عَالَمُ السّلفيّات العربي - Articles
Latest Articles

عَالَمُ السّلفيّات العربي

عَالَمُ السّلفيّات العربي

محمد المحمود:

 

في عام 1919م عاد الرائد القدير/ طه حسين من بعثته في فرنسا إلى مصر؛ ليبدأ مسيرة التنوير الحق على صراط العقل المستقيم. ما سبق هذا التاريخ من محاولات تنويرية في مصر أو في لبنان أو سوريا، لم تكن أكثر من مقدمات/ تمهيد، أو جهود محدودة في دوائر صحفية نخبوية، لم تصنع ـ فيما بعد ـ إلا ما أَطلقَ عليه مؤرخو الفكر العربي مصطلح "الإصلاح الديني" الذي تواشج ـ بحكم الواقع الاستثنائي للأمة آنذاك، وبحكم منطق إنتاج الأفكار ـ مع هموم النهضة/ التنمية التي كانت هي التحدي الأهم ـ وربما الأوحد ـ لعَالَم عربي بدأ للتَّو رحلة التعرف على حقيقة تخلفه المرعب الذي كان "الاستعمار" من نتائجه، وليس هو من نتائج الاستعمار؛ كما يحلو للخطاب الضدّي (القوموي والإسلاموي) أن يؤكد دائما؛ ليرمي الآخرين بأعطابه التاريخية الراسخة التي ورثها عن أسلافه العظام!

مئة عام على التنوير (1919 ـ 2019)، ولا يزال العالم العربي ـ في مستوى وعيه الكلي ـ كما كان، أو لربما هوى إلى ما هو أسوأ بكثير مما كان عليه بداية القرن العشرين. ذلك أن الانبعاث التنويري الذي دشّنه المرحوم/ طه حسين بداية عشرينيات القرن الميلادي المنصرم، رافقه/ زَامَنه انبعاث سلفي أصولي عنيد. المهاجر السوري إلى مصر/ محمد رشيد رضا، أصدر مجلة "المنار" عام 1898 بروح إصلاحية تجنح للانفتاح نسبيا، ثم تحوّل ـ هو ومجلته ـ في عشرينيات القرن العشرين إلى مشروع سلفي مناضل، أعاد إلى السلفيات ثقتها بنفسها، قبل أن يعيد نشرها وتعميمها على أكثر من صعيد ثقافي.

وحتى نتعرّف على بعض أمْداءِ تأثير هذا الشيخ السلفي ومجلته، علينا أن نعرف أن الشاب/ حسن البنا هو أنجب تلاميذه، وأقربهم إليه، هذا الشاب الذي سيؤسس ـ كرد فعل على المسار التنويري الآخذ في الصعود ـ جماعة "الإخوان المسلمين" عام 1928، هذه الجماعة التي ستعمم الرؤى السلفية في كل الميادين الاجتماعية، وفي كل الحقول المعرفية، أي ستخرج بها من محدودية الاهتمام الخاص: العلمائي، أو التيّاري التحزّبي، أو الوعظي الضيق المحصور في الخطب والدروس الوعظية؛ لتكون مشروعا شموليا مُعمّما على أوسع نطاق.

يعدّ كثيرٌ من الباحثين رشيدَ رضا حلقة الوصل بين السلفيات التقليدية والسلفيات الأصولية الحركية، ولعل أقوى الدلائل على ذلك هي تلك العلاقة الوطيدة التي كانت تجمع بين مُروّج السلفية التقليدية الأكبر في مصر/ رشيد رضا من جهة، ومؤسس جماعة الإخوان/ حسن البنا من جهة ثانية.

ويتضح مستوى متانة هذه العلاقة عندما نعرف أن أسرة رشيد رضا لم تجد ـ بعد وفاته وتوقّف المنار ـ أفضل من حسن البنا ليقوم بعبء إصدار المنار من جديد، ويتولى مسؤولية تحريرها على ذات منهج مُؤسِّسِها. وهذا ما حدث فعلا، حيث صدرت أعداد منها برئاسة ورعاية حسن البنا؛ حتى توقفت نهائيا بإرادة سياسية تتجاوز طموح البنا وأسرة رشيد.

أيضا، الشيخ السلفي السوري المهاجر إلى مصر/ محب الدين الخطيب، يؤسس مع بعض رفقائه من السلفيين المصريين "جمعية الشبان المسلمين" لمواجهة المد التنويري الصاعد، والأخطر من ذلك أن يصدر المجلة السلفية الشهيرة "الفتح" التي ظهر عددها الأول 1926.

