من خالد بن يزيد في دمشق إلى الحكم المستنصر في قرطبة: علاقة السّاسة بالكتب في التاريخ الإسلامي - Articles
Latest Articles

من خالد بن يزيد في دمشق إلى الحكم المستنصر في قرطبة: علاقة السّاسة بالكتب في التاريخ الإسلامي

من خالد بن يزيد في دمشق إلى الحكم المستنصر في قرطبة: علاقة السّاسة بالكتب في التاريخ الإسلامي

محمد يسري:

 

حملت إلينا صفحات التاريخ الإسلامي أخبار العديد من الساسة الذين مارسوا الأنشطة الفكرية، وارتبطوا في بعض مراحلهم العمرية بالقراءة والكتب بشكل وثيق. تلك التجارب التاريخية، شهدت تداخلاً سياسياً- فكرياً مائزاً، وهو التداخل الذي ساهم في إحداث نهضة فكرية ثقافية شعبية في بعض الأحيان، كما ارتبط بالتأريخ لبعض المواقف المأسوية والحوادث الشخصية المؤلمة في أحيان أخرى.

خالد بن يزيد: عندما تصبح الكتب بديلاً عن السلطة

في عام 64هـ، توفى الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية، فتولى ابنه معاوية الحكم لفترة قصيرة، ثم ما لبث أن تنازل عنه، ورفض أن يسمي خليفة له. البيت الأموي الذي كان يحكم بلاد الشام في ذلك الوقت، وجد نفسه أمام تحد صعب حينما أعلن عبد الله بن الزبير عن نفسه كخليفة في مكة، ولذلك لجأ الأمويين لاختيار مروان بن الحكم كخليفة، وتم تعيين خالد بن يزيد في ولاية العهد. هذا التصرف كان حلاً لانقاذ البيت الأموي من خلال تمثيل فرعيه المرواني والسفياني، وتقليدهما السلطة معاً، بهدف التصدي لنفوذ ابن الزبير المتزايد يوماً بعد يوم. مع استئثار مروان بالسلطة المطلقة، وجد ولي العهد نفسه يبتعد عن دائرة التأثير السياسي، فانكب على مطارحة العلم الذي كان يجد في نفسه إقبالاً عليه، وعمل على الاشتغال بعلم الكيمياء على وجه الخصوص، ويذكر ابن كثير (تـ.774هـ) في كتابه ”البداية والنهاية”، أن خالد قد أتى بالمترجمين من مصر وطلب منهم أن يترجموا له المؤلفات الكميائية القبطية والبيزنطية، وشجعهم على ذلك، وأجزل لهم العطاء نظير خدماتهم، حتى توافرت لديه عشرات المواد العلمية المهمة. إقبال خالد بن يزيد على العلم، ازداد بعدما قام مروان بن الحكم بعزله من ولاية العهد، ولهذا نجده - أي خالد- قد عمل على تدارك حظه العاثر في السياسة، بتفوقه وتمكنه في الكيمياء، حيث انتقل مع مرور الوقت من صفوف القراء، إلى مقاعد المؤلفين، ليصنف بعض المؤلفات الكيميائية المهمة، منها كتاب الحرارات، الصحيفة الكبيرة، والصحيفة الصغيرة، وذلك بحسب ما يذكر ابن النديم (تـ. 438هـ)، في كتابه ”الفهرست”. وهكذا كانت الكتب العلمية، هي السلوى التي لجأ لها ولي العهد المعزول، فارتكن إليها وملئت عليه حياته، وحولت مساره من مجرد سياسي بائس إلى أحد أوائل العلماء التطبيقيين الذين ظهروا في الحضارة الإسلامية.

المأمون العباسي: جدلية العلم والسلطة

في 193هـ، توفى الخليفة العباسي هارون الرشيد، ليقع بعد موته النزاع الشهير بين ولديه، محمد الأمين وعبد الله المأمون. بعد ما يقرب من السنتين، وبعد سلسلة من الأحداث الدامية، اعتلى المأمون كرسي الخلافة العباسية، ليضع حداً للاضطرابات السياسية في الدولة الإسلامية، وليبدأ في الوقت ذاته لمرحلة فكرية جديدة في تاريخ المسلمين. كان المأمون –بحسب ما تصفه أكثر المصادر التاريخية- مختلفاً عن أسلافه من خلفاء بني العباس، ذلك أنه قد تربى في حجر أسرة البرامكة الفرس، وتعرف منذ صغره على التيارات المعتزلية التي كانت تبحث لها عن مكان في الساحة الفكرية الإسلامية. ومن هنا فقد نشأ المأمون على خلفية ثقافية مُركبة، امتزجت فيها المؤثرات الفارسية التراثية من جهة والأفكار المعتزلية العقلية من جهة أخرى، وهو ما نتج عنه قبوله للحيود عن المنهج السني التقليدي الذي انتهجه الخلفاء السابقون عليه، وميله لدراسة علم الكلام والفلسفة، وعقده للمناظرات بين مختلف الفرق والمذاهب الإسلامية. وصفه شمس الدين الذهبي (تـ. 748هـ)، في كتابه "سير أعلام النبلاء" بقوله: "وقرأ العلم والأدب والأخبار والعقليات وعلوم الأوائل، وأمر بتعريب كتبهم... وكان عالماً فصيحاً مفوهاً... يجل أهل الكلام ويتناظرون في مجلسه". يذكر ابن كثير، في كتابه "البداية والنهاية"، أن أحد الشعراء السنة قد هاجم المتكلم المعتزلي بشر المريسي بسبب رأيه في مسألة خلق القرآن، فغضب بشر، واشتكى للمأمون، وطلب منه معاقبة هذا الشاعر، فقال له المأمون عندها "ويحك، لو كان فقيهاً لأدبته، لكنه شاعر"، وهو الرد الذي يُفهم منه تقدير الخليفة للشعراء والأدباء، وفي نفس الوقت اعتبار أشعارهم رأياً لا يدخل ضمن سياق النقاش الجدلي الدائر في دولته. ثقافة المأمون المختلفة، حدت به لجمع مجموعة من أعلام العلماء والمفكرين الموجودين في زمنه، ذلك أنه قرب إليه كل من المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد، والسني يحيى بن أكثم، هذا بالإضافة إلى الإمام علي الرضا، ثامن أئمة الشيعة الإمامية الاثناعشرية، واختاره ليصبح ولياً لعهده. وهكذا، رغم تغول السلطة على المجال الفكري العام في ماعرف بـ"المحنة"، لاحت أهم ثمار تلك التعددية الفكرية بتأسيس "بيت الحكمة"، وازدهار حركة الترجمة والتعريب

الحكم المستنصر: حب الكتب الذي تسبب في نهضة الأندلس العلمية

أما في الأندلس، فقد عُرف العديد من الخلفاء الأمويين، بميلهم للعلم وانكبابهم على مطالعة الكتب، وكان أبرز هؤلاء جميعاً هو الخليفة الحكم المستنصر، الذي اعتلى كرسي الخلافة الأموية في الفترة (350-366هـ).

الحكمالمستنصر

وصف ابن خلدون (تـ.808هـ) الحكم، الذي كان شغوفاً بالقراءة والكتابة، في تاريخه بقوله "كان محباً للعلوم، جماعاً للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله". ويذكر ابن حزم (تـ.456هـ)، في كتابه "جمهرة أنساب العرب"، أن المستنصر كان يشتري أي كتاب يستطيع الوصول إليه، وأن خزانة كتبه، قد فاقت وتعدت كل المكتبات المعروفة في عصره، حتى أنه قام بإقامة مكتبة قرطبة العامة، تلك التي احتوت على ما يقرب من 400 ألف كتاب. يذكر المقري التلمساني (تـ.1041هـ)، في كتابه "نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب"، أن الحكم كان إذا عرف بكتاب جديد، أرسل في طلبه، ودفع فيه المبالغ الكبيرة حتى يتحصل عليه، ومن ذلك أنه قد بعث لأبي الفرج الأصفهاني بألف دينار، للحصول على كتابه "الأغاني"، وذلك قبل أن يشتهر هذا الكتاب في العراق أصلاً. وبحسب ما يذكر محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس"، فأن طبيعة المستنصر الشخصية المحبة للعلم والقراءة قد انعكست على شعبه، حيث أقبل الشطر الأكبر من العوام على تعلم القراءة والكتابة، وأضحى المسجد الجامع بقرطبة، بمثابة جامعة علمية، يحاضر فيها العديد من العلماء والشيوخ، ويدرس فيها المئات من طلبة الأندلس وأوروبا.

المنصور بن أبي عامر: عاشق الكتب الذي دمرها حفاظاً على سلطته

الكثير من الوزراء الذين عرفتهم الدول الإسلامية عبر تاريخها، ارتبطت أسمائهم بالكتب وبالقراءة، بل أن بعضهم نال نصيبه الأساس من الشهرة بسبب انكبابه على المطالعة واقباله على المؤلفات. من بين هؤلاء جميعاً، يقف محمد بن أبي عامر، المعروف بالحاجب المنصور، في مكانة شبه متفردة، حيث ترافقت رحلة صعوده مع علاقته بالكتب، فكانت القراءة والنهم إلى المعرفة مكونان أساسيان في شخصيته المميزة.

المنصور

في عشرينيات القرن الرابع الهجري، خرج محمد من بلدته في حصن طرش الواقعة بالجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، ميمماً وجهه شطر عاصمة الأمويين في قرطبة العامرة، وبمجرد وصوله لها، انطلق من فوره ليحضر دروس العلماء في مسجدها الجامع، واتاحت له الظروف وقتها أن يتتلمذ على يد مجموعة من أكبر وأعظم العلماء والفقهاء، ومنهم أبو علي القالي، أبو بكر ابن القوطية، وأبو بكر بن معاوية القرشي، بحسب ما يذكر ابن خلكان (تـ.681هـ)، في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان". نال ابن أبي عامر حظاً وافراً من الدراسة، كما أنه أقبل على قراءة كتب الفلسفة وعلم الكلام والمنطق، تلك التي ملئت مكتبة قرطبة تزامناً مع حركة النهضة العلمية التي وقعت في عهد الحكم المستنصر. بحسب ما يذكر ابن الأبار في كتابه "الحلة السيراء"، فأن الكتب كانت أول طريق ابن أبي عامر لسلم المجد، ذلك أنه بعد أن انتهى من دروسه، اقتعد دكاناً بجوار مدينة الزهراء، وهي المدينة الملكية التي كان الخليفة يسكنها ويدير منها شؤون دولته، واشتغل ابن أبي عامر بكتابة الشكاوى والالتماسات التي يرفعها الناس إلى الحكومة، ولما اشتهر أمره بين العامة لجمال أسلوبه وقوة عبارته، وصل صيته إلى "صبح"، محظية الخليفة وأم ولده هشام المؤيد بالله، فعينته كوكيل على أملاك ابنها الرضيع، وبعد ذلك ترقى سريعاً في درجات السلطة حتى فرض سيطرته الكاملة على الأندلس كلها. من المفارقات الغريبة، أن المنصور، الذي كان عاشقاً للكتب وللقراءة منذ نعومة أظافره، قد اضطرته الظروف والمستجدات السياسية إلى تدمير الآلاف من المصنفات والمجلدات المهمة، وذلك عندما طالب بعض الفقهاء بالتخلص من كتب الفلاسفة والمتكلمين التي تذخر بها مكتبة قرطبة، واضطر المنصور وقتها إلى مسايرتهم فيما طلبوا حتى يتألف قلوب العوام ورجال الدين، وحتى يحافظ على ما بيده من سلطة. وفي ذلك يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: "فعمد أول تغلبه إلى خزائن كتب الحكم، فأبرز ما فيها بمحضر من العلماء، وأمر بإفراز ما فيها من تصانيف الأوائل والفلاسفة، حاشا كتب الطب والحساب، وأمر بإحراقها فأحرقت، وطمر بعضها، ففعل ذلك تحبباً إلى العوام، وتقبيحا لمذهب الحكم". وهكذا كانت الكتب هي السبب في ترقي المنصور وسطوته، وكانت هي نفسها الوسيلة التي لجأ إليها للحفاظ على تلك السطوة.

الأمير عبد الله: عندما شهد المنفى تصنيف أحد أهم المصادر التاريخية الأندلسية

في الربع الأول من القرن الخامس الهجري، ظهرت بعض الإمارات المنفردة في بلاد الأندلس، تلك الإمارات التي عُرفت باسم ممالك الطوائف، دخلت في تنافس مستمر ضد بعضها البعض. في محاولة أخيرة لتدارك الموقف، اتفق ملوك الطوائف على الاستنجاد بالمرابطين المغاربة، والقتال معهم ضد ألفونسو السادس ملك قشتالة الذي مثل خطراً داهماً عليهم، وفي موقعة الزلاقة 479هـ، تمكن المسلمون من الانتصار ليتراجع ملك قشتالة إلى عاصمته. بعد فترة قصيرة من الاتفاق والتوحد، عاد يوسف بن تاشفين لغزو ملوك الطوائف والسيطرة على ممالكهم. أحد هؤلاء الملوك المعزولين، كان أمير غرناطة، عبد الله بن بلكين بن باديس بن حبوس، والذي كان أول من تعرض للغزو المرابطي من بين ملوك الأندلس، وتم نفيه إلى مدينة أغمات المغربية، فظل يعيش بها عدة سنوات في بؤس وشقاء حتى توفي دون أن يكمل العقد الرابع من عمره

التبيان

 لم يجد الأمير المنفي في منفاه من وسيلة لتسليته أو للتفريج عنه، سوى الكتب، فانكب عليها قارئاً نهماً، ثم ما لبث أن شمر ساعديه مبتغياً أن يصنف كتاباً يحكي فيه عن واقعه وواقع الأندلس المرير، فكتب كتابه الشهير المعنون بـالتبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري بغرناطة، وهو الكتاب الذي نشره المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال في منتصف القرن العشرين تحت مسمى ”مذكرات الأمير عبد الله، أخر ملوك بني زيري بغرناطة”. في هذا الكتاب، تظهر سيرة الأمير الشاب، وتتبين محنته وتاريخ مملكته وأسرته الحاكمة، ولكن مع ذلك يبدو من كلماته الزاهدة الرقيقة، أنه كان متقبلاً لمصيره، وأنه كان قانعاً بمآل أمره، حيث ورد في كتابه مقارنته بين حاله أيام ملكه، وحاله بعد منفاه، فيقول: "وأجدني في كثرة المال، بعد تملُّكي عليه مع ذهابه، أزهد مني فيه قبل اكتسابه، مع سفوف الحال إذ ذاك على ما هي عليه الآن. وكذلك شأني كله في كل ما أدركته قبل من الأمر والنهي، واكتساب الذخائر، والتأنق في المطاعم والملابس والمراكب والمباني، وما شاكل من الأحوال الرفيعة التي نشأنا عليها". وعلى الرغم من اختلاف الأراء حول تقييم تلك الفترة الصعبة التي مرت بها الأندلس، والتباين حول مسؤولية أمراء الطوائف في تلك المرحلة، فأن مذكرات الأمير عبد الله، تعتبر أحد أهم المصادر التاريخية التي لا غنى عنها في سبيل التعرف على ظروف ومتغيرات هذا العصر، خصوصا وأن صاحبها، كان أحد السياسيين، الذين وإن كانوا قد فشلوا في ساحة السلطة، فأنه قد نجح بالمقابل في نقل تجربته على صفحات كتابه.

رصيف 22

 

 

 

 

 

 

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags