هل انتهى الإسلام السياسي في الجزائر؟ - Articles
Latest Articles

هل انتهى الإسلام السياسي في الجزائر؟

هل انتهى  الإسلام السياسي في الجزائر؟

دالية غانم:

 

مقدّمة

بدءاً من شباط/فبراير 2019، تدفق آلاف، ثم لاحقاً ملايين، الجزائريين للإعراب عن سخطهم على رئيسهم المريض عبد العزيز بوتفليقة (82 سنة)، الذي سعى إلى التربُّع على سدّة ولاية خامسة. وبعد أسابيع صاخبة من الاحتجاجات السلمية والمنظّمة، استقال الرئيس المُخضرم في نيسان/أبريل قبيل إجراء الانتخابات الجديدة المُقررة. وفيما تتوالى "معركة الجزائر" هذه فصولاً، عَمَدَ بعض المراقبين الجزائريين والأوروبيين إلى التحذير من أن الإسلاميين قد يحاولون التسلُّل إلى حركة الاحتجاج. كان هؤلاء يخشون من أن الإسلاميين قد يعيدون الكرّة لإنتاج الظروف التي سادت خلال التسعينيات، حين استغلّت الجبهة الإسلامية للإنقاذ الانفتاح الديمقراطي في البلاد العام 1989 للدعوة إلى إقامة دولة إسلامية. وما لبث العنف الجهادي أن انفجر، بعد أن علّق الجيش العملية الانتخابية في 1991، وانحدرت الجزائر إلى أتون حرب أهلية مديدة (1991-2001).

بيد أن هذه المخاوف المُتجددة لا تأخذ في الاعتبار التغييرات الاجتماعية- السياسية العميقة التي شهدتها البلاد منذ أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، خاصة منها إرث النزاع، والصدمة التي تمخضت عنه، والتحوّل الذي طرأ على الحركة الإسلامية الجزائرية منذ ذلك الحين. ثم أن الإسلاميين ليس لهم عملياً دور في التعبئة التاريخية التي هزّت النظام الجزائري خلال الشهرين الأخيرين، ولم تنضم الأحزاب الإسلامية إلى الحراك الشعبي إلا في وقت لاحق ومتأخر. ومنذ الأسبوع الثاني من المظاهرات، دأب المواطنون على الدعوة في وسائط التواصل الاجتماعي إلى الاحتراس من "اختطاف" هذا الحراك، خاصة من جانب الإسلاميين. والحال أن المجتمع الجزائري أصيب بجراح عميقة لماّ تندمل بعد، جراء أعصار العنف الذي خلفته وراءها جبهة الإنقاذ في حقبة التسعينيات. لكن اليوم، كما قال أحد المحتجين، "تلقّحنا ضد جبهة الإنقاذ وضد مغالاتها وتجاوزاتها".

نجحت الحكومة الجزائرية، في أعقاب الحرب الأهلية، في تحييد التجليات الجهادية الأكثر تطرفاً في الإسلام، عبر مزيج من المقاربات الناعمة والخشنة، زاوج بين الوجود العسكري القوي على الأرض والقتال ضد الجماعات المسلحة، وبين إجراءات تصالحية تستهدف نزع سلاح المتطرفين السابقين، وتسريحهم، وإعادة دمجهم في المجتمع.

صحيح أن الحكومة حقّقت تقدّماً، إلا أنه من المبالغة القول أن صفحة الإسلام السياسي في الجزائر طويت وانقضى الأمر. لا شك أنه تم بالفعل إعادة تأهيل آلاف الجهاديين السابقين، وأن النشاط الجهادي انحسر على نحو ملموس وتراجع معه عدد ضحايا الهجمات الإرهابية، إلا أن مخاطر الجهاد العنفي لم تتبدّد تماما. فالهجمات من قبل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين وفروعهما، لم تزل إمكانية واردة. وعلى رغم أن معظم الجزائريين يدينون عنف هذه الجماعات الجهادية ولا يدعمونها، إلا أنه مع استمرار ابتلاء البلاد بقضايا الإقصاء السياسي، والتهميش الاقتصادي واللامساواة الاجتماعية، والقمع، ونوبات العنف، سيكون هناك بعض الناس الذين سيرتكبون خطأ الوقوع في إغراءات النزعة الجهادية واعتناق أفكارها.

جدير بالذكر هنا أن نفوذ السياسيين الإسلاميين في الجزائر وَهَنَ، كما دلّ على ذلك بوضوح عداء المواطنين العاديين لممثلي الإسلام السياسي المعتدل. على سبيل المثال، أبعد المتظاهرون خلال الاحتجاجات الأخيرة عبد الله جاب الله، وهو قائد إسلامي مخضرم يرأس الآن حزب جبهة العدالة والتنمية الإسلامي، وهم يهتفون "Degage" )) أي "اخرج". كما جرى على نحو مماثل تهميش عبد الرزاق مقري، الذي يقود الحزب الإسلامي الرئيس في الجزائر (حركة مجتمع السلم) حين جوبه بلامبالاة الرأي العام. ويشي فقدان هاتين الشخصيتين القياديتين للشعبية بأن الأحزاب الإسلامية تفتقد بالفعل إلى المصداقية، والشرعية، والمساندة الشعبية.

نجحت الحكومة الجزائرية، بمعنى ما، عبر سماحها للأحزاب الإسلامية بخوض غمار السياسات البرلمانية وحتى الاشتراك في الإئتلافات الحكومية، في نزع فتيل التجسدات المعتدلة للإسلام السياسي. كانت مقاربة المشاركة التي انتهجها الإسلاميون المعتدلون منذ العام 1995 قد مكّنتهم من الحفاظ على البقاء وسمحت لهم بتوفير الكفاءة المهنية لكوادرهم. بيد أن هذه المشاركة السياسية مكّنت النظام أيضاً من استتباع هؤلاء وإفقاد المُعتدلين منهم شرعيتهم في أعين الرأي العام، وإعاقة قدرتهم على اجتذاب الناخبين. والآن، قلة من الجزائريين تصدّق سمعة الطهارة الدينية التي حاول الإسلاميون إسباغها على أنفسهم، أو الطوباوية الروحانية التي يَعدون بها. وبالتالي، من غير المحتمل أن تستعيد الأحزاب الإسلامية المصداقية في المستقبل القريب، أو أن يكون لها دور بارز في الحركة الشعبية التي أجبرت بوتفليقة على الاستقالة. الأرجح، بدلاً من ذلك، أن تواصل هذه الأحزاب المُستلحقة قبول قواعد اللعبة، مقابل أن يكون لها مقعد في عملية الانتقال التي يُشرف عليها الجيش.

صحيح أن استلحاق السياسيين الإسلاميين المُعتدلين عنى أنهم لم يعودوا يُشكلون تحدياً حقيقياً للنظام، إلا أن ثمة تمظهرات قاعدية أخرى للإسلام السياسي، على غرار "الدعوة السلفية"، بدأت تضرب جذورها في المجتمع. الدعوة السلفية هي شكل من السلفية الأكثر هدوءاً التي لا تنخرط، كحركة، في العمل السياسي جهاراً، ولا تهدف إلى إطاحة الحكم. لكن، على رغم سمعتها بأنها تدير ظهرها للسياسة، إلا أن العديد من أعضائها لهم آراء سياسية قوية ويعلّقون بكثافة على الأحداث السياسية. ولذا، ومع أن الدعوة السلفية لا تنغمس مباشرة في النشاطات السياسية، يساهم شيوخ الجماعة في الخطاب حول السياسات الوطنية والدولية. وكان الباحث جاكوب أوليدورت موفّقاً حين لاحظ أن "صمت الهادئين هو الفضاء الذي يُسمع فيه الصوت الإسلامي للناشطين السلفيين. أعمالهم السياسية هادئة، لكن صوتهم السياسي مُلعلع".

فيما تُعرض الدعوة السلفية عن المشاركة الرسمية في العمل السياسي، إلا أنها أصبحت الآن الحركة الإسلامية المُجتمعية الرئيسة في الجزائر ونفوذها يتنامى باطراد. فالجزائريون يُجددون السياسات الإسلامية من القاعدة إلى القمة. وفيما يدرك الإسلاميون في البلاد أن تأسيس خلافة إسلامية في الجزائر هو أمر بعيد المنال، لا زالوا غير مُستعدين لتنحية هدف أسلمة المجتمع ككل جانباً، أو تبني توجهات تعددية في الفضاء العام. وحتى نيسان/أبريل 2019، لم تكن الدولة الجزائرية قد حيّدت تماماً تحدي الإسلام السياسي، وهي تعترف بأن الإسلاميين لا زالوا جزءاً من المشهد الاجتماعي – السياسي، وسيبقون كذلك في المستقبل المنظور.

الآن، يؤدي التفكّر بالكيفية التي تعاطت فيها الحكومة الجزائرية مع الإسلام السياسي في الماضي، إلى فتح نافذة مهمة نُطل منها لاستقراء المسار الذي قد ينتهجه النظام ومختلف الجماعات الإسلامية في المرحلة التالية من هذا المشهد السياسي المُلتبس.

ولادة الإسلام السياسي في الجزائر

ترجع جذور الإسلام السياسي في الجزائر إلى عشرينيات القرن العشرين، وإلى الحركة الإصلاحية التي تزعمها علماء مثل عبد الحميد بن باديس. فقد دعا هؤلاء العلماء إلى العودة إلى أصول الإسلام من خلال تنقيته من الشوائب التي لحقت بالإيمان جرّاء نفوذ المرابطين المُفسد المفترض والمعتقدات الصوفية، وأيضاً من خلال الحفز على التعريب. وفي العام 1931، شكّل هؤلاء العلماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهي جمعية دينية سبقت سعي الجزائر إلى تحقيق الاستقلال. وقد دعت هذه الجمعية إلى تنقية الإسلام وسعت إلى استعادة الثقافة الإسلامية الحقّة للشعب الجزائري.

