انتفاضات عام 2019 في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مشابهة للربيع العربي عام 2011. لكن الاختلاف الأكبر بينهما هو أن الاهتمام الغربي بها قد تراجع. تحليل يانيس هاغمان لموقع قنطرة.
أحداث كثيرة وقعت عام 2019: العملية العسكرية التركية في سوريا، وإجراءات عزل ترامب، وربيع عربي، وغريتا تونبِرغ في نيويورك [الفتاة السويدية الناشطة ضد الاحتباس الحراري]...، لكن لحظة: عن أي ربيع نتحدث؟ ألم يحصل ذلك قبل سنوات، عندما انتفضت شعوب تونس ومصر ودول أخرى وأطاحت بحكامها الذين حكموها فترة طويلة؟ ألا نتذكر أننا في ألمانيا لم نكن نملّ من الأخبار الواردة من ميدان التحرير ومن المظاهرات الحاشدة في دمشق وطرابلس وتونس؟
قبل تسع سنوات، في ديسمبر / كانون الأول عام 2010، انطلقت في تونس شرارة الربيع العربي. وفي ظرف أسابيع قليلة، كانت الانتفاضات الشعبية قد انتشرت إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأكمله. "الشعب يريد إسقاط النظام": هذه كانت الهتافات التي ترددت من الحناجر الغاضبة على حكامها المستبدين. عدد من حكام تلك الدول تنحى. لكن ما لبثت خيبة الأمل أن استبدلت حماسة كثير من المراقبين.
لكن ما حصل في المنطقة عام 2019 كان أقرب إلى تلك التقلبات التاريخية. بيد أن الفرق الأكبر بينهما هو أن اهتمامنا [في الغرب] بتلك التقلبات انحسر. لم نعد متحمسين أو متضامنين حتى مع المتظاهرين الذين عادوا إلى ميادين بغداد وبيروت والجزائر والخرطوم: أولئك الذين يواجهون الغاز المسيل للدموع والبلطجية والأعيرة الحية أيضاً.
علامة سياسية فارقة
عندما أجبر المتظاهرون العراقيون رئيس الحكومة علي عبد المهدي على الاستقالة صنعوا بذلك التاريخ. باستثناء وحيد فقط قادت كل الاحتجاجات الشعبية في الجمهوريات العربية خلال العقد المنصرم إلى الإطاحة بالرئيس أو برئيس الوزراء (فيما بقيت الممالك العربية غير متأثرة بحركات الاحتجاج). هذا الاستثناء كان سوريا، الذي تمكن نظام الأسد فيها فقط من خلال الغاز السام والمرتزقة الأجانب والدعم العسكري الهائل من قِبَل الطيران الروسي من التشبُّث بالسلطة.
استقالة عبد المهدي جاءت بعد شهر واحد من استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري. في لبنان نزل الناس إلى الشوارع منذ أكتوبر / تشرين الأول 2019 للمطالبة بتنحي المشهد السياسي بأكمله بما في ذلك ما تمخض عن ذلك المشهد من تيارات طائفية وفساد. أمر صغير فقط هو ما حوّل الاحتقان في غضون ساعات إلى غضب وانتفاضة في الشوارع: الإعلان عن ضريبة على محادثات تطبيق "واتساب"، وهي ضريبة تمس شريحة الفقراء في لبنان أكثر من غيرها.
أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية سيئة أيضاً قادت إلى احتجاجات الجزائر والسودان. حركة الاحتجاج السودانية بدأت بمظاهرات ضد ارتفاع أسعار الوقود والخبز، ومن بعدها اتجهت للإطاحة بنظام عمر البشير، الذي حكم البلاد نحو 30 عاماً.
أما في الجزائر، فقد كان الإعلان الفجّ لقيادة الدولة عن ترشيح عبد العزيز بوتفليقة، الذي تربع على عرش السلطة لمدة 20 عاماً، لفترة رئاسية خامسة. لكن عندما استجاب الرئيس البالغ من العمر 82 عاماً في أبريل / نيسان 2019 لضغط الشارع، كاد لا يكون قادراً على تسليم طلب تنحيه وهو في كرسيه المتحرك.
