محمد المحمود:
تتكرر المشاهد والأخبار المأساوية التي تحكي عن قتل النساء على أيدي أقرب أقربائهن في المجتمعات الذكورية الشرق أوسطية. ففي الأردن وفلسطين وسوريا والسعودية والعراق وباكستان وإيران ومصر، وغيرها، لا تغيب أخبار قتل النساء بدافع "غسل العار"؛ إلا ريثما تعود، ولا تكاد تغيب إحدى هذه الجرائم عن الذاكرة قليلا؛ إلا وثمة جريمة أخرى من نوعها هي أبشع وأشنع تتصدر المشهد الإخباري والتواصلي/ التداولي.
قبل بضعة أيام، كانت إحدى هذه الجرائم موضوع تداول إعلامي واسع، محفوفٍ بغضب واسع أيضا؛ ربما لأن الجريمة لم تكن قتلا فحسب، وإنما كانت تعذيبا في سياق مشروع قتل، وعززه روايات بعض الشهود التي نقلت صفحات من الحدث الأليم.
تكاد قلوب ذوي الضمائر الحية تحترق ألما وأسفا على ما حدث ويحدث في هذا المجال. إذا كان الصامتون كثير، فثمة قلة آمنوا بأن الصمت جريمة، وهم في كل مناسبة يدقون ناقوس الخطر؛ بغية اتخاذ بعض الإجراءات التي يمكن أن تحد من هذه الظاهرة اللاإنسانية، ولكن لا حياة لمن تنادي؛ كما يقال.
يتكرر الحدث/ الجريمة، ولا شيء حدث، ومبعث هذه اللاّمبالاة المجتمعية ثقافي بالتأكيد، أي هو يرجع لكون هذه الظاهرة ذات جذور راسخة في الثقافة الذكورية التي يدين بها المجتمع الشرق أوسطي من حيث يدري أو لا يدري. فهو وإن استنكرها قليلا، أو استنكرها ظاهرا؛ فهو يشعر في أعماقه أنها جريمة مُبرّرة على نحو ما، أي على نحو لا يجعل منها جريمة تعادل جرائم القتل الأخرى التي تستحق الغضب الشعبي، كما تستحق أقسى عقوبات النظام!
جريمة الشرف التي تطال النساء في الأغلب الأعم (بعض الإحصائيات تصل بالنسبة النسائية إلى 93%)، تقوم على مبدأ "غسل العار"، من قبل ذوي قرابة المرأة. ففي المجتمعات الشرق أوسطية يرتبط شرف العائلة كلها بالسلوك الجنسي لأي امرأة تنتسب إليهم، وكلما كانت العلاقة أقرب؛ كان الشعور بالعار أشد؛ وبالتالي؛ واجب الأخذ بثأر الشرف ألزم. وفي الغالب لا يُشْترَط ـ عُرفا ـ للشروع في الجريمة التأكد من ارتكاب المرأة لخطأ أخلاقي (متحدد هنا في المسلك الجنسي) ولو كان خطأ واحدا، وإنما يكفي مجرد الشك والظنون لتقرير الإدانة، وهو ما يخضع في النهاية لتقدير أفراد العائلة، بل لتقدير فرد من أفرادها، إذ قد يقوم الأب أو الأخ ـ منفردا ـ بتقرير الإدانة بنفسه وفق ما يرى، ثم تأكيد الحكم بالإعدام بنفسه أيضا، ثم الشروع بتنفيذه بنفسه أيضا. فالتحقيق، والحكم، والتنفيذ، كلها مرتبطة بمزاج فرد واحد يتوهم أنه يمتلك حياة المرأة لمجرد أنه يرتبط معها بنسب ما.
يلاحظ أن هذه الجرائم المرتبطة بـ"غسيل العار" تنتشر في المجتمعات العشائرية، أي المجتمعات الموغلة في تقليديتها. فحتى داخل الدولة الواحدة تتزايد معدلاتها في المناطق التي تقطنها العشائر، بينما تكاد تنعدم في المناطق الأخرى ذات التاريخ المدني. ونجد في بعض البيئات أن هذا المسلك الجرائمي تحوّل إلى ما يشبه العُرف الاجتماعي الذي يجري تدعيمه بمزيد من الجرائم المماثلة، فضلا عن الأدبيات المصاحبة؛ بينما يقف رجال الدين (الذين يفترض فيهم مكافحته من منظور ديني، حيث أحكام الشريعة التي يبنون مشروعيتهم عليها لا تجيزه، بل تعده من شرائع الجاهلية الأولى)، ورجال القانون (الذين يفترض فيهم تشريع أقسى العقوبات لمرتكبيه)، على الحياد؛ هذا إن لم يُسَاهموا ـ بشكل غير مباشر ـ في استمراره؛ كرد فعل على ما يرونه انفتاحا غير مقبول في المجتمع.