السنوات المبكّرة الأولى

حصلت الجزائر على استقلالها العام 1962، وبعدها بعام أسّس الناشطون السابقون من جمعية العلماء المسلمين، كعبد اللطيف سلطاني والإصلاحيون الوطنيون، كالهاشمي التيجاني، جمعية تُدعى القيم الإسلامية. استندت هذه المنظمة، التي تُدعى اختصارا "القيم"، إلى أفكار المنظّر الإيديولوجي البارز في جماعة الإخوان المسلمين المصرية، سيد قطب، ودافعت عن القيم الإسلامية في الجزائر من خلال تبنّي الدعوة إلى أسلمة الحياة العامة.

حاول النظام الجزائري، في سياق جهوده لجبه الإسلاميين الذين شعروا بمرارة من طبيعة الدولة المستقلّة الجديدة التي كانت أبعد ما تكون عن الدولة الإسلامية التي حلموا بها، إضفاء مسحة من الشرعية الدينية على نفسه، فعمد قادة البلاد إلى إطلاق شعار الاشتراكية الإسلامية، وهو مفهوم هدفه مصالحة المبادئ الإسلامية مع خطاب الحكومة الرسمي المعتدل والعلماني. وهكذا، حاول الرئيس الأول للبلاد أحمد بن بلة وخلفه هواري بومدين الجمع بين الحداثة والتقليد، عبر التوجّه إلى الجماهير (الاشتراكية الشعبوية) والأمة الإسلامية (عبر الإسلام التقليدي).

بيد أن مثل هذه المقاربة لم تحظ برضى العديد من الإسلاميين. فقد نشرت "القيم" بياناً أعلنت فيه أن "أي نظام، وأي قائد، لا يعتمد على الإسلام، يُعتبر غير شرعي وخطر. فحزب شيوعي، وحزب علماني، وحزب ماركسي- اشتراكي، وحزب قومي، لا يمكن أن يعيشوا في أرض الإسلام". حينها، حظرت الحكومة الجزائرية جمعية القيم العام 1966، بعد أن بعثت الجماعة برقية تلغرافية إلى الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر تحثّه فيها على تأجيل إعدام سيد قطب. كذلك، كان للقيم تأثير مهم على الحركة الإسلامية في الجزائر، حيث كانت هذه المنظمة بوابة عبور للإسلاموية الراديكالية. إنها أرست قواعد ما سيحدث في الثمانينيات والتسعينيات. خلال تلك الفترة، نجح الإسلاميون في الضغط على الحكومة كي تسمح للمحافظين الدينيين بطرح أجندة للتعريب، ومارسوا نفوذاً وازناً في مدارس البلاد وبيروقراطية الدولة، كما أن أعضاء جماعاتهم تموضعوا كقضاة الأخلاق وأرباب الفضيلة في المجتمع الجزائري. نتيجة لذلك، اغتنم الإسلاميون فرصة دمقرطة النظام التعليمي الجزائري وسياسة التعريب التي انتهجتها الحكومة، لمضاعفة نشر إيديولوجيتهم. كان هؤلاء الإسلاميون طيلة السبعينيات والثمانينيات نَشِطين للغاية في الجامعات والمساجد، كما أنهم عبأّوا الطلاب لتحدي النظام وشجعّوهم على انتهاج درب العنف السياسي.

عمد النظام، في خضم جهوده لمواجهة اختراقات الجماعات الإسلامية هذه وأيضاً لتلميع ما يدعيه من شرعية دينية، إلى فرض وتعزيز إجراءاته التعريبية، وشجّع على بناء مساجد جديدة، كما عقد مؤتمرات حول الدراسات الإسلامية، وأقام معاهد إسلامية، وأصدر صحيفة اسمها الأصالة. علاوة على ذلك، منح النظام شخصيات دينية مُحددة قدراً واسعاً من الحرية في مجال الاجتهاد الديني، بشرط تجنّب أي انتقاد للنظام، وساعد على تلقين الجزائريين بأن الاشتراكية ليست سوى تلوين معاصر من ألوان العدالة الاجتماعية الإسلامية.

كان النظام يأمل من خلال هذه المظلّة الثقافية العامة أن يجعل من الأصعب على الإسلاميين معارضة حكمه، لكن هؤلاء كانوا في الحقيقة ينازعون أكثر فأكثر شرعية النظام الدينية. وهكذا، انقلب تعايش الحكومة مع الإسلاميين مراراً إلى مجابهات، أولاً في أواسط السبعينيات ومجدداً في أوائل الثمانينيات، وأخيراً طيلة التسعينيات، حين بلغ الصراع ذروته إبان الحرب الأهلية مع الجهاديين الإسلاميين.

من أوراق الاقتراع إلى لعلعة الرصاص

خلال هذه الفترة، كانت الحركة الإسلامية غير المُتجانسة تنطوي على العديد من الفصائل أو المدارس الفكرية. لكن، على الرغم من الطبيعة غير المُتبلورة لهذه الحركة والخلافات الداخلية التي عصفت بها، إلا أن فصائلها توافقت على استراتيجية عامة واحدة هي الدعوة والوعظ في المساجد والجامعات. وقد انتشرت أفكارهم على مدى الثمانينيات فتمنطق الإسلام السياسي بزخم جديد. ومع ترسّخ أقدامها في الجامعات في طول البلاد وعرضها، اجتذبت الحركة الإسلامية المزيد من الأنصار في صفوف عناصر الجيل الأول لما بعد الاستقلال الذين كانوا يشعرون بخيبة أمل من النظام التعليمي ومن افتقار فرص العمل. وهنا، أقنع الخطاب الإسلامي هذا الجيل بأن النموذج الغربي للتحديث الذي تبنته الدولة الجزائرية كان فاشلا، وبأن رؤاهم حول الإسلام السياسي توفّر نظاماً بديلاً يُعلي من شأن القيم العربية والإسلامية، ويزوّد المواطنين بوعي متسامٍ بالهوية. كما زعم هذا الخطاب بأنه يطرح حلولاً تؤدي إلى نمط حياة أفضل، وعدالة اجتماعية، وإعادة توزيع السلطة السياسية والثروة الاقتصادية.

على الرغم من أن هذه الشرائح المختلفة من الحركة اختلفت حول العديد من الأمور، فإن قادتها ومناصريها التقوا في العام 1989 لإنشاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ. أعطت هذه الجبهة للمرة الأولى الإسلام السياسي هيكلية تنظيمية أكثر رسمية، وانطلقت بعدها للعمل بكونها الخصم الأول للحكومة في الحرب الأهلية المديدة في البلاد. وقد عارضت الجبهة قادة الجزائر الذين اعتبرتهم مُستبدين وطغاة ومتمردين على مشيئة الله، ويتربعون على عرش ما اعتُبر ديمقراطية مُلحدة ولا دينية، لأنها لا تنبثق لا من التقاليد ولا من السنّة أو الشريعة.

مع ذلك، كانت هذه الديمقراطية المُلحدة نفسها هي التي استخدمتها جبهة الإنقاذ لمحاولة الوصول إلى السلطة. ففي الانتخابات المحلية في حزيران/يونيو العام 1990، حصدت الجبهة 54.3 في المئة من الأصوات في المجالس البلدية الشعبية و57.4 في المئة من الأصوات في المجالس الولائية. وفي الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الوطنية في كانون الأول/ديسمبر 1991، حصلت الجبهة على 188 مقعداً من المقاعد الـ231 مقعداً التي تنافست عليها في مجلس الشعب ، فيما كان يتعيّن التنافس على المقاعد الـ 99 الباقية من المقاعد الإجمالية للمجلس (430 مقعدا) في الجولة الثانية من الانتخابات التي كانت مُقررة في أواسط كانون الثاني/يناير 1992 لكنها لم تُجرَ قط. فقد ألغى الجيش الجولة الثانية قبل أيام قليلة من بدئها وبسط سيطرته بالكامل على البلاد. ثم جرى حظر جبهة الإنقاذ وقُذف بآلاف من مؤيديها إلى غياهب السجون. وحينها، طفت على السطح الانقسامات في صفوف الجبهة بين من واصل الالتزام مبدئياً بالانتخابات السلمية، وبين من يدعو إلى حمل السلاح.

لم ينتظر أولئك الذين حبذوا استخدام العنف ضد الحكومة وقف العملية الانتخابية قبل أن يستلوا سيف العنف من غمده، إذ هم شنوا هجوماً قاتلاً على منطقة ڨمار في تشرين الثاني/نوفمبر 1991 (قبل الجولة الأولى من الانتخابات في الشهر التالي) بقيادة محارب جزائري قديم في حرب أفغانستان. كذلك، أدى تعليق العملية الانتخابية وما تلاها من عنف عشوائي نفذّته قوى الأمن إلى المزيد من أعمال العنف. هذا السيل المندفع بسرعة للعنف، عزّز القناعة العميقة لدى الجناح المتطرف في الحركة الإسلامية بأن الاستراتيجية الوحيدة الممكنة هي استخدام العنف، وبأن المقاربة السياسية السلمية أثبتت أنها مسعى عقيم.

نتيجةً لذلك، تضخّمت أعداد الجماعات الجهادية في كل أنحاء البلاد، وكان أبرزها الجماعة الإسلامية المسلّحة (GIA). وقد تحالفت جبهة الإنقاذ (FIS) مع دعوة هذه الجماعة إلى الجهاد بوصفه الوسيلة الوحيدة القمينة بإقامة دولة إسلامية، وشكّلت قوة عسكرية أطلق عليها اسم الجيش الإسلامي للإنقاذ (AIS). بيد أن هذا الثنائي (FIS/AIS)، أي الجبهة الإسلامية للإنقاذ والجيش الإسلامي للإنقاذ، فشل على المستوى العسكري، لأنه أهمل العمل على احتواء العنف المتطرّف للجماعة (GIA) ضد المدنيين وضد أعضاء الجبهة نفسها. كما أنه (الثنائي) سجّل فشلاً مماثلاً على الصعيد السياسي، لأنه أثبت عجزه عن توحيد الإسلاميين الجزائريين ورفع الحظر التنظيمي عنه. وهكذا، وبعد عقد كامل من القتال، نجحت الدولة الجزائرية آخر الأمر في التغلّب على الجهاديين وأعادت فرض سلطتها.

