الفقه فى خدمة السياسة - Articles
Latest Articles

الفقه فى خدمة السياسة

الفقه فى خدمة السياسة

د. محمد فياض

 

لا شك أن تحول الخلافة إلى مُلك على يد معاوية جعل منصب الخلافة الإسلامية سياسيًّا أكثر منه دينيًّا، وأن الدولة الأموية وظَّفت كل ما في جعبتها لاستمرار الخلافة أو الملك في أسرتها، فقامت بتوظيف الدين والقبيلة والغنيمة والسيف في استمرار وجودها. وفي الحقيقة فقد استطاع معاوية ببراعة أن يكتسب إلى صفه أبا هريرة. وأبو هريرة فى هذا الصدد يعني الشيء الكبير، يعني فيضًا سائلًا من الروايات والأحاديث، حسب أحد الباحثين.

مثل «سمعت رسول الله يقول: إن الله ائتمن على وحيه ثلاثة: أنا وجبريل ومعاوية». وفى رواية أخرى: «الأمناء الثلاثة: جبريل وأنا ومعاوية»، أو كما روى أن الرسول ناول معاوية سهمًا، فقال خُذ هذا السهم حتى تلقاني به فى الجنة. والقضية المهمة التي تتعلق باختلاق الأحاديث، حسب ما عبر عبد الجواد ياسين: «أنها أحاديث عن السلطة بفعل السلطة ولصالح السلطة، أو ضد السلطة بفعل المعارضة ولصالح المعارضة»، وهنا يستوى أن تكون هذه الأحاديث قد حدَّث بها أبو هريرة أو تكون مدسوسة عليه مصنوعة الإسناد إليه، ففي كلتا الحالتَين سوف نجد السلطة كامنة خلف الروايات، إما بالتأييد وإما المعارضة، وفي كلتا الحالتَين يثبت فعل التاريخ في كثير من الروايات التي وصلت إلينا باعتبارها نصوصًا مطلقة.

وفي السياق ذاته، فلدينا إحدى الحكايات عن أحد معارض معاوية بن أبي سفيان، والذي تم قتله سنة 51هـ، ويدعى حجر بن عدي الكوفي، وكانت وثيقة الاتهام الموجهة ضده والموقعة من عديد من الفقهاء ورجال الدين... «أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة ولعن الخليفة ودعا إلى الحرب والفتنة وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين معاوية، وكفر بالله كفرة صلعاء».

كما أنتجت الآلة الفقهية الأموية كمية وافرة من الروايات المرفوعة في تكفير الخوارج وتحليل دمائهم مما سنقرأه في كتب الفقه ضمن الأبواب المخصصة للبغاة، مثل الحديث الموضوع «الخوارج كلاب النار»، كما تم توجيه الفتاوى ذات الطابع السياسي أيضًا إلى صدور العلماء في عصر الدولة الأموية، مثل ما حدث من قتل جهم بن صفوان وغيره بمباركة من فقهاء عصره.

ومن الفتاوى المهمة جدًّا في هذا الصدد أن أحد خلفاء الدولة الأموية والذي كان متقشفًا، وفي اليوم الأول الذي دخل فيه قاعة الحكم، تأمَّل العرش، وقال: أنا لست كسرى ولا قيصر، أحضروا لى مقعد ابن عمي عمر بن عبد العزيز. ورفض كل إغواء للسلطة، ولكنه فوجئ بمشايخ دمشق وعلمائها، وكانوا أربعين شيخًا، قالوا له: «أنت تأخذ نفسك بالشدة وتبالغ فى التقشف وتمنع نفسك من كل متع الدنيا وملذاتها»، فقيل له من الفقهاء: «إننا قد جمعنا كل ما قيل في أحكام السلطان من فتاوى وأحاديث، وكلها تجمع على شىء واحد ومؤكد، أنه ليس على الخلفاء والسلاطين حساب ولا عقاب في الآخرة». وأقسموا على ذلك قائلين: «فالسلطان القوام لا يُحاسب والخليفة لا يُحاسب، وما يتحمله في الدنيا من أعباء الحكم يكفيه ويجعله بريئًا وطاهرًا أمام رب العالمين، إنه ظل الله فى الأرض، فكيف يُحاسب ظله؟!».