ليست الخطورة في وقوع الجريمة فقط، فالجرائم تقع باستمرار، وبما هو أشنع، وإنما الخطورة في تبريرها اجتماعيا (وقانونيا من وراء ذلك)، فعندما تَقرأ التعليقات على جرائم الشرف/ غسل العار تجد أن كثيرين يحملون لها تبريرا مضمرا يظهر في فلتات اللسان. بعضهم يقلل منها بمقارنة العدد ببقية الجرائم (أو حتى بضحايا حوادث السير/ المرور!)، وبعضهم يقارن عدد الضحايا في مجتمعات العرب بعدد النساء اللاتي وقعن ضحايا عنف الرجال في أميركا وأوروبا مثلا. يقول أحدهم: لماذا تبالغون في غضبكم، إذا قُتِلت ـ بدافع غسل العار ـ خمسين امرأة مثلا في الأردن خلال عام، فإن هناك آلاف النساء الأميركيات اللاتي يُقْتَلن على أيدي رجال تربطهم بهن علاقة ما (زوج، عشيق، صديق...)، فلماذا تُضَخِّمون الموضوع؟
لا يخفى النَّفَس التبريري هنا، كما لا تخفى المغالطة التي تتعمد المقارنة بين مجتمعات متطورة نالت فيها المرأة حقوقها، وتمتعت بحريتها الكاملة، ومجتمعات أخرى لا تزال تعيش تقاليدها البالية المتخلفة التي ورثتها عن أسلافها في عمق عشرين أو ثلاثين قرنا من التاريخ. ليس فقط لا يمكن مقارنة بلد كالأردن التي يبلغ عدد سكانها 7 مليون نسمة تقريبا، ببلد كالولايات المتحدة التي يتجاوز عدد سكانها 330 مليون نسمة، وإنما ـ أيضا ـ لا يمكن المقارنة بينهما لأن مثل هذه الجرائم مدانة بالكامل على المستوى القانوني وعلى المستوى الاجتماعي في أميركا، بينما هي في الأردن تعامل بتسامح خاص قانونيا، وغير مدانة اجتماعيا في الغالب الأعم. وهنا الكارثة التي تطال المبدأ الإنساني/ مبدأ المساواة الإنسانية الذي يجري انتهاكه هنا بحق النساء لصالح تحيّز ذكوري صارخ.
إن الأوضاع والملابسات التي تحف بالجريمة قد تكون أشد جرما من الجريمة ذاتها. قد يُقْتل ألف إنسان في معرض اشتباكات حربية، فلا يثير هذا الأمر رعبا كما لو تعمّد أحد الأطباء قتل مريضه، أو أحد الآباء قتل وليده. جريمة إرهابية تقتل شخصا واحدا على متن طائرة، أو في محطة قطار، تبعث من الرعب ما لا تبعثه جثث عشرات الجنود؛ لأن الأمر متعلق بانتهاك توقعات الأمن للبشر المسالمين. ولهذا، فقتل فتاة على يد أبيها أو أخيها مرعب جدا؛ لأنه عدوان ينتهك أكثر فضاءات الأمن حميمية، بينما لو أن هذه الفتاة ذاتها قُتِلت في مشاجرة عابرة، لم يكن لها مثل هذا الاعتبار الإنساني؛ فضلا عن كون الأب/ الأخ القاتل يحظى بعقاب مخفف جدا (قد يصل للسجن بضعة أشهر فقط)، بينما قاتلها الغريب سيجد في انتظاره أقسى العقوبات التي قد تصل حد الإعدام.
إن هذه الظاهرة لا تعكس واقعا مُلَوّنا بالعنف؛ كما تبدو في تمظهرها المباشر، وإنما تعكس ما هو أهم، إنها تعكس الواقع المزري للنساء في وعي/ ثقافة المجتمعات الشرق أوسطية. ليست الجريمة في واقعة القتل فحسب، وإنما واقعة القتل هي رأس جبل الجليد الذي يخفي تحته سلوكيات مجتمعية طافحة بانتهاك الحريات والحقوق النسوية على أكثر من مستوى، وليس القتل إلا الإعلان الأقسى والنهائي عن حالة الاضطهاد التي تطال الأغلبية الساحقة من النساء.