ومحب الدين الخطيب، وكسلفي متعصب جدا، هو أيضا أحد ملهمي حسن البنا، حيث كان دائم التردد عليه في مقر مجلته عندما كان طالبا في دار العلوم، بل لقد انتسب البنا رسميا لـ"جمعية الشبان المسلمين" التي كان الخطيب من أشهر مؤسسيها، قبل أن يؤسس جماعته الخاصة (الإخوان المسلمون) بعد ذلك بعامين. ومع تضخم جماعته وتسيدها المشهد الديني، لم ينقطع عن جماعته الأولى إلى آخر يوم في حياته، حيث اغتيل وهو خارج منها في فبراير عام 1949.

إذن، وبمجرد أن بدأ التنوير يبحث لنفسه عن مكان في الوعي العربي؛ بدأت الهجمة السلفية المضادة في الحال. رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، وجمعية الشبان المسلمين، وجماعة الإخوان المسلمين، ومجلة "المنار" ومجلة "الفتح"، كل هذا جرى في عشرينيات القرن العشرين، أي في العقد الثاني الذي أصدر فيه طه حسين كتابه "الشعر الجاهلي"، الكتاب الذي بناه على المنهج الديكارتي (وفق فهمه طبعا) عام 1926، فانبرت مجلة "الفتح" السلفية تتصدى له بالردود المتتالية، وكما اتخذت طه حسين خصما تنويريا لدودا، فعلت ذلك مع أحمد لطفي السيد، وسلامة موسى، وتوفيق الحكيم...إلخ رواد الحراك التنويري.

وعندما أصدر علي عبدالرازق كتابه المفصلي "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925 الذي ضرب به الوَهْم الأصولي (وَهْم المشروعية الدِيْنية لـ"الخلافة") من أساسه، كانت له السلفيات الناشئة بالمرصاد؛ حتى تعرّض بسببها لشتى أنواع الاضطهاد.

هكذا، بينما كان رُوّاد التنوير العربي يُجاهدون في سبيل التأسيس لـ"متغير ثقافي" من خلال الممارسات الثقافية الخالصة؛ كان السلفيون التقليديون يستعيدون مقولاتهم الثقافية البائسة، ويؤسسون لها، من خلال فاعلية ثقافية مدعومة بفعالية حركية موزعة على أكثر من تنظيم حركي. كان السلفيون أكثر حراكا على مستوى الواقع، وهذا جعل استثمارهم في الوعي الجماهيري ممكن، إضافة إلى أنهم يتكئون على ذاكرة تاريخية راسخة الجذور، وذات قابلية للانبعاث بأقل قدر من الاستثارة العاطفية التي تتعمد المفاصلة بين الأنا والآخر في تحديد مصادر التلقي الثقافي.

لقد أُجْهِضت مسيرة التنوير منذ بداياتها الأولى؛ لصالح وعي سلفي كسيح، سيتمدد حتى يلتهم كل شيء. اغتيال التنوير أو إجهاضه بدأ مبكرا، ففي أواخر الثلاثينيات الميلادية من القرن العشرين، كانت الطاولة الثقافية قد انقلبت على رؤوس التنويريين. بعد خمسة عشر عاما من النضال التنويري الفائق، يرجع رواد التنوير ليُغازِلوا الحراكَ السلفي الذي أصبح يحظى بجماهيرية واسعة في أوساط المتعلمين.

هكذا، يبدأ طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل...إلخ التأليف في الإسلاميات (على هامش السيرة، والعبقريات، حياة محمد...إلخ)، وفي الوقت نفسه ينزلون بسقفهم التنويري إلى الحد الأدنى؛ بدل أن يأخذ في الصعود ـ كما هو منطق المسار في هويته الأصلة ـ ليبدد أوهام التراث، وخرافة المجد الحضاري التليد.

تكتمل دورة البؤس في الانقلاب على التنوير في مساراته ومخرجاته؛ عندما تأتي الانقلابات العسكرية لتتولى إدارة كل شيء في مراكز التحضّر العربي. لا تَتَبنّى هذه الانقلابات العسكرية أشد أنواع الديكتاتوريات شمولية فحسب، وإنما تتبنى أيضا أردأ أنواع الأيديولوجيات الشمولية، وبصورة مشوهة مبتسرة، لتنتهي بهزائم ساحقة على جبهات المواجهة العسكرية التاريخية (إسرائيل)، هزائم لا يماثلها مَحْقا وَعَارا ودمارا إلا هزائمها في الداخل على مستوى التنمية، وعجزها المزمن عن انتشال الإنسان/ مواطنها من براثن التخلف المُروّع الذي يتجلى في صوره المتعينة في الواقع: الفقر والمرض والجهل والفوضى وضياع كرامة الإنسان.

