نجاة السعيد:
لو سئل أي مواطن عربي عن أفضل الطرق للمساهمة في بناء دولة وطنية متقدمة، ربما سيكون الجواب في الغالب هو: «عروبتنا وديننا». نجد «الحنين الرومانسي» من دون أي نقد تاريخي للماضي سيطر على الكثير من التفكير العربي، وبالتالي اختلط مفهوم الدولة الوطنية بالأمة. هذا اللبس بين المفهومين استغله دعاة القومية والإسلام السياسي لتحقيق أهدافهم.
لقد وضح كتاب الدكتور علي راشد النعيمي، «الدولة الوطنية-صناعة النهوض»، مخاطر هذا اللبس، حيث أشار الكتاب إلى عدة نقاط مهمة منها أن الأنظمة القومية والدينية لا تتعايشان مع الدولة الوطنية. معنى الدولة الوطنية المعاصر هو «الذي تتبناه منظمة الأمم المتحدة، ويشتمل على جميع الدول الأعضاء في هذه المنظمة وهي الدولة التي تقوم على معايير واضحة المعالم من حيث الإقليم والشعب والسلطة الحاكمة، والسيادة الدولية، والاعتراف الدولي. أما مفهوم الأمة الذي يشمل العروبة والدين يعني مشاعر وجدانية ومشتركات ثقافية».
فكرة القومية لم تنجح في العالم العربي لأنها أدت إلى التهميش والعنصرية لفئة على حساب فئة، حيث فرضت قومية جزء من الشعب على باقي القوميات. لقد حدث هذا في عدة دول عربية، فمثلاً ظهرت الصراعات الداخلية بين الأكراد والعرب في العراق وفي السودان بين الأفارقة والعرب. لكن في الدول الغربية تجاوزت إشكاليات القومية، من خلال تأسيس مفهوم الدولة الوطنية التي تحترم الحقوق للمكونات المختلفة. لكن هذا التطور لم ينتقل إلى العالم العربي.
أما جماعات الإسلام السياسي فقد استغلت المفهوم الوجداني للأمة إلى أبعد الحدود، وتلاعبت بحقائق كثيرة في التاريخ والتراث والدين لخدمة مصالحها. وما عُرف في التاريخ الإسلامي باسم الخلافة لم يكن في يوم من الأيام دولة بالمعنى المعاصر للدولة. فقد كانت الخلافة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين نوعاً من التنظيم السياسي للمجتمع يشبه النظام القبلي المتطور، لكن لم تكن موجودة دولة المؤسسات مثل مؤسسة الجيش، التعليم، الصحة، التجارة، الزراعة، وغيرها. أما الخلافة العثمانية ماهي إلا سلطنة عثمانية عبارة عن امبراطورية استعمارية لا تختلف عن الامبراطورية الرومانية.
لقد حاولت الحركات الإسلامية تجميد أي تطور عصري وأغلقت عقول الشعوب بالماضي «المجيد» وتراثه مما أدى إلى
الانغلاق الفكري، ومعاداة العقل، والمنطق، وكراهية الآخر. لقد تجلى ذلك واضحاً فيما يسمى بالصحوة الإسلامية التي ظهرت بشكل واضح في نهاية السبعينيات وهي حركة فكرية اجتماعية «إخوانية» نشأت بدعم من مجموعة دعاة لـ «إحياء دين الإسلام من جديد» على حد وصفهم، لكن هدفهم الحقيقي توظيف الانغلاق الفكري لخدمة أجندتهم السياسية المعادية للدولة الوطنية.
كذلك نظام الخميني الثيوقراطي استغل الدين في السياسة لدرجة كبيرة، ليس فقط أن النظام قائم على أساس مذهبي، وأن السيادة فيه لولاية الفقيه، بل قام بخلط التاريخ بالدين لكي يصير التاريخ جزءاً من الدين. هذا ما نراه في مراسم عاشوراء، وهو حدث تاريخي أصبح كأنه أصل من أصول المذهب. هدف النظام ظاهرياً إحياء ذكرى مقتل السيد الحسين سبط رسول الله، لكن النظام يحاول الاستغلال العاطفي لأتباع المذهب والادعاء أن نظام الخميني ومن يواليه هم أتباع الحسين، أما من هم ضد النظام أتباع قتلته. كل هذا لجلب ولاء المنخدعين بهذه الأيديولوجيات في صف النظام ضد ولائهم للدولة الوطنية. هناك عدة وسائل لترسيخ مفهوم الدولة الوطنية في ذهن الشعوب لكن أهمها من خلال التعليم لخلق ثقافة الدولة الوطنية، وإخراج الأجيال الجديدة من مفهوم الأمة إلى مفهوم الدولة، التي هي عبارة عن مؤسسات تقوم على منظومة الحقوق والواجبات.
*باحثة سعودية في الإعلام السياسي