إن هذه الجريمة/ الظاهرة هي جزء من جريمة أكبر، هي حلقة في سلسلة حلقات متلاحقة ومتعاضدة في تأكيد مقررها التبخيسي الاضطهادي بحق النساء. هذه القضية هي جزء من كل، ويجب أن يأخذها المعنيون بحقوق الإنسان عامة، وبحقوق النساء خاصة، على هذا الأساس، أي على أنها جزء من كل. وأي حل يحاول نزعها من سياقها الكلي (بما في ذلك السياق الأعم: التخلف، والقهر الاجتماعي، والبنية العشائرية، والتراث المتحيز...إلخ) سيبوء بالفشل لا محالة؛ لأنه سيعالج أعراضا ويترك أمراضا، سينبذ الثمر ويحتضن الشجر، سيُشْغل بالنتائج عن الأسباب.
لهذا، لا بد من حملة ذات منحى فكري وتنظيمي/ قانوني طويلة الأمد، حملة تُسَائل الثقافة وتعيد تنضيد مقولاتها الرئيسية وفق أحدث وأرقى مسارات التحضّر؛ كما تسائل البنية القبلية/ العشائرية السائدة وتشرع في تثبيت الحضور المدني. فاليوم لا يشك أحد في أن تفكيك بنية القبيلة وحلحلة النظام العشائري هو أحد الحلول الجذرية/ بعيدة المدى لمثل هذه السلوكيات التحيزّية التي ليست قضية المرأة بأكملها إلا فرعا على أصلها.
وفي هذا المجال، لا بد أن يكون للتعليم دور محوري في جَمْهَرة الرؤية التنويرية المدنية التي تكافح كل صور التحيز والإقصاء. لا يكفي أن يقف التعليم ـ كما هو في أحسن أحواله اليوم ـ على الحياد من هكذا قضايا، بل لا بد أن يكون طرفا في تعزيز الوعي الإنساني بها من خلال رؤية تنويرية أوسع وأشمل، بحيث يتمدد الوعي بها من خلال التعليم إلى الفضاء الجماهيري العام.
أيضا، لا بد ـ كإجراء عاجل ومباشر ـ من سن قوانين رادعة لمثل هذه الجرائم، لا بد أن تكون عقوبات هذه الجريمة "غسيل العار" كعقوبة جرائم القتل الأخرى، إذ ليس من المعقول أن يقتل الأخ أخته ـ تحت بند جريمة شرف ـ ثم لا يكون عقابه ـ في بعض الدول ـ أكثر من ثلاثة أو أربعة أشهر يقضيها في السجن، ثم يخرج منه ـ كما يقال عنه ـ مرفوع الرأس.
كما لا بد من سن قوانين أخرى، تضبط علاقة المرأة بأسرتها أولا، وبزوجها لاحقا، وتمنحها كل صور الحماية وكل فضاءات الحرية التي تجعل منها ذاتا مستقلة، متفردة، فما تعززه القوانين والأحكام القضائية وتؤكده بحسم، يتعزز ـ بمرور الأيام ـ في الوعي العام، ويصبح ثقافة عامة حتى لغير المتعلمين. سيصبح ما كان قسرا وإكراها بقوة القانون/ النظام/ سلوكا طبيعيا بديهيا يأته الفرد طوعا؛ لأنه تطبّع به، ولا يخطر في باله تجاوزه إلا على سبيل العدوان الصريح الذي يعترف فيه المجرم بجريمته في انتهاك حقوق الآخرين.
أخيرا، لا بد من تعزيز حضور المرأة في الفضاء العام، عملا وتعاملا، لا بد أن تكون عضوا فاعلا متفاعلا على مستوى الحضور المباشر العيني الذي يهدم التصورات الثقافية السلبية الموروثة. فثمة قناعات لا تتزعزع إلا تحت مطرقة الوقائع وضروريات الحياة اليومية التي لا بد أن تكون المرأة منخرطة فيها على كل المستويات. مثل هذا الحضور كفيل بتفكيك تصورات الحراسة/ حراسة الفضيلة، بعد أن تكون الحراسة ذاتها ـ أي على مستوى الاشتغال الواقعي بمراقبة المرأة ـ في حكم المستحيل.