المزاوجة بين المقاربتين الناعمة والخشنة لمحاربة النزعة الجهادية

أثبت هذا النصر أنه باهظ التكلفة. فالعنف العشوائي الذي مارسته قوات الأمن جاء بنتائج عكسية، وحفز العديد من الشبان الجزائريين على التطرّف العنيف، فالتحقوا بالجماعات الجهادية إما للحصول على الحماية، أو الاحترام، أو الانتقام. كما انضمّ أولئك الذين لطالما تجاهلتهم أو همّشتهم السلطة إلى جماعات على غرار الجماعة الإسلامية المسلحة. والحصيلة: سقوط قرى وبلدات برمتها في حضن هذه الجماعة التي طبّقت أصول الشريعة بحرفيتها، وأشرفت على إدارة الشؤون المحلية وسط انهيار هيكلية الحكم الرسمي بفعل الحرب.

بيد أن الدعم الشعبي للجماعة الإسلامية هَمَدَ في خاتمة المطاف، حين أصبح عنف هذه المنظمة عشوائياً ويستهدف أناساً كانوا قد عرضوا دعمهم المعنوي والمادي لها. وبعدها يمّم العديد من هؤلاء وجوههم نحو السلطة لطلب المساعدة فقامت هذه بتسليحهم لحماية أنفسهم. وحين بدأت جُزُر المقاومة تبرز في المناطق التي يسيطر عليها الجهاديون، غيرّت السلطات الجزائرية وجهة استراتيجيتها: فإلى جانب مضاعفة العمليات العسكرية ونشاطات مكافحة الإرهاب على الأرض ومواصلة ملاحقة الجهاديين (مطاردتهم حتى الحدود الجزائرية- التونسية)، استثمرت السلطات أيضاً في عمليات التنمية لاستئصال التطرّف من جذوره، وعرضت على الجهاديين مخرجاً من خلال تطبيق سياسة مصالحة استهدفت تسريح، ونزع سلاح، وإعادة دمج المقاتلين السابقين الذين قرّروا نبذ العنف.

المقاربة الأمنية

من 1992 إلى 1995، كانت السلطات الجزائرية في حالة إرهاق نظراً إلى عنف الجماعات المسلّحة المعارضة وقوّتها، ولاسيما الجماعة الإسلامية، إلى درجة أن العديد من المحللين توقعوا سقوط النظام واستلام الإسلاميين لمقاليد الحكم. لكن بدلاً من ذلك، أثبت الجهاز الأمني للبلاد، بقيادة الجيش الوطني الشعبي، أنه متماسك، وفعّال، ويمتلك قدرات عالية. وكما أوضحت ثيدا سكوبول، "تستطيع الدولة أن تبقى مُستقرة إلى حد معقول، وصامدة في وجه تمرّد جماهيري حتى ولو تعرّضت إلى عملية نزع شرعية واسعة النطاق، إذا ما واصل الجهاز القمعي تماسكه وقدرته على الخدمة والأداء".

طبّقت السلطات مقاربة يقودها الأمن في السنوات الأولى للنزاع (بين 1992 و1995). ومن خلال إعادة جدولة مدفوعات الدين الخارجي العام 1995، تمكّنت السلطات الجزائرية من إعادة تخصيص بعض الأصول لتحديث الجيش وتزويده بالتكنولوجيا المتطورة، كما نشطت لإضفاء الطابع المهني على جهازي الشرطة والجمارك. وعلى الرغم من أن بعض الشبان انضموا خلال هذه الفترة إلى الجماعات الجهادية المسلّحة، إلا أن العديد منهم التحقوا أيضاً بالجيش الوطني، خاصة منهم أولئك الذين جاءوا من بلدات صغيرة أو متوسطة الحجم في داخل البلاد.

عَرَضَ الجيش على المجندين فرصاً مهنية كبيرة ومزايا جيدة، وكذلك إمكانية مغادرة بلداتهم والحصول على حياة أفضل، والمشاركة في القتال ضد الإرهاب، وحماية بلادهم، كما ورد في حملات العلاقات العامة؛ تلك الحملات التي ساعدت الجيش كثيراً في تلميع صورته.

شنّت قوات الجيش الوطني غارات برية وجوية كاسحة في مناطق ريفية (على غرار دوار واد بني زرمان ودوار بني عارف وعطابة) وأخرى جبلية (مثل جبال زبربر وجبال الشريعة). وجرت تعبئة قوات الشرطة في مناطق ريفية، ونفّذت وحدات الدرك الوطني عمليات في كلٍ من المناطق الحضرية والريفية. كما ساعد سلاح الجو والدرك والشرطة وعناصر القوات الخاصة الجيش بقوة على القيام بعمليات ضخمة مثل معركة عين دفلة. وخلال هذه العملية في آذار/مارس 1995، ذُكر أن الجيش قتل نحو 800 جهادي في مدينتي وهران وأرزيو وكذلك في جبال جرجرة. ومع الوقت، قلّصت قوات الأمن إلى حد كبير سطوة الجماعات الجهادية المسلحة واستعادت كميات كبيرة من الأسلحة. كان المعتقلون الجهاديون عوناً كبيراً للدولة وأنصارها في مجال جمع المعلومات الاستخبارية وإحباط هجمات كان مخططاً لها.

شكلّت الدولة الجزائرية قوات موازية للمساعدة على قلب موازين القوى في النزاع. ففي العام 1994، كوّنت سلسلة من الميليشيات (قُدّر عددها بنحو 200 ألف عنصر) للعمل في الأطراف القصية من البلاد. إضافة إلى ذلك، تم تمديد فترة التجنيد إلى 18 شهراً، واستُدعي زهاء 15 ألف عنصر احتياطي إلى الخدمة في أيار/مايو 1995 لمدة 12 شهراً بهدف المساعدة على ضمان أمن البلاد. وقد دعم كل هؤلاء الحكومة في قتالها ضد الجماعات المسلحة، وحماية المدنيين، ومنع إعادة تأسيس المجموعات المسلحة في المناطق المحررة، ما سمح للناس بالعودة إلى منازلهم. وهكذا، ساعدت هذه القوات بشكل كبير في إضعاف الجماعات الجهادية المسلحة، التي فقدت أكثر من 6 آلاف مقاتل بين عامَي 1994 و1996.

بعد أن أدرك النظام الجزائري أن المقاربة الأمنية ليست كافية لمكافحة الجهادية ولاستعادة الشرعية في أعين الجمهور، اغتنم فرصة إعادة جدولة ديون البلاد واستثمر في مجالات التنمية، موظّفاً فيها نحو 20 مليار دولار. كما اتخذت الحكومة سلسلة إصلاحات اقتصادية، بما في ذلك إجراءات التعديل الهيكلي عبر تحرير الأسعار والتحرير الجزئي للاقتصاد الحمائي في البلاد، للسماح بتجارة دولية أوسع وتشجيع الاستثمارات الأجنبية. هذه الإجراءات ساعدت الحكومة على استقدام شركاء دوليين وأيضاً من القطاع الخاص كانت في أمس الحاجة إليهم للحفاظ على نفسها مالياً وعسكرياً، ووفّرت لها هذه الخطوات الأصول التي يمكنها استعمالها لتحديث قواتها العسكرية وكذلك أجهزة الأمن القمعية.

علاوة على ذلك، سمحت المساعدات الدولية والإصلاحات في العام 1995 للنظام بتعزيز برامج الرعاية الاجتماعية في مجالات الإسكان، والتوظيف، والعناية الصحية، والبنى التحتية. وفي تلك السنة نفسها، زادت الحكومة الأموال المخصصة لقروض الإسكان من 10 ملايين دولار إلى 15 مليون دولار، ووضعت جانباً 2.2 مليار دولار للمواد الغذائية والأدوية، وأيضاً 2.2 مليار دولار للسلع الرأسمالية.

وهكذا، ومن خلال تلبية احتياجات السكان على نحو أفضل، بدأ النظام بتهدئة التوترات الاجتماعية، وكبح جماح توسّع التطرف الجهادي العنفي عبر مجابهته في عقر داره.

تلا كل ذلك تغييرات إدارية في حقل الولايات. فقد عمدت الدولة، التي خشيت من اختراق الإسلاميين للنظام السياسي (حيث أن العديد من الولاة كانت لهم علاقات وثيقة بجماعات مسلحة)، وأيضاً بسبب رغبتها في إعادة فرض احتكارها على هياكل الحكم في البلاد، عمدت إلى عزل العديد من المسؤولين الذين عملوا في قطاعات الجمارك أو الإدارات العامة. تم تكليف الولاة الجُدد بتنفيذ السياسة الوطنية التي تهدف إلى مساعدة الشباب العاطلين عن العمل في تأمين وظائف. وقد شجّع المسؤولون الحكوميون الجيش ومروحة من المؤسسات التي تملكها الدولة على توظيف أعداد أكبر من الخريجين، حيث توافر نحو 150 ألف وظيفة في الفترة بين 1994 و1996. في هذه الفترة نفسها، شُكّلت لجان محلية لدراسة إمكانية إطلاق مشاريع استثمارية، وسجّلت وكالة حكومية لترقية ومراقبة الاستثمارات 900 مشروع جديد يشمل رواد أعمال محليين، ما خلق ما بين 70000 إلى 100000 فرصة عمل إضافية.

