جمال عمر:
كل يوم، نرى جماعات تديين الواقع ترفع آيات قرآنية ومرويات حديثية منسوبة للنبي، وتستشهد بآراء شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من الشخصيات التراثية، ونرى أشخاصاً يسعون للتشبه بعمر بن عبد العزيز أو عمر بن الخطاب، وآخرين يتفاخرون بانتصارات صلاح الدين... فهل الماضي أو التراث هناك في مكان وزمان ما، ونحن يمكن أن نذهب ونُمسك به ونستعيده؟ أم هو صورة يرسمها المعاصرون؟
هل التراث هناك وسنمسك به؟
هل حين نمسك بأيدينا كتاب "تفسير الطبري" الآن نمسك كتاب الطبري الذي توفي عام 922م/ 310هـ؟
لنبدأ من اسم الكتاب. نطلق عليه "تفسير الطبري"، رغم أن عنوانه كان "جامع البيان في تأويل القرآن". لكن كلمة "تأويل" أخذت محمولات سلبية بمرور الزمن، ومعاني باطنية، بينما أخذت كلمة "تفسير" معاني ودلالات إيجابية، ولذلك أصبح اسم الكتاب حالياً "تفسير الطبري".
كذلك، فإن المحقق الذي حقق هذا الكتاب بدأ عمله من عدد من مخطوطات للكتاب، بل وعدد من الروايات حوله، واعتمد على شروح للكتاب عبر التاريخ، وقام برسم صورة لنا عنه، عبر عملية اختيار قام بها هو، فقد أخذ من كل هذا التعدد والتنوع ما يرى هو أنه يدخل في "متن الكتاب" وهمّش ما قدّر هو أنه لا يدخل فيه وتغاضى عنه.
من جانب آخر، فإن المخطوطة لا تكون فيها قواعد للفصل بين الجمل ولا علامات الترقيم التي نقلناها مع نقلنا للمطبعة عن الأوروبيين، في حين أن علامات الترقيم في نص ما هي أكبر عامل يشكل معاني الكتاب ويحددها، فيصبح وضع علامات ترقيم في تحقيق مخطوطة عند الطباعة ليس فقط عملية تحديد لمعاني معينة وتهميش لمعاني أخرى، بل عملية ترجمة للمخطوطة من لغة إلى لغة أخرى.
وأبالغ وأقول أنها عملية إعادة صياغة وإعادة كتابة للنص وإعادة تأليف، يدخل فيها واقع المحقق وسياقاته، وتاريخيته وهمومه واهتماماته.
أيضاً، حين يضع محقق المخطوطة في الكتاب نص آية قرآنية، فإنه يضعها طبقاً للمصحف الرسمي الحالي الذي انتشر وساد، وهو مصحف القاهرة الذي طبع عام 1924 بجهد لجنة من وزارة المعارف المصرية، وبموجب القواعد التي وضعتها، وهو المصحف الذي قامت عليه كل المصاحف الرسمية التي طبعت في العالم، شرقه وغربه، برواية حفص عن عاصم. فهل حين كُتبت الآية القرآنية في مخطوطة الطبري كانت برواية حفص عن عاصم، أم بروايات أخرى؟ ففي مخطوطات الطبري روايات مختلفة للخطاب القرآني.
على مستوى الوجود الفيزيقي، المحسوس، الملموس، لتحقيق كتاب الطبري يعيد مُحقِق الكتاب رسم النص، عبر عملية التثبيت التي يحوّل فيها مخطوطاً متحركاً عبر الزمن إلى صورة ثابتة، واحدة، متكررة آلاف المرات. فالكتاب المحقَّق الذي بين أيدينا عن مخطوط للطبري هو صورة مُعاد تشكيلها، صورة يدخل في تشكيلها عصرنا وصراعاته، وهمومه وسياقاته وربما أحياناً يكون تأثير ذلك لا يقل عن تأثير سياقات صاحب المخطوطة الذي أملاها.