الانقلابات العسكرية التي لم تُخلِّف إلا الدمار على مستوى الواقع؛ أسهمت ـ وبقوة ـ في تجريف الوعي؛ ليكون بعد ذلك أرضا خصبة تضع فيه السلفيات المتوثبة بذورها التي ستصبح أشجارا باسقة تلقي بحصادها المُرِّ القاتل في مدى لا يتجاوز ثلاثين عاما.

سيغدو العالم العربي عالما سلفيا، أو عالما يعج بالسلفيات من كل نوع، وسيصبح الاحتماء الغبي بالتاريخ/ بالماضي/ بالهويات الماقبل مدنية، هو وسيلة البقاء ـ كما هو وسيلة الصمود النفسي ـ لكل هذه الملايين التي لم تعرف بعدُ طريقها إلى التنوير؛ رغم مرور مئة عام على تدشين البدايات الأولى للتنوير العربي.

قرن كامل من التنوير، ولكن المحصلة النهائية مجرد سلفيات تتطاحن/ تتصارع على فتات الأوهام. التَّسلّف يُلْقي بظلاله على كل شيء، على كل مفردات الحضور الاجتماعي. وإذا كانت السلفيات السنية هي الوجه المعلن للتخلف الصريح، وللعنف الصريح، وللمواجهة الأكبر مع التنوير، فإن السلفيات الشيعية بدأت تأخذ نصيبها في هذا المجال منذ أربعة عقود، أو أكثر، وأصبحت تؤدي دورها في توطيد السلفيات العُصْبَوية وتجريم التنوير بكل براعة. وما يجري في العراق ليس أكثر من تناحر سلفي، حيث السلفيات تتسابق لتعزيز حضورها بمنطق اليقينيات السلفية التي هي في النهاية ليست أكثر من أوهام.

قطع الطريق على خطاب التنوير، ومنع مؤثراته من التمدد داخل كل الخطابات الثقافية/ الدينية المؤثرة في المنطقة، جعل من كل حالة ثقافية (بالمعنى الأوسع للثقافة) حالة سلفية بامتياز. لم ينج حتى المسيحيون العرب من تسلّف الوعي، إذ تجدهم قد وقفوا عند حدود كونهم مسيحيين سلفيين، فلم يلامس التنوير منطق تصورهم الديني، خاصة في مستوى حضور الدين في المجال الاجتماعي.

لاحظ كيف تتجلى هذه السلفية المسيحية عندما يُغيّر قبطي دينه أو تُغيّر قبطية دينها وتتزوج من خارج نطاقها الديني، حينذاك؛ تفزع وتغضب كل مكونات العصبة الدينية القبطية؛ كما تفعل السلفية الدينية الإسلامية تماما، بذات المنطق التبريري العقدي، وبذات الإجراء السلوكي.

مَنْ يُصدّق أن لبنان، البلد الذي كان من المفترض أن يكون ساحة/ واحة تنوير؛ من حيث هو الأقدم في تواصله مع تراث التنوير الأوروبي منذ منتصف القرن التاسع عشر، هو البلد الذي يتمفصل نظامه السياسي على مُحَاصصة طائفية يجري التأكيد عليها باستمرار. أي أن البلد الأكثر استنارة ـ قياسا ببقية أقطار العالم العربي ـ هو ذاته البلد الذي تتشكل هوياته الاجتماعية، ومن ثم نظامه السياسي، على أساس تصورات طائفية محكومة بوعي سلفي موروث، لم تستطع الرؤى التنويرية أن تخترقه، ولا أن تُجْرِي متغيرات نوعية على مساراته الأساسية، بحيث تنقله من منطقه المأزوم بالتراثي/ بالسلفي إلى سياق حداثي/ مدني يقطع مع المنطق الطائفي بالكلية؛ ليكون نموذجا لسائر أقطار العالم العربي.

الحرة

 

Related

Share

Rating

0 ( 0 reviews)

Post a Comment

Category
Author
More Options
  • Recent
  • Popular
  • Tag
Tags