ماهر جبره:
مرة أخرى يتم توجيه تهمة ازدراء الأديان إلى واحد من أهم الأصوات التي تدافع عن الفكر التنويري في مصر والعالم العربي، الدكتور خالد منتصر. فمنذ عدة أيام تقدم أيمن محفوظ المحامي ببلاغ للنائب العام متهما منتصر بازدراء الأديان وإهانة الشيخ محمد متولي الشعراوي، بسبب مقال كتبه عن زراعة الأعضاء البشرية.
المقال دافع عن فكرة التبرع بالأعضاء باعتبارها إنقاذ لمرضى تتوقف حياتهم على هذا النوع من العمليات، ونقل تصريح وزير الصحة السعودي الدكتور توفيق الربيعة الذي قال "إن امرأة ميتة دماغيا أنقذت حياة سبعة أشخاص، بعد نقل أعضاءها بنجاح لهم". ثم ناقش بعد ذلك فتوى الشعراوي التي اعتبرت نقل الأعضاء حرام شرعا باعتبار أن الجسد مملوك لله وليس للإنسان.
ثم قال إنه بالرغم من أن مصر شرّعت بالفعل نقل الأعضاء ولكنها تأخرت في هذا الشأن لسنوات طويلة، ومات على أثر ذلك آلاف كان من الممكن إنقاذ حياتهم لولا هذه الفتاوى.
كان هذا ملخصا للمقال القصير الذي كتبه منتصر، الذي لا أرى فيه أي مخالفة للقانون من أي نوع. ولكن يبدو أن مقدم البلاغ اعتبر أن مجرد نقد أو مناقشة فتوى الشعراوي الواردة في المقال ازدراء للإسلام!
الملفت للانتباه هنا أن د. خالد منتصر ليس فقط كاتب مهموم بالشأن العام ولكنه أيضا رئيس قسم الأمراض الجلدية والتناسلية بهيئة قناة السويس. ونحن هنا أمام حالة قانونية عجيبة، طبيب بل أستاذ في الطب متهم بازدراء الإسلام لأنه تجرأ وتحدث في الطب! وكأن أصل الأمور أن من حق رجال الدين الحديث في الطب من دون الأطباء! الأعجب من ذلك أن يحدث هذا في مصر عام 2019 تحت حكم رئيس تحدث مرارا وتكرارا عن ضرورة إصلاح الخطاب الديني.
فلو كان مجرد مقال هادئ ورصين لا يحتوي على أي شكل من أشكال الإهانة لأي أحد، من كاتب مرموق وإعلامي معروف، سببا كافيا لأن يضع صاحبه تحت المساءلة القانونية، وأن يجعله عرضة للمحاكم والتحقيق، فهذا يطرح سؤلا حول جدية الدولة المصرية ومؤسساتها في مسألة تجديد الخطاب الديني؟ أم أن سياسات الدولة وتشريعات البرلمان في وادي وتصريحات الرئيس في هذا الشأن في واد آخر؟
فقضية الدكتور خالد منتصر ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة للأسف. فمن الواضح أن الأصوليون يستخدمون الوسيلة الأسهل لاستهداف المثقفين والمفكرين والكتاب وهي تهمة ازدراء الأديان، معتمدين على المادة "98و" من قانون العقوبات المصري.
فإسلام بحيري تم سجنه بهذه التهمة، وكذلك الشيخ محمد عبد الله نصر، وتم الحكم على الروائي كرم صابر بالحبس 5 سنوات، بسبب رواية "أين الله؟". أيضا قضت المحكمة بحبس الكاتبة فاطمة ناعوت 3 سنوات قبل أن يتم إلغاء الحكم في الاستئناف بسبب بوست على موقع فيسبوك.
الاتهامات والقضايا لم تقف عند المشاهير، بل امتدت أيضا إلى كتاب شباب. منهم مثلا كاتب شاب اسمه سليم صفي الدين يواجه حاليا نفس التهمة بسبب بعض الآراء التي دونها على فيسبوك. فقائمة ضحايا هذه المادة المعيبة، التي تخالف الدستور المصري الذي ينص على الحق في حرية الرأي والتعبير وحرية الاعتقاد، طويلة جدا.
وهذا ما يطرح سؤلا عما إذا كان هناك طريقة لتجديد الفكر الديني من دون نقاش مجتمعي عميق وواسع للمفاهيم الدينية السائدة؟ علما بأن هذا النقاش سيكون في الأغلب مزعجا لكثير ممن لم يعتادوا النظر إلى هذه الأمور من منظور نقدي. الإجابة ببساطة هي لا. فلو تم إجهاض وإخراس هذا النقاش الضروري والصعب، لاستحالت فكرة التجديد.
وبناء عليه فلو فرضنا أن هناك إرادة سياسية للقيام بهذا التجديد، فعلى من تعوّل الدولة القيام بهذه المهمة الصعبة؟ في حين أن المفكرين يعيشون تحت مقصلة قانون ازدراء الأديان. فلو دققت قليلا لوجدت أن كل هؤلاء المتهمين، على اختلاف آرائهم وأطروحاتهم، وسواء اتفقنا معهم أو اختلفنا، يشتركون في أمر واحد ألا وهو الاجتهاد في مسألة تجديد الفكر الديني.
ومن المفارقات اللافتة أنه في الوقت الذي يتعرض فيه منتصر لهذه الاتهامات يبدأ الشيخ عبد الله رشدي، الذي برر سبي النساء، برنامجا أسبوعيا على قناة المحور ويعود الشيخ ياسر برهامي، الذي اشتهر بخطابه الطائفي والذي حرم تهنئة المسيحيين بأعيادهم، للخطابة مرة أخرى.
ويبدو لي أن الفريق الثاني، الذي يدافع عن أولوية النقل على العقل، لديه حصانة من هذه الاتهامات، فاتهامات ازدراء الأديان تخص فقط من يحاولون إعمال عقولهم.
المؤسف أن البرلمان المصري وبدلا من أن يفكر في إلغاء هذا القانون حتى يطلق يد المثقفين للقيام بهذه المهمة الصعبة، فإنه يناقش حاليا قانونا جديدا، اسمه قانون "الإساءة للرموز التاريخية"، وهو يستحق مقالا منفصلا لمناقشته. ولكن في حالة مروره سيعقد الأمور أكثر وسيجعل حتى المناقشة الجادة لشخصيات تاريخية مثل أحمد عرابي أو صلاح الدين تهمة سالبة للحرية. وكأن هدف البرلمان هو تشريع مزيد من القوانين المقيدة للحريات.
إن هذه القوانين تهدف بشكل واضح لتجريم التفكير النقدي والتضييق على أصحاب الرأي والفكر. وسؤالي هنا للقائمين على الأمور في مصر هو: إلى متى يعيش المفكرون في ظل هذا الإرهاب الفكري والمعنوي، خصوصا وأن أي شخص يستطيع اتهام أي مثقف بهذه التهم المطاطة؟ وإلى متى يتحدث الرئيس عن تجديد الفكر الديني بينما تطارد وتحبس الدولة المثقفين؟.