحيون الأرمن
الواضح أن الجمالي لم يكن على علاقة جيدة بأقباط مصر فقط، وإنما أيضاً بالمسيحيين الأرمن، وهذا ما لفت إليه أيمن فؤاد في كتابه "الدولة الفاطمية في مصر/ تفسير جديد"، إذ ذكر أن غالبية الجنود المصاحبين لجيش الجمالي الذي جاء به إلى مصر كانت من الأرمن المسيحيين، وبعد استقرار الأوضاع في مصر، خصص لهم حي الحسينية شمال القاهرة ليكون سكناً لهم، كما خصص لهم كنيسة في حي الخندق (العباسية) في القاهرة ليقيموا فيها صلواتهم.
وبعد وصولهم بقليل، وصل بطريركهم واسمه أغريغوريوس فاستقبله الجمالي استقبالاً حافلاً، وأنزله في كنيسة مار مريم في أرض الزُهري (السيدة زينب الآن)، بحسب فؤاد.
ومارس هؤلاء الأرمن طقوسهم الدينية بحرية تامة حتى أن ابن ميسر تاج الدين محمد بن علي ذكر في حوادث سنة 1136 الواردة في كتابه "المنتقى من أخبار مصر"، أن الأرمن تمادوا في إعلان عقيدتهم وفي بناء الكنائس والأديرة، حتى صار كل رئيس من أهله يبني كنيسة، وخاف أهل مصر من أن يغيّروا قناعات المسلمين.
جدل حول الديانة
ربما كانت العلاقة الجيدة بين الجمالي وبين المسيحيين سبباً لإشارة البعض إلى أنه كان مسيحياً، فذكر يوحنا في كتابه أن أمير الجيوش "لم يكن مسلماً بل مسيحياً، وإنما أظهر التحيز للإسلام حباً في بقاء سلطانه مرفوع الشأن".
وبحسب يوحنا، روى المؤرخ أبو المكارم سعد الله (1149-1209) أن الجمالي مات مسيحياً لكونه دفن في البساتين بحلوان بجوار الكنيسة الأرمنية.
كذلك ذكر عطية في موسوعة "من تراث القبط" أن الجمالي "مسيحي من أصل أرمني، يفضل الأقباط، وكذلك استقدم آلافاً من العائلات الأرمنية لكي تعيش في مصر".
غير أن فؤاد ذكر لرصيف22، أن ما ورد في بعض المراجع من أن الجمالي كان مسيحياً وأنه أخفى ذلك غير صحيح على الإطلاق، وربما قيل ذلك لأنه جاء على رأس جيش غالبيته من الأرمن، أو بسبب أصوله الأرمنية، لكن من المؤكد أنه قبل أن يأتي إلى مصر كان مسلماً.
وبحسب فؤاد، كان العصر الفاطمي العصر الذهبي لـ"أهل الذمة" في مصر، لأنهم حازوا على مناصب وزارية وترأسوا الدواوين، فالفاطميون كانوا "براغماتيين" استفادوا من خبرات المسيحيين بدلاً من الاستعانة بالمسلمين السنة، وظهر ذلك بشكل واضح في عهد الجمالي وقد يكون ذلك سبباً في إشارة بعض المراجع إلى مسيحيته.
ويصف رئيس مركز الدراسات القبطية في مكتبة الإسكندرية الدكتور لؤي محمود سعيد ما ذكر عن مسيحية الجمالي بأنه "غير صحيح بالمرة"، وذكر لرصيف22 أن شخصيات عدة وردت في كتب تاريخ كتبها مؤرخون مسيحيون وذُكر أنها "تنصّرت"، مثل الحاكم بأمر الله الذي اضطهد المسيحيين وهدم كنائسهم ومنعهم من الاحتفال بأعيادهم، لكن بعض الكتب تقول إنه في النهاية أحس بتأنيب الضمير فأعاد لهم ممتلكاتهم "ثم تنصّر".
وعلى خلفية ما يسمى بـ"معجزة نقل جبل المقطم"، قيل نفس الكلام، فبعض المؤرخين قالوا إنها حدثت في عهد الحاكم بأمر الله، وقال آخرون إنها حدثت في عهد المعز لدين الله الفاطمي (932-975)، وذكرت بعض الكتب المسيحية أنه "تنصّر" بعدما رأى المعجزة، بحسب سعيد.
وبرأي سعيد، لا يوجد ما يشير إلى احتمالية أن يكون الجمالي مسيحياً، فلم يكن مثلاً ضد الأقباط ثم انحاز لهم، أو اضطهدهم ثم أحسن معاملتهم، كما أن هذا الأمر لم يشر له أي مؤرخ معاصر له، ولم يرد في أي مصدر تاريخي آخر غير بعض الكتب القبطية التي لا يمكن الركون إليها.
وبحسب سعيد، كان من بين أسماء الجمالي "أمير الجيوش" و"كافل قضاة المسلمين" و"سيف الإسلام" وكلها أسماء تحمل اعتزازاً بإسلامه وغزواته، وهو ما يتناقض مع ما ورد في بعض الكتب القبطية.
رصيف 22