بابكر فيصل:
في رثائه للمفكر المصري الراحل، كمال أبو المجد، قال سعد الدين إبراهيم إن كثيرين سيذكرون مآثر الرجل، من بينهم "عقلاء جماعة الإخوان المسلمين" الذين طالما نصحهم بأن يتجاوزوا الماضي ويستفيدوا من دروسه، وأضاف أنه سأل أبو المجد عن الحكمة وراء تلك النصيحة بالذات فأجابه قائلا: "إن أغلبية الإخوان المسلمين، وخاصة قياداتهم كانوا مثل أسرة البوربون التي حكمت فرنسا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: لا يتذكرون شيئا، ولا يتعلمون شيئا، فيرتكبون نفس الخطايا، فيثور عليهم الشعب من جديد".
وجدت توصيف أبو المجد للإخوان المسلمين صائبا إلى الحد البعيد خصوصا فيما يلي دعوتهم لقيام الدولة الإسلامية وسعيهم الدؤوب للوصول للسلطة لإنفاذ شعارات الحاكمية والشريعة دون أن يكون لهم رؤية واضحة لماهية الدولة التي يريدون إقامتها أو البرامج المفصلة التي يسعون لتطبيقها.
وهو الأمر الذي أكده قبل سنوات زعيم الجماعة في السودان، حسن الترابي، الذي قاد الإخوان المسلمين للسلطة عبر الانقلاب العسكري على النظام الشرعي المنتخب في يونيو 1989، ولكنه بعد مرور عشر سنوات على وجودهم في السلطة انشق عن تلاميذه الذين آثروا البقاء مع العسكر الانقلابيين وقام بنقد تجربتهم في الحكم معلنا كفره بالانقلابات العسكرية.
في هذا الإطار قال الترابي إن: "الحركات الإسلامية تريد إقامة دول إسلامية وتطبيق الشريعة ولكنها لا تعرف طريقة إقامة الدولة وشكلها. إن المشروع الإسلامي في الأغلب نظري لا علاقة له بالواقع".
وأضاف "يجب أن تأتي كل الحركات الإسلامية في عالمنا بالبرامج المفصلة في كل هموم الحياة، الآن هم مواجهون بالأسئلة الصعبة حول العلاقات الدولية وقضايا الديمقراطية ومعاش الناس، ليت الحركات الإسلامية تخرج من الشعارات المبهمة إلى تقديم مناهج مفصلة".
وعندما سُئل الترابي في حوار مع صحيفة الاتحاد الإماراتية عام 2004 عن شعار "الإسلام هو الحل" أجاب بالقول: "حينما قابلت عباس مدني الزعيم الاسلامى الجزائري مؤخرا في الدوحة بقطر نصحته وإخوانه ألا يدخلوا الانتخابات الجزائرية وسألتهم: ماذا أعددتم من برامج للحكم؟ وقلت لهم إن شعار الإسلام هو الحل لا يكفي".
قال الترابي حديثه أعلاه في السنوات الأولى من الألفية، وبعد تجربة حكم فاشلة أنتجت نظاما شموليا قابضا صادر الحريات ومارس أفظع أنواع الكبت والقمع، وأشعل الحروب الأهلية، وشهدت البلاد في ظله أوسع انتشار للفساد وسوء الإدارة، ولكن الترابي نفسه لم يدرك أن تلك العلة ظلت مصاحبة لمسيرة الجماعة منذ نشأتها، ولم يدرس تاريخ الجماعة جيدا قبل أن يتخذ قرار تنفيذ الانقلاب العسكري للوصول للسلطة.
قبل حوالي نصف قرن من حديث الترابي المشار إليه، وعلى وجه التحديد في عام 1952، كتب الداعية الإسلامي، محب الدين الخطيب، الصديق المقرَّب من مؤسس الجماعة ومرشدها الأول، حسن البنا، وأحد المؤسسين لمجلة الإخوان "المسلمون"، مقالا بمجلة "المسلمون" تحت عنوان: "متى وكيف يقوم الحكم الإسلامي".
تحدث الخطيب في مقاله عن الانتخابات التي جرت في "ديار الشام" قبل ستة أعوام من تاريخ كتابة المقال، وقال إن الإخوان المسلمين هناك وجدوا تعاطفا عظيما، ولكنه لم يكن متحمسا لتقدمهم في الانتخابات، وقد لاحظ حسن البنا عدم حماسته لأمر فوز الجماعة في الانتخابات، وقام بزيارته في مقر صحيفة الإخوان التي كان يرأس تحريرها، وقال له إن جميع الإخوان مهتمون بانتخابات الشام "إلا أنت فإني أراك واقفا تتفرج بدم الشيوخ، وعهدنا بك أنك أكثر حماسة منا لكل ما نتحمس له".
أوضح الخطيب أنه أجاب على البنا قائلا: "إني خائف أن ينجحوا، وأن تكون أكثرية النواب منهم، فتكون النتيجة تأليف الوزارة منهم واضطلاعهم بمسؤولية الحكم (...) فبدت على وجهه إمارات الدهشة رحمه الله وسألني: وهل هذا مما تخافه؟ قلت: أجل". قال البنا: " إذن فإني كنت مصيبا بالمجيء إليك الآن، فإن اختلافنا إلى هذا الحد يحتم علينا أن نتفاهم".
أضاف الخطيب أنه سأل البنا: "هل لو بلغ النجاح بالإخوان المسلمين في الشام إلى درجة أن تتألف منهم الوزارة، سيتولون الحكم بالموظفين الموجودين في الوزارات والمصالح والدوواوين، أم سيعزلونهم ويأتون بموظفين من بلاد أخرى؟"، فأجابه البنا "طبعا سيبقى الموظفون كما هم، إلا من يكون ملوثا بمخازي يؤاخذه عليها القانون".
أوضح الخطيب للبنا أن العيوب التي أصابت نظام الحكم كبيرة وأن الشكوى من الموظفين الموجودين عظيمة، وأنه ستترتب على الاعتماد عليهم نتائج وخيمة "ومهما استعان وزراء الإخوان المسلمين برؤساء تغلب عليهم النزاهة فإن العيوب أفدح من أن تصلح إلا بقوة خارقة تتاح من عالم الغيب، وهذا ما لا نرى الآن دلائله، ونتيجة ذلك أنه سيوصم به الإسلام نفسه".
أما السؤال الأهم الذي وجهه الخطيب للمرشد المؤسس، فقد كان: هل وزارة الإخوان المسلمين ستتولى الحكم بهذه الأنظمة، أم أعددتم أنظمة إسلامية تحل محلها؟، أجاب البنا قائلا: "لم تتح لنا الفرصة بعد لإعداد أنظمة إسلامية، ولم يتخصص أحد منا حتى الآن لهذه الدراسة، ولو فعلنا فإن الجو لا يلائم هذا التغيير، ولا نجد الآن من يعين عليه".
أوضح الخطيب للبنا رؤيته المتمثلة في أنه "إذا كان الإخوان المسلمون في الشام ستتولى وزارتهم الحكم بالأنظمة الموجودة وبالموظفين الموجودين، فما فائدة الإسلام من هذا؟ أنا أرى أن تحمُّل غير الإخوان المسلمين مسؤولية هذا العبء أكثر فائدة للإسلام من تحمل الإخوان هذه المسؤولية".
الحركات الإسلامية لا تعرف طريقة إقامة الدولة وشكلها
ثم قال محب الدين الخطيب شارحا فكرته: إن المسلمين مضى عليهم سنوات يقتصرون في إسلامهم على المسجد ومظاهر رمضان ومناسك الحج، ألا يستطيعون أن يصبروا عشرين سنة أخرى يربون فيها جيلا يعيش للإسلام وأنظمته، لا لنفسه ووجاهته، ويعدون فيها لذلك الجيل أنظمة الإسلام وآدابه وقواعده وأحكام فقهه الاجتماعي والإداري والمالي والدولي، فضلا عن تنظيم فقه الالتزامات والعقود، وفقه القصاص والتعزيرات والحدود. وأعظم من كل ذلك أن نتعرف إلى سنن الإسلام في أهدافه الملية وتوجيهاته المتعلقة بكيانه ومقاصده ومراميه. إن هاتين الأمانتين: أمانة إعداد الجيل الآتي، وإعداد النظام له، إذا استطعنا القيام بهما في عشرين سنة كان هذا أعظم عمل قام به المسلمون منذ ألف سنة إلى الآن.
نحن هنا بإزاء وجهة نظر مختلفة أبداها الخطيب حول توجه الإخوان للحكم وطريقة تعاملهم مع السلطة، فالرجل يعتقد أن الأولوية يجب أن تكون لتربية وتدريب أعضاء الجماعة على أساليب الحكم حتى يستطيعون إدارة جهاز الدولة على الطريقة الإسلامية كما يفهمهما الإخوان المسلمون، وهو كذلك يدعو لأن تطور الجماعة منظورها لنظام الحكم الإسلامي الذي تدعو له، والذي يجب أن يكون بالضرورة مختلفا عن أنظمة الحكم السائدة.
أما النقطة الأكثر أهمية التي أثارها الخطيب فهي عدم امتلاك الإخوان المسلمين لتصورات واضحة للدولة الإسلامية التي ينشدون إقامتها، وهذا هو جوهر المشكلة التي ظلت الجماعة تعاني منها منذ نشأتها وحتى اليوم، فهي تكتفي برفع الشعارات التي تخاطب عواطف الناس، وعندما تصل للحكم تعجز عن إدارة السلطة ويكون الفشل حليفها الحتمي.