إضافة إلى هذه الجهود لدعم التوظيف، واجهت الحكومة مشاكل الإسكان الكبرى في البلاد، وأعلنت عن بناء عدد كبير من الوحدات السكنية الجديدة في أيار/مايو 1995. كذلك، قدّمت الدولة أصولاً محدودة وأشكالاً أخرى من الدعم لمساعدة المواطنين على العودة إلى منازلهم بعد فرارهم لأسباب أمنية. ففي الفترة بين 1993 و1997، كان عدد الجزائريين النازحين في الداخل قد وصل إلى 1.5 مليون شخص، استقرّ العديد منهم في ضواحي المدن الكبرى. ولمساعدة هؤلاء على العودة إلى منازلهم ومعالجة الخلل السكاني، تبنّت الحكومة سياسة إعادة تنمية وطنية، لكن 170 ألفاً فقط من النازحين عادوا إلى منازلهم، فيما واصل 1،3 مليون نسمة حياتهم على أطراف المدن حيث أُعيد توطينهم. ومع ذلك، ساعدت هذه الإجراءات على بدء استعادة الثقة الشعبية بالدولة، وحدّت من قدرة الجهاديين على استقطاب المُجندين.

إجراءات تصالحية

في العام 1995، حاولت الحكومة الجزائرية في البداية مصالحة خصومها الجهاديين. يومها، كشف الرئيس آنذاك اليمين زروال عن قانون الرحمة الذي حث الجهاديين على نبذ العنف والعودة إلى الاندماج في المجتمع وفق شروط معينة. وقد أجرى الجيش الجزائري محادثات سرية مع الجيش الإسلامي للإنقاذ، أعلن بعدها الأمير العام للجيش مدني مزراق عن وقف إطلاق النار من جانب واحد مع الحكومة في العام 1997. وهذه كانت لحظة مهمة سجّلت بداية مسيرة طويلة نحو استعادة المصالحة الوطنية. بدا حينها أن مزراق حسِبَ أنه من الضروري للجيش الإسلامي أن يُبعد نفسه عن العنف المتطرّف الذي تمارسه الجماعة الإسلامية المسلحة، لكن قراره بالانخراط مع النظام يرتبط أيضاً بمسألة الحفاظ على البقاء. إذ كان الجيش الإسلامي قد ضَعُفَ كثيراً بسبب خوضه معارك على جبهتين مع الحكومة وأيضاً مع الجماعة الإسلامية التي كانت قد دشّنت حملة تطهير ضد أعضاء آخرين في الجبهة الإسلامية للإنقاذ في نيسان/أبريل 1995. في الفترة نفسها، رفضت الجماعة الإسلامية بعناد استطلاع احتمال التفاوض مع الحكومة أو إبرام هدنة معها. وفي المقابل، سمحت شخصية مزراق الجذّابة، والهيكلية المركزية للجيش الإسلامي، وانفتاح هذه الجماعة على انتهاج سياسة الحوار مع الحكومة بفتح خطوط اتصال مع النظام. وفي هذه الأثناء، قلّصت الهيكلية اللامركزية للجماعة الإسلامية ومصرع قادة كبار فيها من سطوتها على قرارات المتمردين حيال مسألة التقارب أم لا مع الحكومة. وفي نهاية المطاف، نبذ 7000 مقاتل (بما في ذلك 800 من مقاتلي الجماعة الإسلامية) العنف وألقوا أسلحتهم فور إعلان وقف إطلاق النار.

حين وصل الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة إلى السلطة (1999-2019) مدّد عملياً قانون الرحمة عبر طرحه قانون الوئام المدني العام 1999 الذي حصد دعماً واسع النطاق في الاستفتاء الوطني اللاحق. نظرياً، كان الجهاديون السابقون مؤهلين للعفو المشروط إذا لم يكونوا متورطين على وجه الخصوص في جنايات خطيرة كالاغتصاب الجماعي، أو زرع القنابل في الساحات العامة. أما أولئك الذين ارتكبوا مثل هذه الأعمال، فقد سمح القانون بتقليص فترة سجنهم. لكن في الممارسة العملية كانت الأمور أقل وضوحا. فبسبب العدد الكبير من الحالات ونقص الأدلة في الكثير من هذه الأحيان، كان من الصعب على السلطات التدقيق بمزاعم البراءة التي يتقدّم بها الجهاديون. مع ذلك، كان أي جهادي يستسلم وينفي ارتكاب مثل هذه الجنايات تُبرّأ ساحته. وقد اتخذت الحكومة هذه المقاربة لتحفيز الجهاديين الذين لا زالوا مختبئين على تسليم أنفسهم.

بعدها بسنوات ست، أقرّت الحكومة الجزائرية ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، الذي استند إلى قانون الوئام المدني. هذا الميثاق أخلى مسؤولية عناصر قوات الأمن والميليشيات الصديقة للحكومة من عمليات القتل خارج القانون والاختفاء القسري خلال الحرب. وقد حُظر على أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ الانخراط في أي نشاط سياسي، على رغم أن السلطات ضمنت تأييد بعض الشخصيات القيادية في هذه المنظمة لسياسة المصالحة. أما الجهاديون الآخرون فقد منحوا منصّة للحديث في التلفزيون خلال أوقات ذروة المشاهدة حول الدوافع التي حدّت بهم إلى الالتحاق بالجماعات الجهادية ثم قرارهم بالخروج منها. هذه الحملة ساعدت على رفع الوعي الشعبي حيال مخاطر التطرّف العنيف، وأضفت طبقة إضافية من الشرعية على سياسة المصالحة، كما أثبطت رغبة آخرين في الانضمام إلى الجهاديين أو البقاء كجزء من القضية الجهادية.

عمدت الحكومة، في سياق جهودها لمساعدة الجهاديين السابقين على إعادة الاندماج بالمجتمع، ومنع عودتهم إلى الإجرام، وجبه الصعوبات الاقتصادية، إلى عرض دفع تعويضات مالية وازنة. كما عرضت الهيئات الاجتماعية والمؤسسات التي تملكها الدولة والشركات الخاصة على المقاتلين السابقين فرص عمل. كانت جهود إعادة التأهيل هذه حاسمة لأنها وفّرت للجهاديين السابقين إحساساً بالانتماء، والفخار والكرامة، واستعادة مشاعر المواطنة. وبذا، قطعت السلطات الجزائرية دابر الجاذبية التي تمتعت بها الجماعات الجهادية في مجال استقطاب المجندين.

النزعة الجهادية في مرحلة مابعد الحرب الأهلية

أسفرت المقاربتان الناعمة والخشنة اللتان انتهجتهما الحكومة الجزائرية عن إقدام 15000 جهادي سابق على نبذ العنف. وبفعل الجهود الناجحة للدولة في مجال الإطباق على النزعة الجهادية ومعالجتها من جذورها، جنباً إلى جنب مع الغضب الشعبي على العنف العشوائي للجماعة الإسلامية، انحسرت قوة ونفوذ هذه الجماعة، وتوقفت عن كونها لاعباً رئيساً في المشهد الجهادي الجزائري. وقد عاود بعض الأعضاء السابقين الظهور على المسرح في العام 1997 لتشكيل شُعبة تدعى الجماعة السلفية للدعوة والقتال، وهي مجموعة عمدت لاحقاً إلى الاندماج بفروع محلية لتنظيم القاعدة في العام 2007 وغيرت اسمها إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

غداة انحسار وباء العنف الذي اجتاح الجزائر في حقبة التسعينيات، باتت آفاق الأمن مُذاك في البلاد أكثر استقراراً بكثير. ففي العام 2017، صنّفت مؤسسة غالوب الجزائر في المرتبة السابعة لأكثر الدول أمناً في العالم. ومع ذلك، لم تتبدد مخاطر العنف الجهادي. فحتى إن لم يشكّل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي تهديداً وجودياً كسابقاته من التنظيمات في التسعينيات، إلا أن النشاط الجهادي المحلّي والمتقطّع لا يزال مصدر إزعاج. ويقدّر مصدر في الجيش الجزائري أنه لا يزال هناك ما بين 500 إلى 1000 جهادي ينشطون في أنحاء البلاد. هذا في حين أن الدعم الشعبي للمجموعات الجهادية عموماً ولتنظيم القاعدة على وجه الخصوص، يُعتبر ضعيفاً، كما يدل على ذلك سقوط آخر معقل لها في المناطق الداخلية البربرية، ومقتل العديد من القادة الجهاديين. وقد واصلت قوات الأمن الجزائرية الضغط بقوة على تنظيم القاعدة، خاصة منذ اندلاع انتفاضات الربيع العربي وما تلاها من تطورات في منطقة الساحل حين سقطت منطقة شمال مالي في حضن القاعدة.

في الجزائر نفسها يتّسم تنظيم القاعدة بحركية عالية ويعمل في مجموعات صغيرة منفصلة تضرب على نحو عشوائي وتستخدم العمليات الانتحارية لجعل نشاطاتها أصعب على التكهّن. صحيح أن هذا التنظيم فشل في نقل حلمه بإقامة الخلافة إلى جيل جديد من الجزائريين، إلا أنه واصل كسب شطر محدود من التأييد في صفوف بعض أعضاء جيل فهم كيف قلّصت الحكومة مشاركته في السياسات الوطنية. هذا الجيل الجديد من الجهاديين ترعرع في أتون الحرب الأهلية حين كفّرت الجماعة الإسلامية المسلحة عملياً الشعب الجزائري برمته وارتكب المجازر في كل أنحاء ساحل المتيجة وداخل البلاد. هؤلاء الجهاديون هم أولاد بيئتهم العنيفة. إنهم أطفال من قُتل أو سُجن من الجهاديين، وهم يميلون إلى الانجذاب إلى كلٍ من مزاعم الجهاد العابرة للأوطان التي يدعيها تنظيم القاعدة ومن ادّعائه توفير فرص للقتال في أماكن مثل ليبيا ومالي وتونس. قد تكون جاذبية هذه الجماعات الجهادية أقوى في جنوب الجزائر، حيث أسفر السخط الشعبي وعجز الحكومة عن تسخير الثروة المالية لتحقيق النمو الشامل للجميع، عن صدامات عنيفة وانزلاق بعض الشبان إلى لجج التطرف.