فبداية من عملية اختيار إعادة نشر هذا الكتاب، دون غيره من الكتب، يُعَدّ هذا الاختيار نتاج همومنا المعاصرة، ويحدده اهتمام المحقق وتحيزاته واهتمامات جهات التمويل وتحيزاتها. فهل يمكننا أن نقول إن واقعنا الحالي له دور كبير إذا لم يكن الأكبر في تشكيل نص كتاب "تفسير الطبري"، وربما بما لا يقل عن دور الطبري ذاته؟
الصفحة الأولى من طبعة المطبعة الميمنية بمصر لتفسير الطبري - الجزء الثاني
ماذا عن مستوى الفهم؟
هذا على المستوى المادي الملموس، المستوى العيني، فما بالك حين ننتقل إلى مستوى الفهم والتفسير وإعادة القراءة والشرح لمضمون الكتاب؟ فمعنى الكتاب لا يأتي فقط من داخل نصه، ومن سياقه التاريخي الماضي وسياقات تصنيفه أو تدوينه أو الإملاء من المؤلف التراثي فقط. نوع الأسئلة التي يطرحها القارئ المعاصر وهمومه، وطريقته في القراءة ومنهجه في التناول يشكلان المعنى المستخرج، ويشكلان المعنى الموظف من النص التراثي في ثقافتنا المعاصرة. فمَن قرأ كتباً أخرى للطبري، حين يقرأ كتابه المحقق يخرج بمعاني منه تختلف عن المعاني التي يخرج بها مَن يقرأ كتابه هذا ولم يقرأ له غيره. وقارئ المخطوطة الذي له خلفية في قراءة كتب تراثية، يستخرج معاني من النص المقروء لا تتطابق مع المعاني التي يستخرجها مَن لم يقرأ كتباً تراثية من قبل، إلخ.
فقارئ النص ليس صفحة بيضاء، بل متحيّز منذ البداية، وتحيُّزه يبدأ من اختيار هذا الكتاب ذاته للقراءة. القارئ متحيز أيضاً من نوع الأسئلة التي تشغله ويبحث عن إجابات لها، ومن الموضوع الذي يهتم به دون موضوعات أخرى. بل إن معاني الكتاب من القراءة الثانية له تختلف عن المعاني من القراءة الأولى، ليس لأن الكتاب العيني اختلف، بل لأن القارئ ذاته اختلف وعيه عن وقت القراءة الأولى، بما حصّل من معارف ومعانٍ من وعن نفس النص.
بتعبير آخر، المعنى اختلف لتغيّر سياق القارئ ذاته. فعلى المستوى الشخصي الفردي، حينما تحتفظ ذاكرتنا بواقعة، نعيد تشكيلها في ذاكرتنا المحفوظة أصلاً، فنضيف إليها ونحذف منها، كل مرة نحاول فيها تذكر هذه الواقعة أو تلك الذكرى. وعلى المستوى الجمعي العام، هناك شيء قريب من ذلك يحدث، كل مرة، كثقافة وكوعي، نحاول أن نستعيد لحظة من الماضي، إذ نعيد تشكيلها وصياغتها داخل الذاكرة الجمعية.
فهل هنا يمكنني القول إن التراث هناك في زمان ومكان ما في الماضي منفصلين عني، وإن له وجوداً مستقلاً عن وجودي وإنه يمكنني أن أعود إليه وأمسك به وبمعانيه الكائنة داخله؟ أم أن التراث هو صورة أرسمها أنا (كفرد وكوعي جمعي) عن الماضي وعن التراث، صورة تكوينها الأساسي نتاج واقعنا المعاصر وهمومه وصراعاته أكثر مما هي بنت السياق التاريخي للماضي فقط؟
وهل يمكنني أن أدّعي أن التراث ليس هو المخطوطة وليس هو الطبري الذي مات في القرن العاشر الميلادي/ الرابع الهجري، بل إنه ما ترسب وما استمر من معانٍ وأفكار وقيم من هذه المخطوطة التراثية ومن الطبري ومخطوطه "جامع البيان في تأويل القرآن" في وعينا المعاصر؟ بعبارة أخرى هل يمكنني القول إن التراث هو ما ترسب تحت جلدة وعينا من صور للماضي، صور ترسمها همومنا الآن ويحددها عصرنا الحالي وتشكلها أسئلتنا نحن أكثر مما تشكلها هموم الماضي أو جهود التراثيين؟
لكن هنا يبرز سؤال مهم: أليس للطبري ولكتابه وجود موضوعي في الماضي مُنفصل عني أنا الآن وعن ثقافتي والوعي الجمعي المعاصر؟ الأمر في تصوري البسيط أن أي وجود موضوعي منفصل عني كفرد أو عني كوعي جمعي، لن أدركه أو أعيه، أو بتعبير أدق، لن يكون له وجود إلا عبر مروره من خلال وعيي أنا ومدركاتي أنا كفرد وكثقافة جمعية.
هذا الوعي وتلك المدركات تتشكل صورها عبر ومن خلال قدراتي المحدودة كإنسان وكوعي جمعي، قدرات محدودة بوسائلنا في الإدراك وبشروط قدرتنا على الوعي، فقدراتنا على الوعي محدودة بحدود الزمان والمكان وشروط سياقاتنا المعاصرة وبحدود همومنا نحن، ما يؤدي إلى أن أي وجود للطبري أو لمخطوطاته خارج وعينا هو وجود ثانوي. بل أبالغ وأدعي أن وجود التراث والماضي "الموضوعي" خارج وعينا ليس هو الأهم، فوعينا المعاصر هو الذي سيعطي للتراث وللماضي وللمخطوطة صورها، الصور التي سيعيد تشكيلها، حسب قدراته وقدراتنا في الإدراك وحسب وشروط وعينا وحسب حدود همومنا واهتماماتنا المعاصرة الحية.
فهل بناءً على هذا الفهم وذلك التصور يمكنني القول إن لحظتنا الراهنة بهمومها وبحدودها الزمانية والمكانية هي التي ترسم صورة الماضي وصورة التراث، وإننا حين نبحث عن الطبري أو البخاري أو ابن تيمية أو الشافعي أو ابن رشد أو ابن طفيل أو ابن خلدون أو ابن عربي أو الجرجاني أو حين نبحث عن ماركس أو هيغل أو فولتير أو روسو، إلخ، فنحن نبحث عن صور مرسومة في وعينا المعاصر، صور شكلّها وعينا الحالي، أكثر مما شكلها الماضي أو التراثيون؟
ويصبح مهماً أن تكون نقطة بداياتنا للفهم وللبحث هي أن نعي لحظتنا الراهنة ومكوناتها وما يؤثر فيها وفي تكوينها وأن نعي أنها هي الماكينة بل هي العدسة التي ترسم عالمنا، الماضي منه والمستقبل، بل وترسم واقعنا الراهن أيضاً.
لحظتنا الحديثة كنقطة بداية
إذا كان الماضي والتراث يمران إلى وعينا عبر لحظتنا الراهنة، لحظتنا المعاصرة، وهذه اللحظة هي التي ترسم صورنا عن ماضينا، وتشكل تصوراتنا عن التراث، فهل يجب أن تكون لحظتنا الراهنة، وهمومها، ودورها في تشكيل ماهية التراث وماهية الماضي وكيف يُعاد توظيفهما في الثقافة المعاصرة هي نقطة بداية لنا؟
لحظاتنا الحديثة أبدأها بالحملة الفرنسية على مصر والشام، ليس رفضاً للإرهاصات التي شهدها الداخل قبل الحملة ودورها، أو رغبة في تمجيد التغريب أو الحداثة، حتى ولو كانت غزواً، بل لأن نقطتي الفاصلة في اختياري هي أن الغزو الفرنسي وضع الذات أمام صورتها في مرآة الآخر.
فصورتنا التي رأيناها في مرآة الآخر، الغازي، المتقدم، القوي، كانت لحظة فارقة بين ما قبلها وما بعدها، بغض النظر عن مقاصد ومساعي الآخر وأهدافه من حملته.