ولم يؤدِّ التحول العباسي إلى إلغاء الاستبداد العائلي الذى أنشأته الدولة الأموية، ولكنه أدَّى إلى تعديل جوهري في طبيعة الاستبداد الذي صار يتأسس بشكل صريح على مبررات دينية، فتمخضت عن ذلك فكرة أن الدولة حارسة الدين، ويمكن أن نصف خلافة بني العباس بأنها سيادة الدولة على الدين، وقد استعملوا مَن يطارد الزنادقة، وأنشؤوا نظامًا في امتحان عقائد الناس، كما استدعوا علماء الشريعة من المدينة إلى بغداد وكانوا دائمًا ما يسألونهم على آرائهم، كما كانوا حريصين على وضع المشكلات السياسية في ثوب فقهي مستغلين هذا فى أغراضهم الخاصة، حتى إن بعض الطروحات تتحدث على أن اقتضاب البخاري في ذكر مناقب معاوية راجع إلى الضغوط المباشرة للسلطة العباسية أو الضغوط غير المباشرة للسلطة كما عبر بعض الطروحات.

ومن المدهش أن أعلام التنوير والثقافة في التاريخ الإسلامي، وهم المعتزلة، قد تحولوا إلى أدوات طيعة في يد السلطة، فقد شكَّل تمكُّن المعتزلة من السلطة إبان عصر المأمون مرحلة مفصلية في علاقة السياسة باللاهوت والفكر الإسلامي، فالمعتزلة الذين نادوا بحرية الرأي والفكر يجبرون القضاة ثم العامة على الاعتقاد بآرائهم، فكان هذا شكلًا من أشكال فرض المعتقد بالقوة. ولا شك أن سيطرة المعتزلة على زمام السلطة وفرض مذهبهم كمذهب رسمي في عهد المأمون والمعتصم والواثق بقوة التفتيش ومحاكمة عقائد الناس توضح لنا كيف كان دعاة حرية الفكر وحرية الإنسان من أشد الناس قمعًا واستبدادًا، وأن ما فعلوه لا يمت بصلة إلى حرية الرأي ولا إلى الحرية الفكرية.

فتروي كتب التاريخ أن المأمون طلب من رئيس شرطة بغداد أن يجمع القضاة ويمتحنهم في خلق القرآن، فمَن امتنع عن الإقرار به أقصاه من عمله ومَن أقر به عاد إلى عمله، وطلب من القضاة الذين يقولون بخلق القرآن امتحان الشهود فيه، فمَن لم يقر رفضوا شهادته. وحجته في ذلك أن مَن لم يكمل دينه ويصح إيمانه لا يمكن أن يوثق بقوله ولا عمله.

كما يأتي الخليفة المعتصم كمثال له دلالته في هذا السياق، فقد سار على نهج أخيه المأمون، فانتصر للمعتزلة وواصب بامتحان أهل السُّنة بخلق القرآن، وأرسل إلى واليه بمصر يأمره بامتحان أهلها بذلك، فنالت علماء مصر محنة عظيمة وضُرب كثير منهم بالسياط.

وفي السياق ذاته، أهدى ابن الربيع (تـ277هـ) كتابه «سلوك المالك في تدبير الممالك»، إلى الخليفة المعتصم بالله، فقال: «ومن سعادة أهل الزمان أن إمامهم ومتقلد سياستهم ومدبر ملكهم من هو مجمع المحاسن المذكورة، ومعدن الفضائل المشهورة، ومَن جمع هذه المحامد المشكورة مَن جاد الزمان ببقائه على الدين وذويه ومنّ الدهر بوجوده على الإسلام، وهو سيدنا ومالكنا خليفة الله فى العباد، والسالك فى سبيل الرشاد المعتصم بالله أمير المؤمنين».

أما عصر الخليفة الواثق (227- 232هـ/ 841- 846م) كأحد الذين تحدثت، فلدينا أحد أخطر النصوص وهو ما ذكره ابن الجوزى في حوادث سنة «231هـ/ 845» عندما قال: «وفيها جرى الفداء بين المسلمين وصاحب الروم وجه الواثق في الفداء في آخر سنة ثلاثين فالتقوا في عاشوراء إحدى وثلاثين وأمر بامتحان المسلمين، فمَن قال إن القرآن مخلوق وأن الله لا يُرى في الآخرة فودى، ومَن أبى تُرك مع الروم، وأمر بأن يعطى مَن يقول القرآن مخلوق دينارَين…»، وهنا نجد تناقضًا شديدًا مع ما قيل آنفًا من حرية الرأي إبان فترة خلافة الواثق مع هذا التوجيه الشديد لفكر الدولة بل والضغط الذي وصل إلى السؤال عن الاتجاه الفكري للأسير قبل فدائه.