نجحت الحكومة الجزائرية إلى حد كبير في احتواء الجهادية من خلال استخدام المقاربة الأمنية على نطاق واسع، فشنّت عمليات عسكرية متواصلة ودعمت سياسة المصالحة الوطنية، بغض النظر عما إذا كانت هذه العملية كاملة أم لا. والآن، وبعد استقالة بوتفليقة، تمر البلاد في مرحلة حسّاسة وعملية انتقال سياسي كبرى، تبدو فيها قضية الخلافة في منصب الرئاسة مفتوحة على مصراعيها. مع ذلك، هذا الاضطراب مؤقت والجيش الجزائري، على رغم الصراعات الداخلية، لا يزال جاهزاً لإحكام قبضته بحزم، وسيستمر بالتأكيد في إبقاء التهديد الجهادي بعيداً والبلد آمناً.

الأحزاب الإسلامية في حقبة ما بعد النزاع

في أعقاب الحرب الأهلية، لم يكن المجتمع الجزائري هو وحده الذي تشكّل من جديد، بل شمل ذلك أيضاً المشهد السياسي الجزائري برمته. إذ أن الخروج العنيف للجبهة الإسلامية للإنقاذ من مسرح الأحداث، أظهر حدود إمكانات الإسلام السياسي الراديكالي في الجزائر. ومع نهاية التسعينيات، كانت هذه الجبهة قد حُظرت وأطيح بقياداتها، ولم تعد قادرة على السيطرة على العنف الذي أشعلته فروعها. وهي بقيت بعيدة عن طاولة المفاوضات بفعل تأثير جناحها العسكري المتمثل بالجيش الإسلامي. إذ لا يجب أن ننسى هنا أن مزراق وليس قادةالجبهة (علي بلحاج وعباس مدني) هو الذي أقنع آلاف الجهاديين بإلقاء السلاح.

في محاولة فاشلة للعودة ثانية إلى مسرح الأحداث، قررت شخصيات في الجبهة الإسلامية دعم عملية المصالحة. فهم شعروا أنهم مُلزمون بإبعاد أنفسهم والتنظيم عن العنف المتطرف للجهاديين. بيد أن الجبهة لم تعد تلك القوة الاجتماعية- السياسية الوازنة التي كانت في التسعينيات. فمدني غادر الجزائر إلى قطر حيث عاش هناك إلى أن وافته المنية العام 2019، وبلحاج، الذي كان خطيباً مفوّهاً، أصبح نموذجاً باليا. وبعد نحو ثلاثة عقود من حظرها قانونيا، لاتزال الجبهة الإسلامية غير قادرة على إعادة تأهيل نفسها، وسجناؤها السياسيون ما فتئوا وراء القضبان.

البيت المنقسم للإسلاميين الجزائريين

أعادت الحرب الأهلية في الجزائر تشكيل المشهد السياسي في البلاد ومعها حركاته الإسلامية. فالأحزاب الإسلامية، كحركة مجتمع السلم والنهضة، شاركت في السياسات الجزائرية منذ أن أعادت الدولة في خضم القتال العمليات الدستورية وتنظيم الانتخابات الرئاسية في العام 1995. هذه المقاربة التشاركية أدّت في نهاية المطاف إلى طريق مسدود بعد أن وضعت الحرب أوزارها. إذ أن الاحزاب الإسلامية في حقبة ما بعد النزاع أهملت طرح رؤية متّسقة أو برامج سياسات عملية للبلاد لتحدي الوضع القائم وحل المشاكل الاجتماعية- الاقتصادية التي يعاني منها المواطنون الجزائريون.

وفي سبيل ابعاد نفسها عن الشعارات المتطرّفة للإسلام السياسي الذي تمثّله الجبهة الإسلامية والجهاديين، تبنّت أحزاب إسلامية معتدلة كحركة مجتمع السلم (المعروفة سابقاً باسم حماس) بقيادة محفوظ نحناح وحزب النهضة، استراتيجية تتمحور حول المشاركة. ومنذ ذلك الحين، تمّ بفعالية استلحاق الإسلاميين بالحكومة إلى درجة أنهم احتضنوا قواعد النظام السياسي القائمة على الرشى والتصلّب الانغلاقي. واليوم باتت هذه الأحزاب عاجزة عن تعبئة الناخبين، ولا تشكل أي تحدٍ حقيقي للنظام المدعوم من العسكر. هذا الفشل في الدفع باتجاه التغيير، هو حصيلة كلٍ من عدم قدرة الإسلاميين على التغلّب على خلافاتهم، ومن رغبتهم الانتهازية في الحفاظ على علاقاتهم الزبائنية مع النظام.

والحال أن الصراعات الداخلية في صفوف تلك الأحزاب الإسلامية التي جرى استلحاقها، دفعت في بعض الأحيان فصائل منها إلى الانفصال وتشكيل أحزابها الإسلامية الصغيرة الخاصة بها. هذه الأحزاب كانت تسعى إلى الوحدة منذ نهاية الحرب الأهلية، وتقض مضاجعها المسألة الحاسمة المُتعلقة بالعمل مع الحكومة أولا.

كانت الانتخابات الرئاسية العام 2009 مرآة عاكسة لهذه الحالة. فحين نشبت الخلافات في صفوف حركة مجتمع السلم، تخلى العديد من الأعضاء عن الحركة وشكّلوا تنظيماتهم الخاصة. وقد دعم زعيم الحركة السابق أبو جرة سلطاني الرئيس بوتفليقة وانضم إلى ائتلاف حكومي. لكن عبد المجيد مناصرة، الرجل الثاني في القيادة، وأنصاره رفضوا المضي قدماً في هذه الاستراتيجية، واتهموا سلطاني بخرق المبادئ الرئيسة للحزب، عبر تقديم التنازلات للحكومة من دون التشاور لا مع قواعد الحزب ولا مع قادته. والواقع أن سلطاني همّش كوادر الحزب وطرد مجموعة من 40 شخصية فيه كانوا اختلفوا معه في العام 2008 في خضم مساعيه لإعادة انتخابه رئيسا للحزب. في خاتمة المطاف، ترك مناصرة ومئات من الانصار والناشطين الحزب، بما في ذلك العديد من الشخصيات السياسية المحلية والوطنية، وشكلّوا حركة الدعوة والتغيير.

أُصيبت حركة مجتمع السلم بوَهَنٍ أكبر بسبب انشقاق عمار غول، وهو عضو بارز آخر كان تولّى منصب وزير الأشغال العمومية. ترك غول الحركة في العام 2012، وأسّس حزبه الخاص الذي أطلق عليه اسم تجمّع أمل الجزائر(TAJ)، الذي طرح برنامجاً إسلامياً بتوجهات فكرية وطنية. نجح الحزب الجديد في جذب أكثر من خمسين نائباً وبضعة آلاف من المسؤولين الحكوميين المحليين. وأدّى هذان الحدثان المهمان إلى إضعاف حركة مجتمع السلم واستنزاف الدعم التي كانت تحصل عليه، في خضم تنافسها مع حركة الدعوة والتغيير وتجمّع أمل الجزائر للفوز بأصوات الناخبين من الفئة نفسها.

بالمثل، ابتليت حركة النهضة، وهو حزب إسلامي رئيس آخر في الجزائر، بالانقسامات، وبات مثالاً واضحاً آخر على عجز الإسلاميين عن التوحّد. فقد مُزِّقت الحركة في أواخر التسعينيات، التي كانت معروفة سابقاً باسم حركة النهضة الإسلامية وتستلهم أفكار جماعة الإخوان المسلمين، حرب داخلية بين أحد قادتها وهو الحبيب آدمي وبين أحد مؤسّسيها عبد الله جاب الله. ومرة أخرى، تمحور الخلاف حول تأييد أو معارضة للعمل مع الحكومة: فمن جهته، دعا آدمي إلى التحاور مع الدولة، بينما رفض جاب الله هذا النهج وسعى إلى الابتعاد عن الحكومة. في نهاية المطاف، أطاح آدمي بجاب الله وأعاد تسمية الحزب "النهضة". في غضون ذلك، أسّس جاب الله حزباً إسلامياً جديداً أطلق عليه اسم الإصلاح، وقد طُرِد منه أيضاً واستُبدِل بجهيد يونسي الذي حمّل جاب الله مسؤولية فرض آراء بالية والافتقاد إلى حسّ الهيكلية والتنظيم. لكن ذلك لم يثنِ جاب الله عن محاولاته، فأنشأ حزباً ثالثاً في 2011 يُدعى جبهة العدالة والتنمية .

أدّت هذه النزاعات والفصائل إلى جعل الأحزاب الإسلامية الجزائرية ضعيفة وفاقدة للمصداقية وغير قادرة على حشد المؤيدين. فقد شهدت العديد من الانتكاسات حتى أثناء الموجة الإسلامية من الربيع العربي التي هزّت المنطقة الأوسع ابتداءً من أواخر العام 2010. وفي الواقع، لم يتمكّن الإسلاميون الجزائريون، حتى مع فوز الإسلاميين في البلدان المجاورة كمصر والمغرب وتونس، من الاستفادة من ذلك النجاح في وطنهم. لكنهم عمدوا إلى رصّ صفوفهم لتحقيق نتائج أفضل في الانتخابات التشريعية الجزائرية في أيار/مايو 2012، فانضمّت حركة مجتمع السلم (التي كانت جزءاً من تحالف رئاسي منذ العام 2004) والنهضة والإصلاح إلى تكتل الجزائر الخضراء (AAV).

في الوقت الذي كان فيه نظراؤها من الأحزاب في الدول المجاورة، مثل حزب العدالة والتنمية في المغرب والنهضة في تونس، تقدّم أداء رائعاً، كان فريق تكتّل الجزائر الخضراء مقتنعاً بأنه سيضمن فوزاً ساحقاً في البلاد؛ حتى أن أحد قادة الحزب أشار قبل فرز الأصوات إلى أنه يمكن الفوز بـ120 مقعداً على الأقل من المقاعد التشريعية البالغ عددها 462 مقعداً. لكن النتائج كانت كارثية للإسلاميين، الذين حصلوا على ثمانية وأربعين مقعداً فقط، أي أقل من المقاعد الـ52 التي حصل عليها حزب مجتمع السلم وحده في العام 2007. كان الإسلاميون بعد أشهر قليلة على موعد مع تسجيل أسوأ نتائج منذ بروز نظام التعددية الحزبية في الجزائر، في الانتخابات البلدية في تشرين الثاني/نوفمبر 2012. فقد حصل تكتل الجزائر الخضراء، هذه المرة من دون حركة مجتمع السلم التي انسحبت منه، على أغلبية مُطلقة في عشر بلديات فقط من بين 1451 بلدية. وبالمثل، كانت نتائج انتخابات العام 2017 مُخيبة للآمال بالنسبة إلى المعسكر الإسلامي.