لحظة الغزو هذه ولّدت صورة عن الآخر تختلف عن تجارب سابقة لنا معه وعن الصور التي تولدت عنها. فحملات الفرنجة التي رفعت شعار الدفاع عن الصليب، كانت تحدياً عسكرياً، لكنها لم تمثل بقدر كبير تحدياً ثقافياً ومعرفياً. لذلك فما أن تم رد خطرها العسكري المباشر، انتهى تأثيرها الثقافي والمعرفي.
لكن لحظتنا الحديثة لا تمثل خطراً عسكرياً فقط، بل هي تحدٍّ معرفي وثقافي، وتشهد تغيرات في الاجتماع البشري وفي الاقتصاد وفي السياسة، بسرعات لم تشهدها البشرية من قبل ولم تشهدها مجتمعاتنا من قبل. فالآخر الآن هو تحدٍّ عسكري، لكن التحدي الأهم والأخطر يتمثل في الحداثة الغربية وما تمثله من تحديات وتهديدات، بنظر الكثيرين منا.
لحظة الصدام هذه وطبيعتها جعلت الآخر في وعينا صورة لها وجهان، وجه الغازي المعتدي الذي يجب علينا أن نقاومه، والخطر الزاحف علينا الذي يجب أن نحصن أنفسنا ضده؛ أما الوجه الآخر فهو وجه النموذج والمثال الذي نريد أن نتعلم منه، وننقل عنه، ونرسل أبناءنا عنده للتعلم ومرضانا للعلاج في مستشفياته. وفي النصف قرن الأخير أصبح "الآخر" الملجأ والملاذ اقتصادياً وسياسياً لعديدين منا.
هذه الازدواجية في نظرتنا للآخر، كخطر نقاومه ونموذج نتعلم منه وننقل عنه، أنتجت، مع عوامل أخرى، ازدواجية في نظرتنا للتراث وتعاملنا مع ماضينا، ليصبح الماضي والتراث عامل فخر ومصدر تعالٍ نحتمي به في مواجهة حالة الضعف الواقعة في مواجهتنا للنفوذ الغربي: العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي. نبحث في ماضينا عن لحظات مجد وفخر، ولا نذهب لدراسته في سياقاته لنتجاوزه ولننتج إجاباتنا نحن عن تحديات عصرنا، بل نفتش عن أدوات تساعدنا في حربنا وفي صراعنا مع الغرب.
هذا يحصر ما نأخذه من ماضينا ومن تراثنا في ما هو "نافع"، ويصبح "الاستخدام النفعي للتراث هو الحل"، التراث كمجرد أداة، أو سلاح في معركة.
الجانب الآخر من الازدواجية هو أن الماضي والتراث أصبحا في وعي كثيرين مصدر تخلفنا وسبب ما نحن فيه من تراجع وضعف، ويرون أنه علينا أن نتخلص منهما لكي نتقدم، ليصبح الحل عند هؤلاء هو أن ندير ظهورنا لماضينا ولتراث أسلافنا وتصبح القطيعة بمعنى بتر التراث هي الحل.
هذه الازدواجية في صورة الآخر وفي صورة التراث ودور كل منهما في وعينا المعاصر جعلت البحث عما ينفع وما يفيد في الصراع والسجال القائم هو الأهم، لتصبح النفعية هي الغاية، ويصبح الانتقاء هو المنهج في التعامل مع ماضينا ومع ماضي الآخر.
النفعية والانتقاء في ظل السجال والصراع دفعتا إلى فصل ظواهر الماضي وجوانب التراث عن سياقاتها، وحولتا ماضي الآخر وتراثه إلى نُتف منفصلة معلقة في الفراغ، بلا سياق، ما خلق مع عوامل أخرى تراثيه حالة من اللاتاريخية الفكرية في تعاملنا مع تراثنا ومع تراث الآخر، ليصبح ماضينا فيه كل شيء عند فئة ولا شيء عند آخرين، وجعل ماضي الآخر الغربي هو النموذج المثال عند فئة وهو الخطر والغزو فقط عند آخرين.
رصيف 22