النَفَس الطويل لحركات الاحتجاج
اليوم بات البشير وبوتفليقة جزءًا من الماضي. تفاؤل حذر يسود السودان، حيث اتفق الجيش مع المعارضة على تشكيل حكومة انتقالية ومن ثم الذهاب إلى انتخابات قبل عام 2022. في الجزائر اندلعت مظاهرات شعبية واسعة منتصف ديسمبر / كانون الأول 2019 مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وذلك بسبب كون المرشحين الخمسة جميعاً من كوادر النظام القديم. مدى إصرار المحتجين على مطالبهم سيتضح في الأسابيع القادمة، ولكن الفائز بالانتخابات، عبد المجيد تبون، تعرض لضغط شعبي كبير.
كانت محصلة عام 2019 هي إسقاط طاغيتين واستقالة رئيسي وزراء، بالإضافة إلى مظاهرات صغيرة في مصر والأردن. لكن مقارنة مع عام 2011، لم تحظَ هذه التطورات باهتمام إعلامي كبير. لم يتم الإعلان عن "ربيع" جديد، أو "ثورات عربية". بالطبع هذا متعلق بالتعود. لكن انحسار الاهتمام مرتبط بثلاثة عوامل لم تكن موجودة عام 2011.
أولاً، وقعت تقلبات عام 2019 في دول بعيدة عنا [نحن الغربيين] وتبدو غريبة بالنسبة لنا. متى كانت آخر إجازة لك في الجزائر؟! أو في السودان؟! كثير من الصحفيين العاملين في المنطقة الغربية تعلموا العربية على الأغلب في مصر، وزاروا تونس أو سوريا عدة مرات. لكن الجزائر؟ والسودان؟ لا. من سيهتم ببلد لم يزره من قبل ولا يعلم عنه إلا القليل؟ من ناحية سياسية أيضاً، لا توجد علاقات وطيدة بين السودان وألمانيا أو بين الجزائر وألمانيا. على عكسنا، فإن الأحداث في الجزائر تتصدر عناوين الصحف في فرنسا منذ أسابيع، بحكم تاريخ فرنسا الاستعماري في المنطقة.
ثانياً، هناك استكانة فيما يتعلق بالانتفاضات العربية. بعد ثورات عام 2011 جاءت الثورات المضادة عام 2013. في مصر أعادت المؤسسة العسكرية تأسيس نفسها في السلطة. أما اليمن وليبيا وسوريا، فقد غرقت في حروب أهلية. كما قام تنظيم "داعش" ببناء دولة إرهاب. لهذا، أشاح الكثير بوجوههم عن المنطقة.
النظرة الواقعية
بالرغم من ذلك، ربما يكون لهذه الاستكانة جانب إيجابي، فالحماسة الساذجة التي اكتسحت المراقبين عام 2011 أفسحت المجال أمام نظرة أكثر واقعية. ألم نكن ننظر إلى المتظاهرين في القاهرة أو دمشق آنذاك بنفس التعاطف على أنهم شباب يريدون أن يكونوا مثلنا في الغرب؟ هذا التحول أثبت أنه أصعب مما كان مأمولاً، أو على الأقل لم يكن كافياً لتحقيق تطلعاتنا.
ثم جاء عام 2015: عام "صيف اللاجئين"، الذي علّمنا بكل قسوة أن التغيير يؤدي إلى انعدام الاستقرار، وأن انعدام الاستقرار يمكن أن يصل إلينا في أوروبا. لم يكن اليمين التيار الوحيد الذي أدرك أن الثورات في المنطقة العربية أدت إلى تغير عميق في المجتمعات هناك، وأن هذا التغير جاء بأزمات سياسية طويلة الأمد على أعتاب القارة الأوروبية. لقد حلّ الشوق للهدوء والنظام محل الحماس للثورات.
ثالثاً وأخيراً، فقد ترك المشهد السياسي العالمي بصماته علينا، إذ بات أنانيون مهووسون لا يمكن توقعهم يشككون في الديمقراطية الغربية، ناهيك عن عدم حديثهم إلا نادراً عن "نشر الديمقراطية" لدى الآخرين. الرغبة في الإطاحة بالأنظمة لم تعد موجودة. من الصعب تصور سياسي ألماني يدعو إلى تدخل الجيش الألماني في أفغانستان بحجة تحرير النساء الأفغانيات وجلب الديمقراطية إلى كابول!
نداء إلى مستبدي العالم العربي
لم تكن الديمقراطية أولوية متدنية لدى أي رئيس أمريكي منذ عام 1945 كما هي الآن لدى دونالد ترامب. الحماس التبشيري العسكري الذي كان سائداً لدى المحافظين الجدد إبان إدارة جورج دبليو بوش انتهى مع تولي باراك أوباما المنصب عام 2009. لكن على الجانب الخطابي، بقي أوباما وفياً للتقليد الأمريكي بدعم جهود نشر الديمقراطية في العالم. تعاطفه مع كل من كانوا يناضلون من أجل الكرامة والحرية لم يكن محل شك. كلماته في القاهرة عام 2009 كانت تاريخية: "يجب المحافظة على السلطة من خلال الإجماع، لا الإكراه". لم يكن الحكام المستبدون العرب يدرون ما الذي سيجلبه لهم العقد الزمني الذي أعقب تحذير أوباما هذا.
ترامب ليس قادراً على التعامل مع دور أمريكا كداعمة للحرية والديمقراطية في العالم. فقد أوضح بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يقف مع الجماهير المحتجة. "دكتاتوري المفضل": هكذا وصف ترامب الحاكم العسكري المصري عبد الفتاح السيسي – ذلك الرجل، الذي قضى على الأمل في التغيير في قلب الربيع العربي وأجهض مشروع الديمقراطية الناشئ على ضفاف النيل. ربما يكون ترامب أكثر صراحة من بوش وأوباما، ولكنه لا يخفي رأيه في أن أفضل خيارات الشرق الأوسط بالنسبة له هو في الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية مستقرة.
حرمان من الحقوق الأساسية
قرار مستقبل المنطقة سيكون في نهاية الأمر في شوارع الجزائر والقاهرة أو بغداد. العقد الزمني الماضي أظهر أنه لا يمكن لجم القوى المطالبة بالتغيير في مجتمعات الشرق الأوسط المحافظة وبتغيير أنظمته السياسية المتهالكة، التي لم يتغير فيها شيء بعد. أربعة في المائة فقط من سكان المنطقة يعيشون في دول مصنفة ضمن "مؤشر الحرية"، الذي تصدره مؤسسة "فريدم هاوس" الأمريكية، على أنها "حرة" (إسرائيل وتونس). الغالبية العظمى ما تزال محرومة من حقوقها الأساسية.
هناك، إذاً، أسباب كافية للتظاهر. لكنْ: ما إذا كانت الاحتجاجات ستقود على المدى الطويل إلى تحول ديمقراطي، أو ما إذا كان النظام السلطوي سيتغير بضغط من الشارع، قد يتضح في العام التالي أو الذي يعقبه.
لكن الثابت هو أنه: في حين أن العقد الأول من الألفية الثانية سيدخل التاريخ على أنه "عقد الحرب على الإرهاب"، فإن العقد الثاني في المنطقة العربية أطلق شرارة عملية ستدوم عقوداً على ما يبدو، ولن تسير على طريق مستقيم – كما اتضح في مصر – ولن تثمر دوماً عن النتائج المرجوة منها. لهذا يستحق أولئك الشجعان في الشرق الأوسط، الذين ليسوا مستعدين بعد للتخلي عن حلمهم بحياة حرة وكريمة، دعمنا وقليلاً من الصبر.
يانيس هاغمان
ترجمة: ياسر أبو معيلق
حقوق النشر: موقع قنطرة