على أية حال، فقد صارت الدولة ضالعة بشكل مباشر في توجيه ثقافة التدين، وبالتالي في تكوين البنية الدينية التى سيتم توريثها للأجيال التالية الصيغة النهاية للمذهب السُّني المعروف الآن، لا يمكن فهمها أيضًا دون المرور على الدور الذى لعبته السياسات العباسية من خلال الفعل ورد الفعل في تكريس منهجية الحديث، كما كانت حركة الخليفة المتوكل التى أدت إلى تثبيت رؤية الحديث النقلية، رد فعل على السياسات الاعتزالية للمأمون والمعتصم والواثق، حسب تعبير أحد المفكرين.

وعلى جانب آخر، فقد أدى الصراع السياسى بين السُّنة والشيعة إلى أن خلق التشيُّع نصَّه الخاص لحمل مقولاته في الإمامة والعلم والعصمة والوصية والرجعة والغيبة والتقية، وكيف تخلق لدى التيار العام السُّنى نصه الخاص وهو يرد على هذه المقولات وعلى مقولات الخوارج والفرق، مؤسسًا لمنظومته النظرية التى تشكَّلت غالبًا في سياق الرد على مقولات الخصوم، كانت الحصيلة النهائية كمية وافرة من النصوص ذات المضمون الكلامي والسياسي، كما ذكر أحد الباحثين.

فعلى سبيل المثال، تم اختلاق مجموعة من الأحاديث على النحو التالي: «تظهر في آخر الزمان فئة يُقال لها الرافضة، فإذا لقيتموهم فقاتلوهم»، «ولو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب».

«ليس للقدرية ولا للرافضة في الإسلام نصيب»، «يا علِي أبشرك أنت ورهطك بالجنة، لكنه يخرج بعدك قوم يدَّعون حبك والإخلاص إليك ويجرون الشهادة على ألسنتهم ويقرؤون القرآن هؤلاء هم الرافضة، فإذا ما أدركتهم فجاهد فيهم لأنهم مشركون كفرة».

وعلى الجانب الشيعي مثلًا، كانت الآراء الفقهية منخرطة هي الأخرى فى الصراع السياسي، مما عرف بفقه الممارسات المخالفة التي تظهر قدرًا كبيرًا من المخالفات، خصوصًا ما فيه تأليف القلوب وجمع الكلمة وفتح منافذ الحوار، فنجد مخالفات كثيرة في الصلاة، منها على سبيل المثال تعمُّد تغيير الأوقات حتى لا تتداخل مع أوقات أهل السُّنة، فلا توجد أية صلاة يمكن للشيعي الملتزم أن يؤديها بها مع صلاة السُّنة، ومنها جزئيات الصلاة، فكثير من السنن أو المستحبات في الصلاة عن أهل السُّنة تعتبر مبطلات للصلاة عند الشيعة، كالتكتف وقول آمين وكقراءة جزء من سورة.. وغيرها. وفي الصوم الخلاف الأزلي في تحديد مواقيت الشهر، حيث جرت العادة أن يتأخروا يوم الصيام ويوم العيد عن أهل السُّنة، ويتخالفون في وقتَي الإفطار والإمساك، فيفطرون بعد السُّنة بدقائق، ويرون التراويح بدعة لا يجوز فعلها، والحج فيه مخالفات كثيرة، ويتمايزون في الأعياد وفي الذكريات التاريخية، وما يرونه من عدم جواز المسح على الخف عكس أهل السُّنة.. كل ذلك حسب قاعدتهم الأهم «كل ما يناقض إجماع السُّنة يكون صحيحًا»، أو بتعبير آخر «ما خالف العامة ففيه الرشاد»، ومن المعروف أن العامة في المفهوم الشيعي تعني أهل السُّنة.

وبذلك كانت السياسة ضالعة في إنتاج عديد من الأحاديث والآراء الفقهية، لأجل عين المصلحة والسلطة والمكاسب.

 موقع المقال

 


 

 

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags