محمد يسري:
يُعدّ التفسير بالمأثور، من أهم وأشهر أنواع وطرق تفسير النص القرآني عند المسلمين منذ القرون الأولى، إذ يعتمد هذا الطريق على الرجوع لأقوال الصحابة وكبار التابعين، والاستشهاد بمقالاتهم وآرائهم في فهم القرآن والتعرّف على مقاصده وأهدافه وأحكامه.
وعلى الرغم من أهمية واعتبارية هذا الطريق، إلا أن العديد من الروايات التي تُعرف باسم الإسرائيليات قد وجدت سبيلاً إليه، فغيرت من معالمه وبدلت من مضامينه، للدرجة التي حدت بها لتصير نصاً موازياً للنص القرآني نفسه، إذ أتاحت تلك الإسرائيليات الفرصة لانتشار الكثير من الروايات المخالفة للأسس العقائدية الإسلامية، داخل مجموعة من أهم المتون الحديثية والتفسيرية في تاريخ الإسلام.
ما هي الإسرائيليات؟
على الرغم من تواتر استخدام لفظ الإسرائيليات عند المؤرّخين القدامى والباحثين المحدثين، فأن هذا المصطلح لم يأخذ دلالة دقيقة ومحددة في أغلب الفترات التاريخية، إذ اختُلف كثيراً في مدلوله ومجال استخدامه وتوظيفه.
من أهم التعريفات التي وضعت لهذا المصطلح الفضفاض، ما ورد في كتاب "الإسرائيليات في التفسير والحديث"، فيعرف الشيخ الأزهري محمد حسين الذهبي، مصطلح الإسرائيليات بقوله "ولفظ الإسرائيليات -وإن كان يدل بظاهره على القصص الذي يروى أصلاً عن مصادر يهودية- يستعمله علماء التفسير والحديث ويطلقونه على ما هو أوسع وأشمل من القصص اليهودي، فهو في اصطلاحهم يدل على كل ما تطرق إلى التفسير والحديث من أساطير قديمة منسوبة في أصل روايتها إلى أصل يهودي أو نصراني أو غيرهما، بل توسع بعض المفسرين والمحدثين فعدوا من الإسرائيليات ما دسه أعداء الإسلام من اليهود وغيرهم على التفسير والحديث من أخبار لا أصل لها في مصدر قديم...".
ورغم الدلالة الواسعة للمصطلح، إلا أن أغلب العلماء المسلمين قد اتفقوا على تقسيم الروايات الإسرائيلية التي شاعت في الثقافة الإسلامية، إلى ثلاثة أقسام متمايزة، إذ يذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية"، أنها تقسم إلى "ما هو صحيح لموافقته ما قصه الله في كتابه أو أخبر به رسول الله، ومنها: ما هو معلوم البطلان لمخالفته كتاب الله وسنة رسوله، ومنها: ما يحتمل الصدق والكذب، فهذا الذي أمرنا بالتوقف فيه، فلا نصدقه ولا نكذبه...".
لماذا أخذ المسلمون بالإسرائيليات؟
يُثار هنا السؤال حول السبب الذي دعا العلماء والفقهاء المسلمين، للأخذ بالروايات التوراتية أو التلمودية، والاحتكام إليها والرجوع لها في الكثير من المواضع التفسيرية لآيات القرآن الكريم.
من الممكن الإجابة على هذا السؤال، بمراجعة الفترة المبكرة من الدعوة المحمدية، إذ أن الكثير من المصادر الإسلامية تتضافر مع بعضها البعض للإشارة إلى أن الإسلام في سنواته الأولى، وخصوصاً في الحقبة المكية والسنوات الثلاث الأولى من الحقبة المدنية، قد قدم نفسه على أنه امتداد روحي وتشريعي للوحي الموسوي، كما نُظر في تلك الفترة لليهود بأنهم أهل الكتاب، أصحاب العلم والمعرفة الحقة بالسماء، والأمة التي اختارها الله من بين جميع الأمم لتلقي شرائعه وأوامره واتباع أنبيائه ورسله، بعكس باقي القبائل العربية الساكنة في شبه الجزيرة العربية، والتي كانت بعيدة كل البعد عن التوحيد ومعرفة الله الواحد.
وعلى الرغم من أن هذا التوجه قد تغير بعد ذلك شيئاً فشيئاً مع مرور الوقت، بعدما وقع الخلاف بين دولة المسلمين الناشئة في المدينة من جهة، وقبائل اليهود المعادية، من أمثال قبائل بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة من جهة أخرى، وهو التغير الذي ظهرت آثاره في الصدام العسكري، وتغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، فضلاً عن الخطاب القرآني، الذي انتقد اليهود مراراً، وحرص على نسبة المسلمين للنبي إبراهيم نفسه، كما أكد في الوقت ذاته على أن "أبا الأنبياء" لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، ولكنه كان "حنيفياً مسلماً" بحسب ما وصف في سورة آل عمران، إلا أن الاعتقاد الإسلامي العام قد ظل متفقاً على أعلمية أحبار اليهود، وعلى امتلاكهم لنوعٍ خاص من العلوم الدينية المتوارثة، التي تناقلوها جيلاً بعد جيل.
حدا ذلك بجماعة المسلمين للترحيب بالمؤمنين الجدد من ذوي الأصول اليهودية، حيث فتحوا الباب أمامهم للرواية والتحديث، ونشر علومهم بين عامة المسلمين، وذلك في محاولةٍ لتأصيل الأخبار الإسلامية، وربطها بالجذور الكتابية الضاربة في أعماق التاريخ، وهو ما ظهر بشكل واضح في الاقبال على روايات كل من كعب الأحبار ووهب بن منبه وتميم الداري وعبد الله بن سلام، والتي تلقفها منهم مجموعة كبيرة من الصحابة، من أمثال عبد الله بن العباس، أبي هريرة، عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي الدرداء.
ومن المؤرخين المسلمين الذين التفتوا إلى ذلك، عبد الرحمن بن خلدون، الذي فسر في مقدمته سبب شيوع الروايات الإسرائيلية في التفاسير الإسلامية بقوله "والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنها أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى".
هل خُلق آدم على صورة الله؟
من أشهر المقولات اليهودية الشائعة التي دخلت إلى حيز الآثار والروايات الإسلامية المتواترة، ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن الرسول قد قال "إن الله خلق آدم على صورته"، وهو القول الذي يكاد يتطابق مع ما ورد في الإصحاح الأول من سفر التكوين "فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ".
ورغم أن هذا الحديث قد ورد في أهم المدونات الحديثية الإسلامية وأكثرها موثوقية واعتبار، إلا أن الكثير من العلماء والفقهاء المسلمين قد عملوا على تأويله وفهمه بطريقةٍ غير حرفية، وذلك لمعارضته مجموعة من الآيات القرآنية التي تؤكد على تنزيه الله تعالى، وعدم مشابهته لأي من خلقه، ومن ذلك ما ورد في سورة الشورى "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".
من تلك المحاولات التأويلية، ما ذكره الإمام النووي في كتابه المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، عندما يقول "إن الضمير في صورته عائد إلى آدم، وأن المراد أنه خلق في أول نشأته على صورته التي كان عليها في الأرض وتوفي عليها...".
هل خُلقت حواء من ضلع أدم؟
من المسائل المعروفة التي توافقت فيها التفسيرات القرآنية المأثورة مع النص اليهودي، مسألة خلق حواء من ضلع أدم.
أصل ذلك القول، ورد في الإصحاح الثاني من سفر التكوين، إذ جاء فيه "فأوقع الرب الاله سباتاً على آدم فنام فاخذ واحدة من اضلاعه وملا مكانها لحماً، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم، فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي هذه تدعى امرأة لأنها من امرء أخذت، لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً".
وعلى الرغم من أن قصة خلق حواء قد وردت في القرآن الكريم بشكل مُجمل ومختصر، فيما ورد من سورة النساء "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً"، فأن معظم التفسيرات القرآنية قد آثرت أن تشرح تلك المسألة من خلال الاحتكام إلى النص التوراتي، فعلى سبيل المثال، يذكر ابن كثير في تفسيره في معرض شرحه للآية السابقة "... نفس واحدة، وهي آدم، عليه السلام (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) وهي حواء عليها السلام، خلقت من ضِلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه...".
التصديق بذلك التفسير التوراتي لخلق حواء، قدّم المرأة في صورة التابع المُهمش المنقاد للرجل، وقد أسهم هذا التصور كثيراً فيما بعد في ترسيخ النزعة الذكورية في المجتمعات الإسلامية، خصوصاً أن صياغة تلك التبعية قد اتخذت الشكل الديني الدوغمائي، رغم بعدها عن المبادئ القرآنية الحاكمة، والتي تعلن عن التكافؤ بين الذكر والأنثى في الكثير من الآيات.
هل كذب أبو الأنبياء خوفاً من جبار مصر؟
أيضا من القصص ذات الصبغة اليهودية الواضحة والتي دخلت إلى الثقافة الإسلامية الجمعية، قصة النبي إبراهيم وزوجته سارة مع الجبار، والتي يذكرها البخاري بتمامها في صحيحه بقوله:
"بينما إبراهيم عليه السلام ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبّار من الجبابرة، فقيل له: إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها فقال: من هذه؟ فقال له: أختي، فأتى سارة فقال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأُخذ، فقال: ادعي الله ولا أضرّك، فدعت الله فأُطلق، ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد، فقال: ادعي الله لي ولا أضُرّك، فدعت فأُطلق، فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، إنما أتيتموني بشيطان، فأَخدمها هاجر، فأتته -وهو يصلي-، فأومأ بيده: مهيا، قالت: ردّ الله كيد الكافر -أو الفاجر- في نحره، وأخدم هاجر".
تتشابه تلك القصة بشكلٍ شبه متطابق مع ما ورد في الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين، والذي يتحدّث عن علاقة النبي إبراهيم بفرعون مصر، عندما دخلها قادماً من بلاد الشام.
اعتماداً على الرؤية الاعتقادية الإسلامية العامة المُنَزِّهة لمقام النبوة، رفض الكثير من العلماء تصديق تلك الرواية، خصوصاً أن النص القرآني قد صرّح بصدق النبي إبراهيم بشكلٍ قاطعٍ لا لَبْس فيه، وذلك في الآية 41 سورة مريم، والتي ورد فيها "وأذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً".
من بين أشهر العلماء الذين رفضوا قبول تلك الرواية، فخر الدين الرازي، الذي علق عليها في تفسيره بقوله "نسبة الكذب إلى الراوي أولى من نسبته إلى الخليل عليه السلام"، ومن هنا فقد رفضها بشكل قاطع، بصرف النظر أن راويها هو الصحابي أبو هريرة، وهو صحابي جليل الشأن، عظيم القدر في التقييم السني الجمعي، كما أن الرازي لم يلتفت إلى أن تلك الرواية قد وردت في صحيح البخاري، وهو أصح المدونات الحديثية على الإطلاق عند السنة.
قصة نوح وسفينته: كيف منحت الإسرائيليات الغطاء الميثولوجي للذهنية الإسلامية
توسع ابن جرير الطبري في تفسيره المسمى "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، في الاستناد للروايات الإسرائيلية الشائعة في زمنه، إذ استعان بتلك الروايات كثيراً في معرض تفسيره لبعض الآيات القرآنية المتعلقة بقصص الأنبياء والرسل.
من أشهر النماذج على ذلك، ما أورده الطبري في تفسيره، في معرض شرحه للآية 38 من سورة هود "وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ".
ينقل الطبري عن عبد الله بن العباس، أن الحواريين قد طلبوا من المسيح أن يحيي لهم رجلاً كان شاهداً على السفينة والطوفان الذي وقع في زمن نبي الله نوح، فاستجاب المسيح لهم، وبعث لهم بحام بن نوح، فقام هذا الأخير ليحدثهم عن عجائب الطوفان والسفينة، وكان من أعجب ما ذكره لهم، أن الروث والأوساخ لما كثرت بالسفينة، فأن الله قد أوحى لنوح بأن يغمز ذنب الفيل، فوقع منها خنزير وخنزيرة، فتقدما إلى تلك الأرواث ليأكلاها.
أيضاً، تذكر الرواية أن الفئران لما قرضت أخشاب السفينة، فأن الله قد أوحى لنوح، بأن يضرب بين عيني الأسد، فخرج من منخاره قط وقطة، وذهبا لتعقب الفئران.
وفي السياق نفسه، تذكر الرواية أن نوح قد بعث بغرابٍ حتى يعرف إذا كانت الأرض قد جفت فلم يرجع، فبعث بحمامة، فرجعت إليه بورقة زيتون في منقارها وطين برجليها، فعرف نوح أن الطوفان قد انحسر.
الواضح في الرواية، أنها قد عملت على محاكاة السردية التوراتية في الكثير من المواضع من جهة، كما أنها قد استجابت للثقافة الإسلامية الشائعة من جهة أخرى.
فالاعتقاد بأن الله قد خلق الخنزير للتخلص من الأوساخ، قد لاقى توافقاً وانسجاماً مع الذهنية الإسلامية التي تكره أكل لحم الخنزير دون مبررات أو أسباب واضحة، كما أن الاعتقاد بأن الغراب نذير شؤم وأن الحمامة رمز للسلام والفرج، كان اعتقاداً شائعاً ومألوفاً في الثقافات القديمة، وظلَّ قائماً حتى اللحظة الراهنة.
تم الترحيب بالكثير من الإسرائيليات في الثقافة الإسلامية، لكونها قد قدمت الغطاء الميثولوجي لاعتقادات وذهنيات كانت قائمة بالفعل عند العرب والمسلمين من قبل، وإن احتاجت تلك المعتقدات للتأصيل الديني والإعجازي لتزداد قوة وتأثيراً وترسيخاً في العقل الجمعي.