طال هذا الخلل الانتخابي التوجهات الرئاسية أيضاً، فقد كانت آخر محاولات الإسلاميين للاتفاق على مرشح رئاسي واحد في العام 2009، عندما خاض يونسي من حزب الإصلاح الانتخابات وحصل على حصة ضئيلة من الأصوات (أقل من 1.4 في المئة). قبل ذلك، أطلق جاب الله حملة قصيرة الأمد في العام 1999. ونتيجةً لهذا السجل الحافل، يمكننا القول إنه خلال الانتخابات المقبلة (التي كانت مقررة أساساً في نيسان/أبريل 2019، لكن تمّ تأجيلها حتى 4 تموز/يوليو وتم تأجيلها مجدداً) من المرجّح أن يعجز الإسلاميون مجدداً - الذين كانوا مرفوضين إلى حدّ كبير من قبل المتظاهرين الذين أطاحوا بوتفليقة - عن التوافق على شخصية بارزة واحدة.

الجاذبية المتآكلة للانتهازية الإسلامية

السبب الثاني الكامن وراء انحسار تأثير الأحزاب الإسلامية في السياسة الجزائرية، هو ميلها إلى التركيز على النظام بدلاً من المجتمع. فلم تعد هذه الأحزاب الإسلامية، من خلال صبّ اهتمامها على المحافظة على علاقاتها مع الدولة، تُولي أهمية لاحتياجات الجزائريين العاديين ومصالحهم. وفي الوقت الذي واصل فيه قادة هذه الأحزاب إدانة أساليب الدولة، انشغلوا بالحفاظ على مداخلهم إلى دهاليز السلطة وتأمين استفادتهم من المزايا والامتيازات التي تقدّمها الجهات الفاعلة الدُولتية التي يعتبرها العديد من الجزائريين مُشابهة للفساد الذي تُعرف به الدولة منذ أمد طويل.

في هذا السياق، تُعتبر حركة مجتمع السلم نموذجاً معبّراً عن ذلك. فقد استتبعتها الحكومة إلى حدّ كبير منذ التسعينيات، وحتى قبل نهاية الحرب الأهلية، عندما احتاج النظام - بعد أن حُظرت الجبهة الإسلامية للإنقاذ - إلى طرف فاعل شرعي لا يشكّل تهديداً بالنسبة إليها، ليحل محل جبهة الإنقاذ الإسلامية المتطرّفة على الساحة السياسية. تتمتّع هذه الحركة، باعتبارها الحزب الإسلامي الأبرز اليوم، بتاريخ حافل من الاهتمام بعلاقتها بالنظام، وبحصتها من الموارد، وبحضورها السياسي أكثر من الدعوة إلى تطبيق إصلاحات سياسية. ونتيجة لهذا الاستلحاق، بقيت جاذبية الحركة الشعبية ضعيفة، ولا زالت، ناهيك أيضاً عن عجزها عن حفز المشاركة العامة.

تجدر الملاحظة هنا أنه في وقت سابق، كان نزوع حركة مجتمع السلم إلى التقارب بمثابة محاولة للتنديد بالعنف المسلّح في التسعينيات وإبعاد نفسها عن وجهات النظر المتطرّفة التي طرحتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وقد دعا مؤسسها نحناح بدوره إلى ما أسماه بالمرحلية والمشاركة والاعتدال. كما أيّدت حركة مجتمع السلم في وقت لاحق قرار الدولة القاضي بتشكيل المجلس الوطني الانتقالي، الذي أدّى وظائف تشريعية في غياب برلمان مُنتخب. نتيجةً لذلك، قُتل العديد من كوادر الحركة، وأبرزهم الشيخ محمد بوسليماني، على يد الجماعة الإسلامية المسلّحة التي رفضت قبول التحاور مع ما تعتبره سلطات مُلحدة. وفي العام 1995، شاركت حركة مجتمع السلم في إعادة إطلاق العملية الديمقراطية، وحلّ نحناح في المرتبة الثانية بعد مرشّح الجيش الرئاسي الفائز، زروال. في العام 1999، بعد أن تمّ استبعاده لأسباب إجرائية، وقف نحناح وراء مرشح توافقي هو بوتفليقة، ودعم سياسات المصالحة التي تبنّتها الدولة، على رغم الانتقادات التي اجتاحت معسكره.

انضمّت حركة مجتمع السلم، بفضل هذه الاستراتيجية التي تعتمد على المشاركة، إلى العديد من الائتلافات الحكومية. وكافأ النظام الحركة بمنحها مناصب وزارية ومقاعد برلمانية ورواتب ضخمة وتخفيضات ضريبية، وأتاح لها (قبل كل شيء) فرصة الاستفادة من إعادة توزيع الإيرادات النفطية. خلقت هذه المزايا روابط الولاء بينحركة مجتمع السلم وبين النظام. والحال أن قدرة الحكومة على استيعاب الجهات الفاعلة السياسية الجديدة مكّنتها من تعزيز مواقفها وتصوير نفسها على الصعيدين الوطني والدولي على أنها نظام منفتح وشامل يسمح للإسلاميين بالمشاركة في شؤون الدولة.

لكن، في الواقع، كان الثمن الذي دفعته حركة مجتمع السلم لانتهاجها هذه المقاربة باهظاً. فعلى رغم أنها أصبحت لاعباً مؤثّراً على الساحة السياسية الجزائرية، إلا أن الاستلحاق الذي يحدد شروط مشاركتها أحبط ناخبيها. واليوم، باتت الحركة أبعد ما تكون عن كونها قوة المعارضة التي رآها الناخبون المؤيدون للجبهة الإسلامية للإنقاذ وغيرهم من المؤيدين المحتملين، وتُعتبر في نظر الكثيرين أداة للنظام. فهي من الناحية التقنية جزء من المعارضة، لكنها ليست لا طرفاً متشدّداً ولا مواجهاً. ولا يُعتبر أي نقد قد توجهه ضد الحكومة أكثر من مجرد محاولة مستمرة للحفاظ على قدراتها الضعيفة على تعبئة قاعدتها ضد النظام. والواقع أنه من الصعب للغاية على الحركة، التي تعمل مع من هم في السلطة منذ العام 1995، أن تتخلى عن الامتيازات والمزايا التي تحصل عليها. يُذكر هنا أن الحركة مرتبطة الآن ارتباطاً وثيقاً بالنظام إلى درجة أن احتمالات أن تصبح منافساً جاداً أو ثقلاً مضاداً للسلطات الحاكمة تكاد تكون معدومة.

رجال السياسة الإسلاميون في الجزائر بعيدون كل البعد عن الذروة التي حققتها شخصيات كاريزمية بارزة، مثلما فعل بلحاج ومدني في أوج نشاطهما. فهما تمكّنا من حشد ملايين المواطنين لصالح قضيتهما. ومنذ ذلك الحين، تكرّر فشل الأحزاب الإسلامية في البلاد، التي باتت عاجزة عن التخلّص من خلافاتها وتضارب المصالح، في مجال توحيد وصياغة إصلاحات طموحة من شأنها تحسين الحياة اليومية للجزائريين. بدلاً من ذلك، وجدت هذه الأحزاب نفسها، إثر تكرار الاختلالات وأوجه القصور في النظام، فاقدة لمصداقيتها ومحرومة من الدعم المتّقد.

أخيراً، جاءت تظاهرات العام 2019 لتشكّل فرصة ضائعة أخرى للإسلاميين. ويُعزى السبب إلى أنهم انتظروا انقلاب الطاولة على بوتفليقة للتعبير عن دعمهم للمتظاهرين، ولذا فشل رجال السياسة الإسلاميون في كسب ثقة الشعب. ومن خلال الانضمام إلى حركة الاحتجاج في وقت متأخر وبشكل انتهازي، عزّزت الأحزاب الجزائرية الإسلامية التصورات العامة بأنها تضع مصلحتها الذاتية فوق المصلحة العامة. في الواقع، عندما نزلت شخصيات بارزة مثل جاب الله ومقري وسلطاني إلى الشارع، لم يكن ضئيلاً عدد الأشخاص الذين انتقدوها ووصفوها بأنها من عملاء وأتباع ومتزلفي النظام.

الإسلام السياسي الشعبي يحقّق نجاحات

أتاح الفشل الذي مُنيَ به الإسلام السياسي والجهادية السائدين في الجزائر، بالإضافة إلى مداراة الدولة، الفرصة أمام نمو وتوسّع شبكة سلفية شعبية هي: الدعوة السلفية. قامت هذه الأخيرة من الناحية التكتيكية بإعادة التموضع على الساحة الدينية كبديل للسلفية الجهادية، وعلى الساحة السياسية كبديل للسلفية السياسية. وبالتالي، يزعم أتباع حركة الدعوة السلفية أنهم ضد الجهاديين الذين يشعلون نار الفتنة وضد المُعتدلين الذين ينشرون البِدع. وهم يزعمون التزامهم بعدم التدخّل أبداً بالمسائل السياسية ويتركونها لولي الأمر الذي يطيعونه طاعة عمياء.

لم تتدخل الحكومة الجزائرية إلى حد كبير في شؤون الدعوة السلفية، إذ إن المقاربة العلمية التي تنتهجها الحركة تسمح للدولة بتحقيق العديد من الأهداف المهمة، على غرار حشد الدعم لسياسة المصالحة، وإضعاف المعارضة الإسلامية الأساسية، ومواجهة الأشكال الأكثر عنفاً وتشدّداً للإسلام السياسي (بما في ذلك الإيديولوجيات السلفية-الجهادية)، وتعزيز سلطتها الخاصة، وتوسيع قاعدة دعمها من خلال دمج البرجوازية الإسلامية الجديدة في البلاد (وإبقائها تحت السيطرة).

الجدير ذكره هنا أنه منذ انطلاق الاحتجاجات المناهضة لبوتفليقة في شباط/فبراير 2019، بقي الصمت سائداً في أوساط أشهر قادة حركة الدعوة. صحيح أن قادة أحزاب وأئمة إسلاميين نزلوا إلى الشوارع دعماً للحراك، إلا أنه لم يصدر عن هذه الشخصيات أي تصريحات تدّعي أنهم يمثّلون حركة "الدعوة" بشكل عام. في هذه المرحلة، من الصعب جداً التنبؤ بما سيفعله قادة "الدعوة": إذ من المحتمل أن يواصلوا التزام الصمت التام في المرحلة الانتقالية لتجنّب إغضاب السلطات ولاسيما الجيش. ويبقى القول هنا إن ثِقل الحركة المتنامي لا زال مهماً.

الصلة السعودية

ثمة اعتقاد شائع بأن جذور الدعوة السلفية في الجزائر تعود إلى الحركة الإصلاحية لابن باديس ومبارك الميلي في عشرينيات القرن العشرين. لكن الحركة في شكلها الحالي تعود في الواقع إلى الثمانينيات، حين عاد مجموعة من العلماء الجزائريين من السعودية بعد دراستهم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، التي تُعتبر معقل السلفيين. باختصار، حركة الدعوة مُستوحاة من الوهابيين، وتُعدّ هيئة كبار العلماء في السعودية مصدراً لجزء كبير من الفكر الوهابي الذي اجتاح العالم العربي بشكل عام والجزائر بشكل خاص. فقد تتلمذ الشيوخ الجزائريون المرتبطون بالدعوة على يد علماء سعوديين مثل الشيخ عبد العزيز بن باز ومحمد ناصر الدين الألباني،وابن الرحمن العُثيمين، وصالح الفوزان، وربيع المدخلي، الذين تربطهم صلات قوية بالمؤسسة الدينية الرسمية - دار الإفتاء - في السعودية، أو تأثروا بهم.

شكّل الدعم التعليمي السعودي عاملاً حيوياً في نمو وتوسّع الدعوة. فقد قُدّمت رحلات إلى السعودية للعديد من الطلاب الجزائريين، الذين كفلهم أساتذة سلفيين معتمدين، بذريعة أنهم يؤدون فريضة الحج بينما هم في الواقع كانوا يذهبون لدراسة السلفية. وتتيح الرعاية التي يقدّمها أستاذ من الحركة للطلاب الحصول على مبلغ مالي وشهادة في نهاية الدورة. بعد ذلك، يصبح هؤلاء الخريجون الملقنون حديثاً من التقاة، ويمكنهم ضمان جذب آخرين إلى هذه الرحلة، مع الإشارة هنا إلى أن ترتيبات الرعاية هذه المرافقة لها التي يمنحها السعوديون يمكن إلغاؤها في أي وقت. وقد اعتادت السفارة السعودية في الجزائر، بهدف البقاء على دراية باحتياجات الدعوة السلفية، تكريم الطلاب الجزائريين الذين كتبوا تقارير عن تطوّر جماعتهم وعلاقته بالمجتمع ككل.

كانت المواد التعليمية التي يقدّمها السعوديون عنصراً أساسياً في نشر أفكار الدعوة. وكانت توزّع معظم الكتب المُرسلة من السعودية مجاناً أو يتمّ استثمار إيراداتها في الحركة. وتحاول السلطات الجزائرية الإشراف على سوق الكتب الدينية، لكن سيطرتها ليست مطلقة. في كل عام، تجد عشرات الكتب الدينية والكتيبات والنشرات والأقراص المدمجة المحظورة (معظمها من السعودية) طريقها إلى البلاد، وينتهي بها الأمر على رفوف المتاجر على رغم جهود الحظر التي تبذلها الحكومة. هذه الكتب سهلة القراءة وتقدّم توجيهات دينية بسيطة من دون الغوص في القضايا الإيديولوجية، ما يجعلها مشهورة في أوساط مختلف شرائح المجتمع الجزائري وفي متناول الجميع.

بفضل هذا الدعم السعودي، طوّرت حركة الدعوة شبكة واسعة من الأتباع بقيادة شخصيات تنشط في الوعظ من العاصمة حتى أطراف الصحراء الجزائرية. فعلى سبيل المثال، يُعتبر الشيخ محمد فركوس، الذي تمّ تعيينه شكلياً في رسالة بعث بها الشيخ السعودي المدخلي، باعتباره الصوت الرسمي للسلفية في الجزائر، ناشطاً للغاية في العاصمة وضواحيها. نذكر من الشخصيات البارزة الأخرى الشيخ عبد المجيد جامع، ولزهر سنيقرة، وعز الدين رمضاني، مع العلم بأنه يمكن لجميع الراغبين التواصل مع العديد من هؤلاء الشيوخ عبر وسائل التواصل الاجتماعي وأحياناً عبر تبادل أرقام الهواتف الشخصية. كما أن فتاويهم متوافرة على الإنترنت، وتقدّم توجيهات حول العديد من المسائل الحياتية اليومية، وبلغات عدّة كالعربية والفرنسية وحتى الإنكليزية.

الدعوة وإعادة الأسلمة في الجزائر

يعتبر الكثير من المواطنين الجزائريين أن حركة الدعوة تطرح حلّاً بديلاً لأزمة التمثيل السياسي التي تتخبّط فيها البلاد منذ فترة طويلة. نجحت المقاربة العلمية التي اتّبعتها الدعوة السلفية في جذب العديد من أبناء الجيل الذي نشأ خلال العشرية السوداء، إذ افتُتن الكثير من الجزائريين بالدعوة التي أطلقتها الحركة إلى نبذ عملية غربنة المجتمع الجزائري من دون خوض مواجهة مفتوحة مع السلطات الحاكمة. إذن، تخاطب الدعوة السلفية جيلاً من الجزائريين الذين يئسوا من المشهد السياسي الذي تهيمن عليه جبهة التحرير الوطني منذ العام 1962، وخاب أملهم من الإسلاميين المتطرّفين وسجلّهم الحافل بالعنف خلال سنوات الحرب الأهلية. يُضاف إلى ذلك أن السياسيين الإسلاميين المُعتدلين خذلوهم، إذ كانوا منذ فترة طويلة مجرّد بيادق في أيدي السلطات الحاكمة.

توفّر حركة الدعوة لمناصريها منبراً وفسحة أمل، والأهم مكاناً في المجتمع. فمن خلال شبكاتها الواسعة وقواعدها الأخلاقية، تتيح الدعوة لأعضائها فرصة تجاوز الإقصاء السياسي، وترميم الروابط الاجتماعية، ورسم صورة إيجابية عن أنفسهم. تجذب حركة الدعوة كذلك جزائريين من الطبقة الوسطى التي يُعتبر الكثير من أبنائها عموماً وَرِعين ومحافظين اجتماعياً وثقافياً. إن المقاربة الجهادية الثورية ليست خياراً متاحاً لهؤلاء، لأنها تهدّد أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية. وتشكّل الثقافة الفرعية والروابط الاجتماعية لحركة الدعوة وسيلة في يد هؤلاء الأفراد لمعارضة الدولة رمزياً. فالدعوة توفّر لمناصريها هوية جماعية وشعوراً بالتضامن يضفي على وجودهم معنى، ويمنحانهم القوة اللازمة لمقاومة الحداثة.

تُمثّل حركة الدعوة كذلك، في دولة تعاني من سوء الحوكمة والعقبات البيروقراطية والفساد المستشري وغياب التمثيل الشعبي (حتى على المستوى المحلّي)، شبكةً واسعة قادرة على أن توفّر لمناصريها نظاماً اجتماعياً بديلاً يحاكي نموذج المجتمع الإسلامي المثالي. واقع الحال أن الدعوة أصبحت، بفضل أنشطتها الدينية الدعوية التي تُبثّ عبر مروحة من الوسائط والقنوات، القوة الرائدة في إعادة أسلمة المجتمع الجزائري. لقد انتشرت إيديولوجيتها وامتدّ نفوذها واتّسعت شبكاتها.

نتيجةً لذلك، باتت الدعوة تتمتع بقوة تنظيمية ووجود نابض بالحياة في مناطق عدة. فقد أصبح السلفيون ناشطين للغاية في الجزائر العاصمة، واستطاعوا أن يسيطروا على مساجد عدة في حيدرة والقبة وبوزريعة وبئر خادم وبرج الكيفان ودرارية، من خلال ممارسة الضغوط واستبعاد الأئمة الذين لا يناصرون الحركة. بعض المساجد معروفة بأنها خاضعة إلى سيطرة السلفيين، مثل مسجد الأزهر في الصنوبر البحري، ومسجد عين النعجة، ومسجد باب الزوار في حيّ دوزي. فالولاء إلى المسجد نفسه هو أساس العلاقة التي تجمع بين أتباع الحركة. وغالباً ما تنشأ الصداقات في المساجد، أو في الحلقات الدراسية المغلقة، أو حتى على شبكة الإنترنت. ووفقاً لمناصري الحركة، يساعد أعضاء الحركة بعضهم البعض في الزواج، أو إيجاد فرص عمل، أو مسكن لائق، أو مدارس للأولاد.

