منى أبوسنة:
بعد مضى نحو نصف قرن من الزمان، وتحديداً منذ مطلع السبعينيات من القرن العشرين، على ارتداء نساء مصر، وباقي الدول العربية والإسلامية، ما يُعرف بالحجاب أو بالزي الإسلامى، يمكننا أن نطلق لفظ «الظاهرة» على تلك الحالة التي تحددت زمانياً ومكانياً واستقرت لفترة طويلة من الزمان. وفي تقديري أن ذلك يستلزم فهم وتحليل تلك الظاهرة، ليس من زاوية دينية كما هو شائع، ولكن من زاوية الربط بين التجسيد المادي لتلك الظاهرة في لباس معين من جهة، ومدى تأثير ذلك المظهر على هوية المرأة، مصرياً وعربياً، من جهة أخرى.
ونبدأ بإثارة السؤال الآتي: ما المقصود بهوية الحجاب؟ ونجيب عن السؤال بسؤال: أليس الحجاب جزءا من الملبس؟
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نتحدث عن الجزء ونترك الكل؟ ألم يكن من الأفضل إذن أن يكون عنوان هذا المقال هوية الملبس؟
للإجابة عن هذه الأسئلة المتدافعة، علينا في البداية تحديد لفظ «هوية»، وهذا اللفظ- لغةً- مشتق من لفظ الـ«هو هو» ويراد به ما يبقى ثابتاً ودائماً بالرغم مما يطرأ عليه من تغيرات، أما اصطلاحاً، أو بالأدق فلسفياً، فقد تعامل الفلاسفة على مدى تاريخ الفلسفة مع الهوية بطرق شتى تتراوح ما بين الثبات والتطور. وأنا هنا أنتقي تعريف الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر للهوية، فقد فطن إلى أن الهوية، كظاهرة إنسانية، مرتبطة بالوعى، وأن الوعي بطبيعته ينزع دائمًا نحو المستقبل وبالتالي فهو، أي الوعي، يتنصل دائما من الماضي. ومعنى ذلك أن الوعي يجاوز ذاته، ومن هذه الزاوية يمكن القول إن هوية الإنسان متطورة، وبالتالي فثباتها ودوامها مسألة نسبية وليست مطلقة، ينطبق هذا القول على الرجل كما ينطبق على المرأة.
وما يهمنا فى هذا المقال هو هوية المرأة وتطورها، والسؤال إذن: تطورها إلى أين؟
والذي يدفعني إلى هذا التساؤل هو ظاهرة الحجاب وذيوعها إلى حد إحساس المرأة بالأزمة إذا لم تكن محجبة، وذلك بحكم ذيوع الحجاب إلى الحد الذى فيه أصبحت القيادة في هذا الذيوع للفنانات المحجبات، وهو ما لم يكن واردًا حتى بداية السبعينيات من القرن الماضي.
والسؤال إذن: لم يكن حجاب المرأة المصرية موجوداً قبل ذلك؟ كانت هوية الإنسان المصري، رجلاً أو امرأة، تتحدد بوجوده الاجتماعي وليس بعقيدته الدينية، وتتجسد في دوره الاجتماعي، واستناداً إلى القسمة الثنائية في الأدوار الاجتماعية بين الرجل والمرأة، كانت هوية الرجل تتحدد بدوره خارج البيت وتتمثل في مهنته، أما المرأة فكان وجودها الاجتماعي يتحدد بدورها كزوجة وأم أولاً، ثم بمهنتها ثانياً إن وُجدت، ولا أدل على ذلك من أن المرأة كانت تُعرف بأنها أم فلان ولا تُعرف باسمها. أما في الطبقة المتوسطة فكانت هويتها تتحدد باعتبارها «حرم فلان» أو «مدام فلان»، أما فى أوساط الشباب فكانت الهوية تتحدد بالرؤية المستقبلية لكل من الفتى والفتاة للدور الاجتماعي الذى ينشده بعد التخرج في الجامعة والانخراط فى العمل والزواج.
ما الذي حدث بعد ذلك؟ وكيف تغيرت الهوية؟ لم يكن الإيمان الديني غائباً عن الهوية المصرية، بل كان كامناً في الهوية ويمارس كعبادات وكنسق قيمي ومعاملات، لكن الصدارة كانت للهوية كما يحددها الوجود الاجتماعي والدور الاجتماعي للإنسان.
ومع بزوغ التيار الأصولي الإسلامي الذي يستند إلى التأويل الوهابي للإسلام حدثت نقلة كيفية في الهوية المصرية. وتأسيسًا على هذا التأويل الوهابي ثمة أمران: الأمر الأول أنه لا يتم التعامل مع الإسلام كمجرد نظام عقائدي، إذ يُنظر إليه على أنه نظام هوية. ولهذا السبب ترى مي غضوب فى كتابها «المرأة العربية وذكورية الإسلام» أن الإسلام في العالم العربي أقرب العقائد تعبيراً عن الهويات الوطنية أو القومية قبل أن تظهر الأمم والقوميات «دار الساقى، بيروت، 1991، ص 7»، والأمر الثاني أن المؤمن هو بمثابة مواطن في أمة الإسلام المفترضة، حيث لا تكفي الشهادة لله ونبيه سبيلاً للانتساب إلى الجماعة، بل من الضروري للمؤمن أن يدافع عن مؤسسات الدولة وعادات المجتمع الذي تساويه دولة الإسلام «المرجع السابق ص 8».
وهكذا تتسم الهوية الإسلامية الوهابية بالتطابق المطلق بين هذا التصور عن الهوية وأسلوب الحياة من جهة، وبخضوعها التام لمؤسسات المجتمع الوهابى التى تجسد هذا التصور عن الهوية، وقد أفرز هذا تراثاً ذا طبيعة شمولية قاهرة لإرادة الإنسان، حيث إنها تفرض عليه الخضوع المطلق للمؤسسات التى تنظم العلاقات بين البشر بدعوى أن هذا النظام الشمولي يعبر عن كمال الإنسان نظرياً وعملياً.
والسؤال: كيف انتقل هذا النظام الاجتماعي الوهابي إلى مصر ليجسد الهوية «الوهابية» للمرأة في المجتمع المصري الذي لا تحكمه مؤسسات دينية؟ وكيف انتزع من المرأة المصرية هويتها العلمانية وزرع محلها هوية وهابية تفرض ارتداء الحجاب على المرأة، ليس باعتباره محاكاة لزي ملازم لطبيعة البيئة الثقافية التي نشأ فيها التيار الإسلامي الوهابي، ولكن على أنه فريضة إلهية؟
إن القضية الحقيقية هى تغيير الهوية، وليس ما إذا كان الحجاب فريضة أم لا، ذلك أن تغيير هوية المرأة من مصرية علمانية إلى وهابية يجعل الحجاب مجرد تحصيل حاصل.
والسؤال الأهم بعد ذلك: ما الذي دفع المرأة المصرية إلى الاستسلام لتغيير هويتها بلا مقاومة؟
أظن أن ثمة نسقاً من القيم قد دفع المرأة إلى هذا الاستسلام، وهو نسق يدور على الاعتماد المطلق للمرأة على الرجل، ومن ثم أصبحت هوية المرأة مستمدة من نظرة الرجل إليها، أى أن هويتها الأنثوية تحددت برؤية ذكورية، وترتب على هذه الرؤية أن الرجل محور وجود المرأة تدور عليه من غير مجاوزة. وهذا يعنى قبول سلطة الرجل كأساس لوجود المرأة فى المجتمع ولعلاقتها بالرجل، وقد أفلحت الوهابية فى إقناع الرجل المصرى بمبادئها الخاصة بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وعندما اقتنع الرجل بضرورة الحجاب كهوية للمرأة خلق النسق اللازم وقام الدعاة بهذه المهمة المزدوجة: إقناع الرجل والمرأة معاً. ويبقى السؤال: هل فى الإمكان تغيير هوية الحجاب؟