لينا الجمّال:
لا يختلف اثنان حول المكانة التي أولاها الإسلام للرؤى الصالحة، والأمر منصوص عليه في عدد من الأحاديث النبوية.
منها ما يرويه ابن عباس، في سنن ابن ماجه: "كشف رسول الله الستارة في مرضه، والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تُرى له". أو كما ورد في صحيح البخاري: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة".
لقد تكرر لفظ "المبشرات" في الحديثين السابقين، ومن المفسرين من ربط بينه وبين لفظ "البُشرى" في الآية القرآنية، في سورة يونس: "لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ." وتكاد تجمع التفاسير- مع اختلاف مذاهب أصحابها، كالزجاج في معاني القرآن والبيضاوي في أنوار التنزيل- على أن البشرى في الدنيا هي الرؤيا الصالحة، وذلك استناداً إلى الحديثين السابقين، وإلى ما يُروى عن عبادة بن الصامت في جامع البيان للطبري، أنه سأل عن المقصود بالبشرى في الحياة الدنيا، فقال له النبي: "لقد سألتَني عن شيءٍ ما سألني عنه أحدٌ قبلك"، قال: "هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له".
إن هذه الآية ترد مراراً في مقدمات كتب التعبير ولعلها شكلت دافعاً للإقبال على المنامات وتعبيرها، وحفزت تأليف كتب التعبير بدءاً من القرن الثاني للهجرة. لكن الرؤيا الصالحة شيء، وعلم التعبير، أو علم تفسير المنامات، شيء آخر، فإلى أي آية أو حديث نبوي يُرد فضل علم التعبير؟ لعله من المفاجئ ألا نقع على آية واحدة أو حديث يتيم يذكر صراحة فضل علم التعبير. فكيف نفسر إذن الإقبال الكبير الذي شهدته الحضارة الإسلامية على التأليف في هذا العلم؟ بل كيف نفهم ارتباط أصحاب هذا العلم، وعلى رأسهم الإمام ابن سيرين، بالورع والتقوى والفتوح الرباني؟ وما الذي دفع ابن خلدون في مقدمته إلى اعتبار علم التعبير واحداً من العلوم الإسلامية؟ الجواب يكمن في السياق القرآني وما رافقه من مؤلفات التفاسير.
النبي يوسف ومناماته
إن النبي الذي شكلت الرؤى محور حياته، هو النبي يوسف، وقد اشتهر بمهارته في التعبير. وترد في سورة يوسف أربعة منامات، أوّلها رؤيا هذا النبي في صغره: "إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ".
فعرف والده النبي يعقوب أن الله سيبلغ يوسف من الحكمة ويصطفيه بالنبوة فخاف عليه من حسد إخوته وطلب منه ألا يخبرهم برؤياه، حسب الزمخشري في الكشاف. وفي موضعٍ آخر من السورة نفسها تتحقّق الرؤيا في قوله تعالى: "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً". من جهة أخرى، توسل النبي يوسف علمه في التعبير لدعوة المساجين إلى عبادة الله، بل كان تعبيره سبباً في إيمان بعضهم.
ويرد في السورة منامان لرجلين كانا معه في السجن، يقول تعالى في سورة يوسف: "وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"، فكان جواب النبي أن الأول، وهو الساقي، يسقي سيده الشراب بعد أن يخرج من السجن ويعود إلى ما كان عليه، وأما الثاني فيُصلب بعد ثلاثة أيام وتأكل الطير من رأسه، حسب البيضاوي في أنوار التنزيل.
ولم يكن التعبير وسيلة للدعوة إلى الله وحسب، بل سبيلاً لخروج يوسف من السجن أيضاً. إذ رأى ملك مصر في المنام "سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ". وبعد أن عجز الكهنة عن تعبير رؤياه، تمكّن يوسف من تعبيرها فأخرجه من السجن وولّاه.
التعبير وصلته بالنبوة والدعوة والنجاة
لعل القرآن لم يذكر شيئاً صراحة عن فضل علم التعبير، لكن السياق الذي ورد فيه الأخير جعله مرتبطاً بالنبوة والدعوة والنجاة. الأمر الذي كرّسه معظم المفسرين في تفسيرهم لقوله تعالى في سورة يوسف: "وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ"، فالمقصود بـ"تأويل الأحاديث" هو تعبير الرؤيا، حسب الزمخشري والبيضاوي، وقد نصت الآية السابقة على ارتباطه بالاجتباء أو الاصطفاء.
كل ما سبق جعل شخصية النبي يوسف مرتبطة بعلم التعبير وأهله. ولذلك نقرأ مثلاً عن أبي إسحاق الكرمانيّ، وهو أول من وضع كتاباً عن علم التعبير عند المسلمين ولكنه لم يصلنا، "أنه رأى يوسف الصديق عليه السلام في المنام فأعطاه قميصه فلبسه وجلس به، فتعلم ما فتح الله به عليه من تعبير الرؤيا"، حسب صحيح البخاري.
وبالانتقال إلى الأحاديث النبوية، نقرأ قول النبي، في سنن ابن ماجة: "الرؤيا على رجلٍ طائرٍ ما لم تُعبر، فإذا عُبرت وقعت". إن هذا الحديث لا يشيد بفضل التعبير لكنه يمنحه أهمية قصوى، ويدفع الرائي، بشكل غير مباشر، إلى أن يحسن اختيار معبّر لرؤياه. فالمنام يتحقق على نحو ما يُعبَّر، بل أكثر من ذلك، قد يؤدي تعبير رؤيا مختلقة أو كاذبة إلى وقوعها. وهذا ما حصل مع صاحبي النبي يوسف في السجن، إذ أنكرا أنهما رأيا شيئاً في الأصل، كما جاء في جامع البيان للطبري، لكن الأوان قد فات وذلك ما أشار إليه المفسرون في قوله تعالى: "قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ". أمّا القرطبي فيخالفهم قائلاً: إن من كذب في رؤياه ففسرها العابر له لا يلزمه حكمها، وإنما كان ذلك ليوسف لأنه نبي، ولعمر بن الخطاب لأنه كان محدِّثاً.
فقد روي أن رجلاً جاء إلى عمر فقال: إني رأيتُ كأني أعشبتُ ثم أجدبتُ ثم أعشبتُ ثم أجدبتُ، فقال له عمر: أنت رجل تؤمن ثم تكفر ثم تؤمن ثم تكفر ثم تموت كافراً، فقال الرجل: ما رأيتُ شيئاً، فقال له عمر: قد قُضي لك ما قُضي لصاحب يوسف"، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن.
خلاصة القول، إن فضل علم التعبير لا يذكر بصريح العبارة في الموروث الديني.
وإنما يرد إلى السياقات التي ورد فيها في كل من القرآن والحديث. وقد ساهمت التفاسير القرآنية في تشكيل المنزلة الرفيعة التي حظي بها التعبير والمعبرون في التاريخ الإسلامي. ولعله من الصعب الفصل الحاسم بين الرؤيا الصالحة وعلم التعبير، فأحياناً تستلزم الأولى الإحاطة بالثاني، لا سيما إن كان المنام رمزياً غير واضح أو مباشر. وأختم بحديث ورد في صحيح مسلم، عن سمرة بن جندب قال: كان النبي إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال: "هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟" فهل كان عليه الصلاة والسلام يروم معرفة هواجسهم المتمثلة في مناماتهم ليبني عليها في وعظه وإرشاده؟ أم كان يريد أن يعبرها لهم بنفسه لتقع على نحو ما يعبر