يرتدي التعليم أهمية أساسية لحركة الدعوة التي تبنّت تعاليم الشيخ الألباني التي تمحورت حول مفهومَي التصفية والتربية. التصفية تعني إزالة كل المعتقدات والأفكار الفاسدة المتعلقة بالشرك، والتي دخلت حياة المسلمين، فضلاً عن تنقية المذهب السنّي والشريعة من مختلف البدع التي عكّرت صفوهما. الخطوة الثانية هي تعليم النفس ثم تعليم الآخرين.6 انطلاقاً من هذه الذهنية، تستثمر الدعوة في المدارس والحضانات الإسلامية لتعليم الأجيال المقبلة عن السلفية. المدرسة السعودية في الجزائر، والمناهل، وحدائق المعرفة في درارية، والألوكة في باب الزوار، هي كلها مدارس سلفية تحظى باحترام كبير في صفوف المجتمع المحلي.لا تسمح هذه المؤسسات بالتعليم المختلط (بين البنات والبنين)، وتفرض التلقين الإلزامي للقرآن صباح كل يوم، وكذلك تلاوة الصلاة على جميع التلامذة.

بالمثل، يخضع بعض أكبر وأهم جامعات الجزائر، مثل جامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة وكليّة العلوم الإسلامية في الخروبة إلى سيطرة الدعوة. ففي الخروبة، معظم الطلاب هم من أتباع الدعوة السلفية، ويتتلمذون على أيدي أساتذة لا يلتزمون بالمنهج الرسمي، بل كلٌّ يغني على ليلاه وفقاً لأجندته السلفية الخاصة. يروّج كلٌّ من الأساتذة والطلاب لما يعتبرونه نموذج الاستقامة في السلوك واللباس والخطاب، ويتم عزل الأساتذة والطلاب الذين يخالفون مسار الدعوة، أو يتم التعامل معهم بحذر، أو يُستبعدون. يُشار إلى أن السلفيين تمكّنوا من اختراق المجلس العلمي في الجامعة، وباتوا يهيمنون عليه. كذلك، يتمتع مناصرو الدعوة بانتشار واسع من خلال أنشطتهم الدعوية التي تتجاوز حرم الجامعة. ومن المعروف أيضاً أن العديد من الشيوخ ينظّمون حصصاً دراسية في منازلهم، فيما يلعب آخرون دور الأوصياء على الطلاب، إذ يساعدونهم مثلاً في الزواج، ويرشدونهم في اتّخاذ قرارات حياتية حاسمة، ويسعون إلى تنقيتهم مما يعتبرونه معتقدات ضارّة ومن جميع أشكال الفساد والكفر، لذا يمنعونهم من قراءة الصحف والمجلات أو حتى مشاهدة التلفاز.

إضافةً إلى الجهود الدعوية، ينخرط معظم أتباع الدعوة في الأنشطة التجارية. فقد أتاحت المساعدات الحكومية الممنوحة في إطار ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، لبعض الجزائريين إمكانية إنشاء شركات تجارية. معظم هؤلاء يتقنون اللغة الفرنسية، ما يسهّل علاقاتهم مع سلفيين آخرين في فرنسا، الذين هم في غالبيتهم مواطنون فرنسيون من أصول جزائرية يريدون الهجرة إلى أرض إسلامية والعيش في وطنهم الأصلي. ساعد إنشاء هذه الشبكة رجال الأعمال السلفيين الجزائريين في استيراد وتصدير مختلف أنواع السلع، بما في ذلك الكتب والملابس والمفروشات. ويصدر شيوخ الدعوة بانتظام فتاوى لمساعدة مناصريهم في إدارة مشاريعهم التجارية. فقد أصدر الشيخ فركوس، على سبيل المثال، فتوى تُجيز إعطاء الرشى إلى موظّفي الجمارك لغايات تجارية، شارحاً أنه "يجوز للتاجر أن يصانع بماله عند اضطراره، مع إثم القابض دون الدافع".

ينبغي أخذ هذه الأنشطة المتمحورة حول هدفَي التصفية والتعليم على محمل الجد. لقد آثرت الدعوة اتّباع تكتيك حذر، إدراكاً منها أنه لا الإسلاميون المعتدلون ولا الجهاديون استطاعوا تحقيق التقدّم أو الزخم السياسي اللازم لتشكيل حكومة إسلامية. مع أن هذه الأنشطة ساعدت الدعوة على تعزيز وجودها على الأرض، إلا أن العامل الأبرز تمثّل ربما في التمويه التي وفّرته المقاربة العلمية. يُعتبر دعم واحترام السياسيين الحاكمين خطوة استراتيجية للدعوة، إذ يعطي من خلالها أعضاء هذه الحركة الانطباع بأنهم إسلاميون غير مهتمّين بالدولة وبتسييس الإسلام. لكن نهجهم العلمي لا يعني أنهم لا ينخرطون في التطورات السياسية. واقع الحال أن أعضاء الدعوة يؤثّرون بشكل غير مباشر على الأحداث السياسية، في ظل الالتزام بمبدأهم الإيديولوجي القاضي بالامتناع عن المشاركة السياسية المباشرة.

خلال مظاهرات الربيع العربي في العام 2011 على سبيل المثال، ناشد مسؤولون في حركة الدعوة الجزائريين عدم الانضمام إلى موجة التظاهرات ضد قادتهم، وأدانوا الأحزاب الإسلامية والجهاديين على حدٍّ سواء. بالمثل، دعا قادة الدعوة في العام 2014 الجزائريين إلى أداء واجبهم المدني والوقوف صفّاً واحداً إلى جانب الرئيس بوتفليقة. لكن، على الرغم من دعمها للسياسيين الحاكمين، لا تتوانى الحركة عن التصريح، على غرار الجبهة الإسلامية للإنقاذ في التسعينيات، بأن الديمقراطية هي في حدّ ذاتها شرك. فقد شرح الشيخ فركوس أن "الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات وسائر أساليب الديمقراطية هي من عادات الكفّار وطرق تعاملهم مع حكوماتهم". لكنه ناشد مراراً وتكراراً المواطنين الجزائريين عدم الثورة على حكامهم، الذين هم جزء من هذا النظام الكافر بحسب قوله. وهكذا، تسعى الدعوة السلفية، على الرغم من أنها تعتبر الديمقراطية شكلاً من أشكال الشرك، إلى المحافظة على علاقاتها الجيّدة مع السلطات لتبقى قادرة على ممارسة دورها البارز في إعادة أسلمة المجتمع الجزائري.

نظراً إلى التداعيات السياسية لجهود إعادة الأسلمة غير السياسية بحسب الدعوة، بدأ بعض الأعضاء النافذين في النظام بإبداء قلقهم. فقد أشار وزير الشؤون الدينية والأوقاف محمد عيسى مراراً وتكراراً إلى الصعود المُقلق للدعوة السلفية وإلى بذور التطرّف المحتمل التي تحمله أفكارها. في العام2015 ، على سبيل المثال، وبعد أن أطلق بعض مناصري الدعوة حملة جابت شوارع العاصمة لحثّ الجزائريين على عدم الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف، ندّد عيسى بهذه الحملة ودعا الجزائريين إلى الاحتفال بهذا العيد كما يجري في كل عام. وفي آذار/مارس 2018، ندّد عيسى بفتوى أصدرها الشيخ فركوس وكفّر فيها الإباضية والصوفية وجماعة الإخوان المسلمين. وفي حزيران/يونيو 2018، بعد أشهر عدة على ذلك، قرّر عيسى الذي كان قلقاً من صعود الفكر السلفي في مساجد البلاد، تجميد تجديد "الجمعيات الدينية المسجدية" التي اخترقتها الدعوة للضغط من أجل تعيين أئمّة موالين لها.

يبدو عموماً أن التطورات الأخيرة في الجزائر تشي بأن الدعوة ستحافظ على تكتيكاتها العلمية غير التصادمية في الغالب. فمنذ بدء المظاهرات ضد بوتفليقة في شباط/فبراير 2019، التزم قادة الدعوة الصمت. وعلى الرغم من اتساع نطاقها إلى الحدّ دفع بوتفليقة إلى التنحّي، حافظ قادة الدعوة على موقفهم القاضي بعدم الوقوف ضد النظام والمنظومة السياسية. ويُرجّح أن الحركة ستواصل تجنّب العمل السياسي وتركّز عوضاً عن ذلك على الأنشطة الدينية.

في غضون ذلك، تضمّن الدعوة السلفية ملاحظات سياسية في إرشاداتها الدينية، ما يظهر أن السياسة تؤثّر إلى حدٍّ ما بشكلٍ مباشر على الحياة الدينية. تتحكّم الحركة بالالتزام الديني لملايين الجزائريين في وجه موجات التغيير. من خلال هذه الأنشطة وموقفها العلمي، تتجنّب الدعوة سخط السلطات من جهة، وترسي من جهة أخرى الأسس اللازمة لبناء مجتمع إسلامي وفقاً لمعاييرها السلفية. فعلى حدّ قول الألباني: "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم".

خاتمة

فيما تتوالى فصول مرحلة ما بعد بوتفليقة، يُرجّح أن يواصل قادة البلاد المدعومون من الجيش رسم مسارات سياسة الدولة إلى حدٍّ بعيد. بيد أن مختلف المجموعات الإسلامية في البلاد لاتزال توفّر منبراً مهماً لفهم طبيعة المجتمع الذي تحكمه. على الرغم من حدوث أعمال عنف جهادية متفرّقة ومحلية للغاية، لم يعد الإسلام المتطرّف يمثّل مساراً مرغوباً به أو قابلاً للحياة لمعظم الجزائريين. وفيما ستبقى الأحزاب الإسلامية المعتدلة على الأرجح أطرافاً سياسية فاعلة خلال العملية الانتقالية، ستتعرقل جهودها بسبب نظرة الرأي العام إليها على أنها مجرّد ذيول للنظام. في غضون ذلك، ستواصل الدعوة الإفادة من الجوانب غير السياسية في المجتمع سعياً إلى تطبيق أجندة إعادة أسلمة ترمي إلى إعادة تشكيل الهويات الاجتماعية والدينية الجزائرية وبناء التضامن على أساس ممارسات يومية ذات تأثيرات سياسية بارزة.

باختصار، لا يزال الإسلام السياسي حيّاً يُرزق في الجزائر، وسيبقى يشكّل سمة بارزة في الحياة العامة في البلاد، فيما تتأرجح حياة المواطنين العاديين على وقع مشهد سياسي يلفّه الالتباس.

معهد كارنيجى

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags